أول ما قرأت حديث وزير المالية في النظام الإنقلابي الدكتور جبريل إبراهيم الذي يتحدث فيه عن ثورة ديسمبر المجيدة والتي قال عنها : (إن الشارع تراجع بشكل كبير ومل الناس الخروج وتكشفت لهم أمور كثيرة) تذكرت ماقرأته في كتاب (العبودية المختارة) (مرافعة قوية ضد الطغيان) للكاتب والقاضي الفرنسي إتيان دو لابويسي الذي ، يتحدث في كتابة عن الخطر الكبير الذي لا يكمن في حكم الطغاة وإنما يكمن في بعض الشعوب التي تعيش (العبودية المختارة).
والتي يقول عنها الكاتب إن سر كل طغيان وحاكم طاغي إنما يكمن في إشراك فئة قليلة من الناس في اضطهاد سائرهم، وهكذا يرمي الطاغية بالفتات إلى زمرة المتملقين من اتباعه فلا يكتفي هؤلاء بما يغنمون منه ولا بدوام طاعتهم له بل إنهم يستبقون رغباته ويحدسون ما يريد قبل أن يفصح هو عنه.
وهؤلاء المتملقون المقربون إلى الطاغية يختارون العبودية طواعية، بينما يكون الشعب مكرهاً عليها، على هذا الأساس يقوم هرم الطغيان يخضع الطاغية خمساً من الأتباع، ويخضعون هؤلاء مئة غيرهم، والمئة تخضع الفاً، علماً أن هذا الهرم سرعان ما يتهدم من أن يكف المتملقون عن بذل أنفسهم قلباً وجسداً في سبيل الطاغية وعندئذٍ يفقد كل سلطة اكتسبها ويسقط عرشه.
وجبريل هنا لا يريد أن يُقلل من أثر وتأثير ثورة ديسمبر المجيدة لأنه لم ولن يستطيع، فالثورة هي من منحته منصباً يمارس منه كل شيء، نهب الأموال وإصدار قرارات المنح والإعفاءات الجمركية، ويوعد حركته بالكثير لأن المالية ليست آخر همه، فالرجل قال بعضمة لسانه إن هدفه حكم السودان ، فلولا ثورة ديسمبر المجيدة أين كان سيكون جبريل الآن!!، فالثورة جبلاً لن تهزه رياح جبريل العابرة ولا يلتفت بواسلها إلى مثل هذه الاستفزازات، فجبريل ليس رجل سلمية وسلام وثورة، حتى يعرف متى يهدأ الشارع ومتى يثور فكم مرة قال أعداء الثورة إن الثورة ماتت وباغتتهم من حيث لا يحتسبوا، لا يعرف جبريل ذلك لأنه رجل حرب الربح والخسارة عنده تبدأ وتنتهي ببداية وانتهاء المعركة ، عكس الثورات فهي لا تعرف النهايات إلا بالكسب والربح فقط.
فهو لم يقصد هذا لكنه أراد أن يرمي إلى ماهو ابعد من ذلك ، في محاولة لدعوة الشعب للاستسلام وقبول الأمر الواقع، والعيش في ظل العبودية المختارة، لذلك يعد جبريل واحداً من الخمسة الذين يخضعهم الطغيان في محاولة منه لإخضاع المئة ، الذين قال عنهم لابويسي إنهم يريدون أن يعيش الشعب وكأنه ولد مغلول العنق يتغذى وينشأ في العبودية من دون أن ينظر إلى أبعد من ذلك، يقنع بالعيش كما ولد ووجد نفسه ولا يخطر على باله أبداً أن يرى خيراً أو حقاً آخر غير ما وجد نفسه عليه، ويعتبر الوضع الذي ولد فيه شأناً طبيعاً، لا يستحق الثورة ولا التغيير.
فالثورة ما يعنيها من دعوة جبريل للعيش في العبودية المختارة هو ما جاء في ذات الكتاب أن كيف للشعوب أن تتحمل وطأة طاغية واحد، لا يملك من القوة إلا ما أعطوه، ولا قدرة له على أذيتهم إلا بقدر ما أرادوا أن يتحملوا منه، ولا يستطيع أن يوقع بهم مكروهًا، إلا لأنهم يفضلون أن يعانوا منه الأمرّين على أن يعارضوه. أن هذا الطاغية ما من حاجة إلى محاربته وهزيمته؛ فهو مهزوم من تلقاء ذاته، إن لم ترض البلاد باستعباده لها، كما لا يتعيّن انتزاع شيئًا منه، بل يكفي الامتناع من إعطائه أي شيء.
فالشعب يدرك هذه الحقيقة لهذا سيخرج لينتزع كل شيء منحه للعسكريين والانقلابيين وقادة الحركات المسلحة، لأن كل الذي يتمتع به هؤلاء الآن من جاه وسلطة ومال حصلوا عليه بأمر الثورة، فهم لا يملكون من القوة إلا ما اعطاها لهم الشارع، قد يرتضي جبريل ومن معه العيش هكذا ولكن الشعب لن يقبل بهذه العبودية المختارة .
طيف أخير:
لاتسألني من أنا
و ما الذي افعله في هذا الزمان
أنا التي هزمت ألف دولة ودولة لأقيم دولة الإنسان
أنا الثورة
الجريدة