هناك مواقف تجعل الإنسان يعيد النظر بجدوى ما بذله من جهد في التعليم وفي (القراية)! هذا الصباح ذهبت إلى ورشة لصيانة زجاج السيارات لأرقع موضع حصاة طائرة ضربت الزجاج الأمامي. استغرق العمل من العامل الذي تكفل بذلك خمس دقائق فقط. كل ما قام به هو وضع شريحة شفافة في مكان الضربة وتسليط نار من ولاعة. كانت أجرته سبعين ريالا سعوديا. قارنت ذلك بعمل أنجزته في مشوار قبل حكاية زجاج السيارة. مررت على مكتبة في جدة تركت عندها نسخا من كتاب لي خمس سنوات. وجدت نسبة المبيع ٢٥%، ونصيبي منها خمسة وأربعون ريالا. انظر ما أنفقته من جهد ذهني في تأليف الكتاب ثم الجهد البدني في السياقة مائة وستين كيلو متر، والانتظار سنوات لتكون حصيلتي ريالات لم تبلغ مقدار ما أخذه عامل في ورشة خلال خمس دقائق. كدت أقتنع برأي شباب جامعيين في عطبرة سموا محلا لهم افتتحوه لبيع الشاي والزلابية (خسارة قرايتي). لكن مهلا، فالأمور لا تقاس هكذا… قراءتكم هي رأسمالكم الحقيقي في إنجاز كل الأعمال، وهي التي تؤهلكم لتكونوا رواد أعمال وتنجحوا في هندسة المشاريع والإبداع في العمل الحر. حدثنا البروفيسور محمد وقيع الله عن الدكتور سعد البراك مؤسس شركة زين أنه طالما يحذر الشباب من دخول عالم الوظيفة، وأن يحققوا النجاح الحقيقي في العمل الحر، وأن من يدخل مجال العمل الوظيفي بمثابة الذي يدخل نفسه في ثلاجة! رأيت في شارع بنيروبي شخصا يجلس وأمامه أدوات الشغل. كان مشغولا في تلك اللحظة بالقراءة في كتاب. أما مهنته كما دلت عليها عدة الشغل فهي مهنة الجزمجي. عرفت منه أنه خريج اقتصاد وأنه بدأ يكسب عيشه مؤقتا من تصليح الجزم، لكنه بعد أن حذق المهنة وأحبها يفكر في تطوير عمله بإنشاء مشروع لصناعة الأحذية والمنتجات الجلدية، وأن الكتاب الذي يقرأ فيه متخصص في هذا النوع من المشروعات. التعليم والقراءة طريق للمعرفة وتهذيب النفوس ولممارسة الحياة بطريقة أفضل وأجمل. ذكر المفكر النهضوي مالك بن نبي أنه اشتغل متطوعا في تعليم الجزائريين الأميين في باريس، ووصف التغيير الذي أصابه هؤلاء من تعليم رسخ فيهم ذوق الإبداع. يقول مالك: تعلموا الحساب ليعرفوا معنى الامتداد والفضاءات واتساعها. كانت المعرفة التي نالوها في أشهر قليلة كافية لتغيير ما في نفوس تلاميذه الذين رآهم أول مرة بهيئة وحشية في نظرات عيونهم وقسمات وجوههم. لقد تهذبت تلك النظرات واكتست طابعا إنسانيا تتجلى الفكرة من خلالها. ومع التقدم الذي أحرزه مع هؤلاء العمال البسيطين، ارتقت مهنتهم، وتحولت مقاهيهم القذرة ومطاعمهم الحقيرة إلى أماكن جاذبة. لم يكن غريبا أن كثيرا منهم صاروا قادة مجتمع عندما رجعوا إلى الجزائر. يا شباب عطبرة – الله يرضى عليكم – غيروا اسم المحل الذي فتحتموه لبيع الشاي ليكون (سماحة قرايتي). وكتبه عثمان أبوزيد