بدأت ماري بمداهمتي في مكان عملي، كانت تجئ بوجهها المقطب وهيئتها الثائرة، فهبت على رياح النقد من العاملين، و تضجر رئيسي المباشر، و نصحني بعمل شئ لإيقاف هذه الفوضى، كان يطيل النظر الى ساعة يده كلما حدثني في هذا الشأن، و يختم محاضرته دائماً بالحديث عن الزمن المهدر، و تأثير ذلك في نوعية خدمات المحل، فاؤمن على حديثه بهزة من راسي، كانت تلك الهزة، اقصى ما استطيع عمله لتفادي الحرج، قال لي بأن الاشياء في هذه البلاد نتقسم الى لونين، ابيض أو أسود، أما أنك تودها، اولا، وفي الحال الأخير يتوجب عليك أن تحدثها بصراحة، احسم الأمر فهو بيدك، وسد علينا و عليك هذا الباب فليس لك قدرة على تحمل المصائب التي ستهب عبره قريباً. خلوت بنفسي في تلك الليلة، متذكراً خطيبتي التي تنتظرني في بلادنا البعيدة، حيث النيل، مجوهر بالنجوم، كما يقول شاعرنا، نظرت وجهي منعكساً على قاعدة الأباجورة المعدنية، يبدو شائهاً، تعيد تشكليه تعرجات المعدن الصقيل، بنسب غير منطقية، و من عيوني المنتفخة كعيون الأسماك، رأيت الكائن الذي يتجول في حجرات عقلي، ينظرني بعيونه البدائية الوحشية الجائعة، فكأنه يستجديني عطفاً على جوعه، أو انه سينتزعه عنوة. ثمانية أعوام انقضت قبل أن يصلني ذلك الخطاب الرسمي المشئوم، في نفس مساء الجمعة و أنا أتهيأ لعطلة نهاية الأسبوع، و السيد (بيل كلينتون) يتهيأ لأخلاء البيت الأبيض، أو أنه يتمسك بالبقاء فيه رافضاً الأستقالة، شاحب ممتقع الوجه، يتصنع شجاعة لم يكن يحتاجها أن لم يعترف في المقام الأول، قالت لي جارتي أن أغبى الرجال من يعترف للناس بعلاقاته خارج اطار الزوجية، وحدثتني بأنها ستنكراذا ضبطت في نفس الموقف ستنكر حتي تصدق انكارها، ثم اختتمت حديثها قائلة (ماذا يستفيد الناس من مثل هذا الاعتراف؟ غير أن تمنحهم فرصة ليصفوك بالكلب؟)، أمنت على حديثها و اتخذته من فوري فلسفة لحياتي، أليست هي أمرأة؟ و هل هناك من هو أعلم منهن؟؟ ألسن يتغاضين وهن يعلمن افعال رجالهن في الخفاء علم اليقين؟؟ تأكد لي تلك الليلة عظم الغباء الذي يتمتع به السيد (كلينتون). جلست أرقبه في التلفازو قد تلاشى عن وجهه الألق الذي رأيناه في يوم تنصيبه، وهويدق أجراس وعد الحرية، كانت ليلة مشهودة، غنى فيها (ديلان) و (اريثا) و (بن اي كنغ)، وكل عظماء (الروك اند رول)، أضاءت الألعاب النارية سماء واشنطن، و أضاء الأمل وجدان البشر و الكائنات، ثمانية سنوات تولى فيها الحكم، و هذا الخطاب ينتظر في أضابير المحكمة مثله مثل رداء الآنسة (لوينسكي) الأزرق. وصل الخطاب يحمل خاتم الولاية، وتحته تماماً عنوان (وحدة البحث عن الهاربين من العدالة)، قلت لنفسي، ما الذي يفعله مثل هذا الخطاب في صندوق بريدي، و حدثتها ساخراً، لعلهم لا يزالون يجدون في البحث عن الدكتور ( رتشارد كمبل)، او لعله وصل عن طريق الخطأ، وذلك أمر مألوف في حركة بريد واشنطن، ولكن الأقدار لم تلبث أن كذبت طنوني، رفعت الخطاب لأقرأ أسم المرسل اليه من باب الفضول، فرأيت اسمي يطل عبر الفتحة التي تشبه شباكاً صغيراً في أسفل الغلاف، خفق قلبي بدقة زائدة، جف حلقي، فابتلعت ريقي بصعوبة بالغة، تحققت من الأمر مثنى و ثلاث و رباع، اسمي هو اسمي كاملاً، لا يطابقه اسم أحد في هذه البلاد قطعاً، تصورت أن الأمر لا يعدو أن يكون خطأ، ستعدله و ستعتذر عنه الجهة المرسلة في اقرب فرصة، بدأت اقلب في عقلي ذكريات كل لحظة التقيت فيها بشرطي، عدد المخالفات، المرات التي دخلت فيها المحاكم و أسبابها، المخالفات، المشاجرات، فلم أجد من بينها سبباً واحداً يدعو سلطات البحث عن الفارين في الولاية لقض مضجعي، فأنا كما ذكرت يا سيادة القاضي، رجل مسالم احترم قوانين هذه البلاد، وانني قد تحولت بفعل الخوف الى فار، داجن جبان، أخاف من مجرد التفكير بعمل يخالف النظام، الا أن محاميتي السيدة (كارلوتا) اوضحت لي لاحقاً، بأن جزءاً معيناً من عمر أي رجل أسود في هذه البلاد، مقدورله قضاءه في السجن، فان لم يرتكب جريمة، فصلت له واحدة على مقاييسه، فالسجون متاحة للأسود، أما الجامعات فليست متاحة للجميع. Painting by: Joseph Holston