قابلتُ د. جبريل إبراهيم للمرة الأولى في اجتماع لقوى نداء السودان خارج السودان قبل أكثر من عامين من اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة.. والحق أني وجدتُ فيه إنساناً مهذباً ومجادِلاً بالتي هي أحسن في القضايا الخلافية.
في ذلك الوقت، وقبله، كان شباب حزب المؤتمر السوداني ينشط في تنظيم مخاطبات جماهيرية في الأماكن العامة ووسائل المواصلات لفضح سياسات النظام المباد وتحريض الناس على الثورة عليه .. كانت تلك المخاطبات تتم في ظروف قبضة أمنية مشددة ولذلك كانت الواحدة لا تتجاوز السبع دقائق ويحضرها بضع عشرات، ورغم احتياطات التأمين حدث في عدة مرات أن تمكن جهاز الأمن من اعتقال بعض كوادر الحزب المشاركة في تنفيذ تلك المخاطبات وانتهى الأمر ببعضهم إلى أقفاص المحاكم مثلما حدث مع الأستاذ/ مستور أحمد وعضوين آخرَيْن من الحزب حيث تم إصدار وتنفيذ عقوبة الجلد على ثلاثتهم.
في ذلك اللقاء الأول أبدى د. جبريل إعجابه بالمخاطبات الجماهيرية وحملات ساعي البريد التي يقوم بها حزب المؤتمر السوداني، مؤكداً أنها ذات أثر كبير في تعبيد الطريق للانتفاضة الشاملة .. وبالفعل تطورت تلك المخاطبات، ومجمل أنشطة المقاومة من مختلف قوى المعارضة، والمتمثلة في البيانات والندوات والمظاهرات المحدودة وغيرها، إلى نهوض جماهيري شامل في مواجهة النظام حتى سقط في أبريل ٢٠١٩.
ربما يكون د. جبريل قد نسى ذلك الحوار القصير في لقائنا الأول، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وانشغل هو بمحادثات السلام في جوبا ثم بعمله في وزارة المالية، مروراً بوقوفه هو والتحالف الذي ينتسب إليه مع ما وصفوهُ بـ “إجراءات ٢٥ أكتوبر التصحيحية” والتي نعتبرها انقلاباً على الثورة ومسار التحول التحول المدني الديمقراطي.
انتشر، قبل يومين، تصريحٌ منسوب للدكتور جبريل يقول فيه: “الشارع تراجع بشكلٍ كبير وملّ الناس الخروج وتكشّفت لهم أمورٌ كثيرة”، وحتى الآن لم يصدر نفيٌ لهذا التصريح.
لا ندري ما الذي يقصده د. جبريل بعبارة “تكشّفت لهم أمورٌ كثيرة”، لكننا نعتقد أن ما يتكشّف للناس– مع طالع كل شمس– هو فشل الانقلاب واقتناعهم بأن الحل يبدأ بالخلاص منه، ولا ينطلق هذا القول من افتراضٍ مبهم بل يسنده ما هو ملموسٌ من “تداعي الأشياء” بعد الانقلاب في كل فضاءات الواقع، كما يكفي تأكيداً على الإصرار الجماهيري على مقاومته ارتقاء أكثر من مائة شهيد إلى جانب الجرحى والمعتقلين والمفقودين.
أمّا قول د. جبريل بأن “الشارع تراجع بشكلٍ كبير وملّ الناس الخروج”، فهذا قولٌ يجافي سنن التاريخ ويستخفُّ بجدلية الحراك الانساني التي لا تعرف الارتهان لواقعٍ غاشم، ولا يتّسق مع مضمون وجهة نظر جبريل نفسه في لقائنا الأول.. فالحراك الجماهيري المقاوم لأي نظام مستبد – لأسباب عديدة– يتراوح بين مدٍّ وجزر، مثلما كان الأمر خلال عقود حكم النظام المباد الثلاثة حتى ظنّ أرباب النظام أن الشجرة التي جعلوها شعاراً لحزبهم هي “شجرة الخلد ومُلْكٍ لا يبلى”، وذلك قبل أن يدهمهم لهب الغضب الجماهيري الذي أحرق عرش نظامهم وأحاله إلى رمادٍ تذروهُ رياح التاريخ.. والحركة الجماهيرية تطور نفسها وأدواتها باستمرار وتصحح أخطاءها بعقلها الجمعي، ونعتقد أنها الآن على وشك استدراك ما فاتها وتحقيق الشرط المفتاحي للانتصار على الانقلاب وهو التئامها في جبهة عريضة موحدة.
الشعوب الحيّة لا تتصالح مع واقع الاستبداد ولا تتراجع عن إرادة تغييره ولا تملّ مقاومته.. قد تهجع روح المقاومة قليلاً أو كثيراً لكنها لا تموت.. وحكاية الشعب السوداني– التي يرويها تاريخه– ليست بعيدة عن حكاية طائر الفينيق، فهو يحترق وينهض من رماده وكل ما يتعرض له من قمعٍ وشقاءٍ وعناء يتحول إلى لقاحٍ لمضاعفة المقاومة ووقودٍ للزحف نحو التغيير المنشود.