د. منى عبدالفتاح
جاء قرار النائب العام السوداني المكلف خليفة أحمد خليفة بدفن 3 آلاف جثة موجودة بمشارح العاصمة الخرطوم بعد تشريحها، حاملاً في طياته عدداً من التحديات المرتبطة بالتعامل مع هذه الجثامين وأغلبها لمفقودين في أحداث فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة في الثالث من يونيو (حزيران) 2019، وما بعدها من حالات الموت بسبب عنف التظاهرات.
ويرى تيار أن قرار النيابة العامة بتشريح الجثث المتكدسة بالمشارح ربما يكون رأس الخيط الذي يكشف جانباً من قضية فض الاعتصام، بينما يرى تيار آخر أن هذه الخطوة ستمكن السلطة العسكرية من تسريع عملية الدفن وتضيع بسببها آخر آثار ضحايا الاختفاء القسري.
وبين التيارين يقف طرفان رئيسان، الأول المتخصصون في مجال الطب الشرعي والأمر بالنسبة إليهم في سياق تشريح الجثث ودفنها إجراء طبيعي يتم بطريقة مهنية، أما الطرف الثاني فهم أهالي المفقودين ويتضمن الأمر بالنسبة إليهم مسائل أخرى وهي حرصهم على تعجيل التشريح لمعرفة أبنائهم وأسباب وفاتهم لإكرامهم بدفنهم، لكن ما يخشونه هو أن يكون عدم الاستعداد اللازم وبحضور جهات عدلية تحقق مباشرة وفقاً للبيانات المتحصل عليها، سبباً في ضياع الحقائق وإفلات الجناة من العقاب.
وقبل هذا الإعلان كان يراود عائلات المفقودين وبعض مناهضي “المجلس العسكري” الشك في أن طول أمد تجميد الجثث يهدف إلى الحيلولة دون التشريح وكشف حقائق تريد السلطات إخفاءها حول معرفة أسباب الوفاة.
ومن يشعر بمعاناة أسر المفقودين لا بد من أن يكون مثلها شاهداً على اكتظاظ ثلاجات المشارح وعدم اتساعها للجثث وسط ظروف عمل ونظافة سيئة، حيث وجدت الجرذان والحشرات طريقاً سلكته إلى الجثث المتحللة وتقطر ماؤها حتى وصل الشارع العام، وباتت تنبعث من هذه المشارح روائح كريهة هي خليط من المواد الكيماوية الحافظة وروائح تعفن الجثث بسبب تراكمها في مكان ضيق، وتذبذب التيار الكهربائي وعدم كفاءة الثلاجات.
آليات التشريح
رئيس المجلس الاستشاري للطب الشرعي بوزارة الصحة الاتحادية عقيل سوار الذهب قال إن “السودان يعد الدولة الثانية بعد نيجيريا في عدد الجثث بالمشارح لمجهولي الهوية، إذ يفوق عددها بمشارح الخرطوم وحدها نحو 3 آلاف جثة، منها 800 جثة لأطفال حديثي الولادة من فاقدي السند، وهذا لم يحدث من قبل في تاريخ السودان”.
وأوضح سوار الذهب أن “العدد تزايد منذ أحداث فض الاعتصام، أما قبل ذلك فقد كانت تعبئة وتفريغ المشارح تتم بطريقة روتينية، ولم نواجه مشكلات مثل التي نواجهها الآن بسبب عدم سعة ثلاجات المشارح للعدد الكبير، إذ لا تزيد سعة المشرحة الاستيعابية عن 100 جثمان، وكذلك تدني كفاءة ثلاجات المشارح بسبب تذبذب التيار الكهربائي مما أدى إلى تحلل الجثث ووصول الجرذان إليها”.
وعن آليات التشريح بيّن اختصاصي الطب الشرعي أنه “لتحديد هوية الموتى وتحديد سبب الوفاة يبدأ أولاً باستعراض تفاصيل الجثة ومراجعة شهادة الوفاة ومعلومات عن المكان الذي تسلم منه الجثمان، واسم من قام بالتسليم واسم فني المشرحة المتسلم وزمان وتوقيت التسلم”.
وأضاف، “تقوم الأدلة الجنائية بتصوير الجثمان والتركيز على الصفات العامة والعلامات المميزة والصور الشكلية للأسنان، وتبرز أهمية طب الأسنان الشرعي من خلال البصمة السنية المتوافرة لدى كل إنسان، وهي تكشف نحو 40 في المئة من البيانات بطرق وتقنيات معينة يقوم بها استشاري طب الأسنان العدلي خالد محمد خالد”.
