كان وردي حاضراً معنا ونحن أطفالاً في مدرسة الدلنج الريفية عام 1967 ( في جنوب كردفان) وأذكر تماماً حينما كان يرقص جميع الأطفال وأغلبهم من النوبة الصغار (وجميعهم دون الخامسة عشر).
كانوا يرقصون في أعياد إستقلال السودان على صوت الميكروفون وهو يردد رائعة وردي: اليوم نرفع راية استقلالنا… وكان بعضنا يببكي بحرقة ونردد مع صوته: كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية .. وكل منا في تلك الأثناء يتذكر جده لأمه أو لأبيه ممن ماتوا في تلك المعركة بجوار النهر الذي أضحى قانياً في ذلك الصباح من 2 سبتمبر 1899. كان الإحساس كما يقول لي الراحل عليو محمد الباشا (من أبناء الحوازمة دار شلنقو) وكنا في الحادية عشرة من أعمارنا: “إن الله مد في العمر السودان ده لازم نبني.. السودان دا بلد زين… السودان ده بلد سمح بلحيل”.. مات عليو وعمره 35 عاماً، وهو ممسك بزناد رشاشه في حروب أهلية ما تخمد إلا لتشتعل في الوطن الكبير والصغير … مات عليو وهو عاشق للسودان ولوردي. ومن أؤلئك الأطفال أيضاً كان عبدالعزيز آدم الحلو بهدوئه المعهود الذي يتجاوز عمره و بذكائه الوقاد.
في راكوبة المهيدي الكبيرة في قريتنا الحاجز بجنوب كردفان، استمعنا إلي وردي ونحن أطفالاً قبل أكثر من خمسين عاماً وهو يردد في المساء رائعته: القمر بوبا عليك تقيل ونحن جلوس القرفصاء حول القدح الكبير (عصيدة الدخن بملاح الروب وزيت السمسم) .. وعندما يذهب أحدنا فجأة لإحضار المزيد من الملاح نجد النساء في البيت (بيت النسوان) وهن يرقصن على ضوء المسرجة على أنغام القمر بوبا بملابسهن المتسخة (من عمل البيت الشاق وإعداد الطعام والزراعة)…
لقد كان غناء وردي يمثل البرنامج (الإذاعي والتلفزيوني) الوحيد الذي يجمع وجدانيات وطن تقسم على أكثر من 600 قبيلة. كان على بعد كيلومتر واحد من قريتنا وعلى تل عالٍ تقع قرية الدينكا الذين يعملون عمالاً زراعيين في مزارع أهل القرية وجلهم من شمال بحر الغزال. كان للدينكا في تلك القرية شيخ يسمى شيخ كوال وهو يمثل حلقة الوصل بين أهل الحاجز وأهل قريته وكذلك مع السلطات المحلية. كانت تربطنا علاقة صداقة مع شيخ كوال وأسرته.
كان شيخ كوال يحضر من منزله البعيد بمجرد سماع صوت وردي في المذياع في أمسيات الخريف الهادئة، وكان عادة ما يحضر في هدوء ويجلس بهدوء أيضاً (جاراً عكازته) ولا ينبس ببنت شفة: وعند إنتهاء الأغنية دائماً يردد “ينصر دينك يا مهمد وردي… ياجماعة والله كان جبتو لينا كباية شاي بكون كويس….”. كان شيخ كوال كمن قد حدث له جفاف من شدة التوتر وشد الأعصاب وتداخل الأحاسيس من الإستماع لمحمد وردي. لقد عبر شيخ كوال النهر (بحر العرب) وإتجه جنوباً في حين توجهت روح وردي صوب السماء لملاقاة ربه.. لقد إنفصلا: كلٍ ذهب إلى سبيله .. وأضحى السودان بلا كوال .. وبلا وردي… وبلا بصيرة.