وأشار سوار الذهب إلى أن “التعرف على الجثة يكون من خلال البصمة الوراثية أو بصمة الحمض النووي من طريق مقارنة مقاطع من الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين (DNA) وعملية التشريح الرئيسة، وبعد ذلك يكون الانتقال إلى تصوير وتحريز ملابس ومقتنيات الجثة”.
وتابع، “نقوم بترقيم الجثث بأرقام متسلسلة وربطها بالبيانات والنتائج التي يتم التوصل إليها في ملف منفصل لكل جثة برقم معين منذ بداية جمع البيانات وحتى بعد التشريح، وتصحب الذين لم تعرف هوياتهم إلى ما بعد الدفن، ومن تعرف هوياتهم يدفنون بأسمائهم”.
إمكانات ضخمة
ولفت سوار الذهب إلى أنه “ليس هناك شخص مجهول الهوية تماماً، فحتى من تقطعت به السبل وتوفي من دون أي معلومات يمكن التعرف عليه، فما بالك بمن توفوا في أحداث عنف مشهودة مثل فض الاعتصام وغيرها، ولهذا الغرض تكونت لجنة التعامل مع الجثث المتكدسة بالمشارح في ولاية الخرطوم بالتعاون مع الأحوال الجنائية، تقديراً للكرامة الإنسانية وحماية لحقوق مجهولي الهوية الموجودين داخل المشارح وحفظ بياناتهم مراعاة للتعاليم الدينية والإنسانية والأعراف الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان والقانون الدولي المتعلق بحقوقهم”.
وقال “لن يحتاج كل هذا العدد من الجثث إلى تشريح، ومنها جثث الأطفال مجهولي الهوية وفاقدي السند وكبار السن إن لم تظهر بيانات بمفقودين منهم بالمواصفات نفسها”، مبيناً أن “تحلل الجثث يغير حالها وخصوصاً الأنسجة، لكن إذا كانت الجثة مصابة بطلق ناري أو ضرب بآلة حادة أو عنف خارجي فلا يخفى على الأطباء الشرعيين، وبفحص منطقة الإصابة يمكن أن تقدم معلومات مفصلة حول نوع السلاح المستخدم، إضافة إلى معلومات سياقية مهمة في تحديد الضحايا والوصول إلى علاقة السببية بالوفاة، ويوضع كل ذلك في قاعدة البيانات التي تستعين بها الجهات العدلية”.
وعن الشروع في إنجاز هذا القرار أكد أن “اللجنة شرعت في تشييد مشرحة أخرى في حي أمبدة بأم درمان لتخفيف الضغط على المشارح الأخرى”، مضيفاً أن “هذا العمل يحتاج إلى إمكانات ضخمة، وتسلمنا دعماً لوجستياً من الاتحاد الدولي لجمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر، كما تعتزم منظمة الصحة العالمية تزويد غرف المشارح بأنابيب للصرف الصحي ومجاري وثلاجات بكفاء عالية وطاولات للتشريح وأكياس لنقل الجثامين وأدوات لحماية الأطباء الشرعيين”.
ونوه إلى أنه بحسب بروتوكول الصليب الأحمر “فمن المهم استصحاب منظمة الصحة العالمية ومؤسسات حقوق الإنسان وأسر المفقودين والأطباء الشرعيين والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في عمليات التشريح وحتى دفنهم في مقابر أسرهم إذا عرفت هوياتهم، وإذا لم تعرف فيدفنون في مقابر الوادي الأخضر لمجهولي الهوية”.
قضايا جنائية
أما نقيب الأطباء السودانيين ورئيس شعبة الجراحة بجامعة الأحفاد أحمد الشيخ فقال “معظم الجثث الموجودة بالمشارح مرتبطة بقضايا جنائية، ويخول قرار التشريح والدفن للطب الجنائي قبل إصدار أي قرار ملزم بدفن الجثث، لأنه أدرى بأهمية الربط بين البيانات الأولية التي يتم التوصل إليها بأخذ الـ DNA، وستوضح التقارير المفصلة أسباب الوفاة، سواء كانت بسلاح ناري أم سلاح أبيض أم تسمم”.
وأضاف نقيب الأطباء أنه “عند فقدان أي شخص يذهب أهله إلى المستشفيات والمشارح، وإذا تأخر عدم التشريح فلا بد من أن تعالج مشكلة التأخير قبل إصدار بيان، لأن هناك أسباباً أدت إلى عدم التشريح، وهي القضايا أو التهم الجنائية، ولا يكون قرار الدفن إلا بعد تقرير الطب الشرعي الذي يحتوي على بيانات المتوفين وصورهم”.
وأشار الشيخ إلى أن “هناك معلومات مهمة قد تغير سير الدفن، مثل أن المتوفي جيء به من منطقة فض الاعتصام أو من منطقة تظاهرات أو موكب ما، والمعلومات الأخرى تظهر بالتشريح مثل نوعية الإصابة ونوع السلاح”.
وذكر نقيب الأطباء أنه بحسب بعض التقارير فإن بعض الجثث ظهرت عليها الإصابة بواسطة “الخرطوش”، وهو نوع من الطلقات توضع في بنادق أو مسدسات معينة، وعند إطلاق زناد البندقية أو المسدس يشتعل البارود ليتسبب في قذف الكريات المعدنية في مساحة كبيرة، مما يسبب تلفاً أكبر في الأنسجة، مقارنة بما يحدث بسبب طلقة الرصاص العادية إذ يقتل بشكل جماعي، وكان يستعمل في الصيد لقتل كمية كبيرة من الحيوانات وبعض الدول حرمته حتى للصيد واستبدل بالسلاح ذي الطلقة الواحدة.
رهان على الحياد
من جانبه، قال عضو لجان المقاومة بالخرطوم محمد همشري إن “مؤسسات الحكومة إذا كانت تمثل دولة تحترم القانون ويشعر معها المواطن بالأمان، فيمكن أن نتوقع منها حسن النية في هذا القرار، وبما أن الوضع الحالي غير ذلك فليست لدينا ثقة تامة في أن صدور القرار غرضه السعي إلى تحقيق العدالة بتطبيق القانون أو اتباع روحه في قضايا معقدة كهذه، وعليه فإن لجان المقاومة لا تنتظر ظهور نتائج مريحة لأهالي المفقودين بتشريح الجثث إذا كانت تتم بهذه الطريقة”.
ويرى همشري أن “القرار صدر بتشابك العلاقات في ما بين النيابة العامة وإدارة المحاكم والشرطة، وهذه غير مسؤولة بشكل مباشر وإنما المسؤولة هي السلطة العليا ومن يملك القرار، ولا نتوقع الوصول إلى العدالة إلا بإزالة هذا النظام لأنه أساس المشكلة، فهو نظام غير ديمقراطي ويفتقر إلى العمل المؤسسي”.
وأضاف أن “لجان المقاومة تقف من وراء أسر المفقودين، وهم يراهنون على حياد هيئة الطب العدلي والكوادر الطبية عموماً لأنهم يرتقون إلى مستوى الثقة والمسؤولية”.
دفن الأدلة
من جهتها، نشرت “لجنة أطباء السودان المركزية” بياناً عن صدور قرار النائب العام حول دفن الجثث مجهولة الهوية الموجودة بالمشارح بعد تشريحها وقالت فيه إن “هذا منحى خطر يتعارض مع البرتوكولات والقوانين التي لها صلة بالأمر، ونقرأها في سياق الأحداث المتعلقة بانتهاكات السلطة الانقلابية والسجل الخاص بتعامل الأجهزة العدلية مع ضحايا الثورة وشهدائها، وبأنها محاولة لدفن الأدلة الدامغة التي تدين القتل الممنهج من طريق سلاح الدولة ووأد العدالة”.
وأضاف البيان “تعايش الثورة التي انطلقت في ديسمبر (كانون الأول) 2018 محاولات مستمرة لتغييب العدالة وحماية مرتكبي الانتهاكات والقتل خارج القانون، ولحفظ حقوق المتوفين مجهولي الهوية في الكرامة والعدالة فلا بد من عمل عدد من التدابير والإجراءات والتأكد من سلامتها وحفظها”.
طي الصفحة
وربما يطوي القرار بتشريح الجثامين المتكدسة في مشارح الخرطوم هذه الصفحة السوداء من كتاب ثورة ديسمبر 2018، ويكون أساساً للتحقيق في أحداث فض الاعتصام والعنف المصاحب للثورة منذ اندلاع شراراتها وإلى الآن، ثم تصبح تاريخاً ضد أي محاولات لانتهاكات حقوق الإنسان المروعة في السودان.
كما قد ينصف القرار الضحايا ويربط على قلوب أمهات ثكالى وآباء مكلومين وأهل محزونين، ويكون شرارة لإصدار تشريعات جديدة تحفظ حقوق الإنسان في الحرية والتعبير عن رأيه بالاعتصام أو الاحتجاج السلمي وتراعي حرماته، لكن من الصعب الجزم بنتيجة واضحة ممهورة بالرضا التام من كل الأطراف المعنية، خصوصاً أن إشارات عدم الثقة في القرار بدأت تظهر في شكل بيانات وقد تتطور إلى احتجاجات.