حقائق وعناوين مهمة وحيوية أبرزتها تفاعلات شعبية ورسمية وإعلامية في بريطانيا ، بشأن رحيل الملكة اليزابيث الثانية ،وتنصيب تشارلز الثالث ملكا جديدا ،في إطار خطوات واجراءات اتخذها وأعلنها (مجلس العرش) اليوم (١٠ سبتمبر ٢٠٢٢) وعكست مشاهد تعد الأولى من نوعها منذ ٧٠ عاما ،وهي فترة حكم الملكة الراحلة،وجرت للمرة الأولى عبر بث فضائي محلي ودولي ، وليس وراء جدران مغلقة.
(الحب) و(الاحترام) شكلا أبرز العناوين لرحيل الملكةً،وهما عنوانان مهمان، ليس للبريطانيين فحسب ، اذ أرى أنهما معياران ضروريان ،ومطلوبان، خصوصا في دول عربية وافريقية ودول متخلفة سياسيا .
مشاعر (الحب)و(الاحترام) البريطاني المعلن للملكة شمل أوساطًا عدة ، بينها الحكومة وحزبها الحاكم (حزب المحافظين) وأحزاب تقف في صف المعارضة،من أهمها وأكثرها تأثيرا (حزب العمال) .
(الحب) و(التقدير)و(الاحترام للملكة) جاء على سبيل المثال ،في البرلمان ،على ألسنة رئيسة الحكومة ليز تراس،وزعيم المعارضة السير / كير ستارمر، و قادة آخرين في صفوف المعارضة .
في الشارع سارعت حشود من البشر فور سماع خبر رحيل الملكة الى قصر باكنغهام تعبيرا عن (الحب)و(الاحترام) فانتشرت الورود تعبيرا عن المحبة وللعزاء .
الصحافة البريطانية الحرة والمستقلة والمهنية التي لا تأتمر بأوامر حكومية تصدرتها صور الملكة الراحلة، وعناوين عكست الحدث وعبرت عن رأي، ومنها (نحبك سيدتي) و( قلوبنا محطمة) و(الحزن هو ثمن ندفعه من أجل الحب)و( شكرا لك).
هذا (الحب) ليس وليد لحظة انفعال عابرة، إنه نتاج تقدير عميق الجذور لملكة قدمت شبابها وفكرها ونبضات قلبها وروحها وعقلها في سبيل تقديم خدمات جليلة لشعبها على مدى ٧٠ عاما ،وزادت تلك السنين الطويلة معدلات حبها في قلوب الناس ،ورغم انها رحلت في عمر ناهز ال ٩٦ عاما وحكمت لفترة طويلة فانها لم تكن مصدر ملل ، بل محل احتضان لافت .
من أسباب المحبة أن الملكة قدمت خدمات انسانية للشعب، واحترمت دورها المحدد في قواعد ومباديء دستورية ، و احترمت المؤسسية ،التي تعني أن لا تتدخل في صلاحيات الحكومة .
هذا يعني أنها لم تغرق في أوحال السياسة وصراعات الأحزاب ، ومعلوم ان الاختلاف بين الأحزاب حق مشروع من حقوق القوى السياسية في النظام الديمقراطي، بل كانت مظلة للوطن والجميع ، ومصدرا للاستقرار والالهام وضابطة للايقاع في الأزمنة الصعبة .
هذا يعني أنها كانت داعمة للنظام الديمقراطي الذي هو خيار الشعب الذي حددته مباديء دستورية ، اذ توجد في المملكة المتحدة مباديء أو قواعد دستورية ولا يوجد دستور مكتوب.
أحبها شعبها لأنها -وهي رأس الدولة- كانت شديدة التمسك بالضوابط والتقاليد…
أحبوها، وأحببت اطلالتها من شرفة في قصر باكنغهام ،وطريقة حديثها الهادئة الرصينة،وابتسامتها ، وتفاعلها مع الناس وتلويحها بيدها ،لتحية الصغار والكبار…
انسانيا.. في ظل حكوماتها المتعاقبة وجدت أعداد هائلة من اللاجئين من دول عدة الحماية والرعاية والعيش الكريم .
زرت بريطانيا صحافيا للمرة الأولى بدعوة لتغطية افتتاح Terminal 4 بمطار هيثرو في أول ابريل ١٩٨٦، ثم زرتها مع عائلتي ، وفي العام ٢٠١٣ وصلت الى لندن للمشاركة في مؤتمر لصحيفة (الحياة) كان مقر مكتبها الرئيس في لندن،اذ كنت مراسلا من الدوحة ثم حصلت على صفة ومسمى مدير مكتب (الحياة) اللندنية في قطر .
في العام ٢٠١٥ سافرت الى لندن من الدوحة، لاجئا سياسيا، بعدما اشتدت ضغوط، و شكاوى الرئيس المخلوع عمر البشير وأدواته وعناصره السياسية والأمنية .
غادرت الدوحة التي أحبها وأحب شعبها واحترم قياداتها ورموزها وليست لدي أية مشكلة معهم رغم الاستجابة لضغوط البشير ، فاحتضنتني لندن ،ووجدت فيها الحماية والرعاية الانسانية وصونا للحقوق الانسانية وفي صدارتها حقي في التفكير الصحافي المهني المستقل ،وحقي وحريتي التامة في التعبير عن الرأي والموقف تجاه أية قضية محلية أو غيرها.
اتاح لي هذا المناخ الاطلالة عبر فضائيات واذاعات دولية ، في صدارتها. تلفزيون (بي بي سي ) دعما لثورة شعب السودان التي انطلقت في ديسمبر ٢٠١٨و انتصرت في العام ٢٠١٩، ثم تحليل مرحلة الحكومة الانتقالية قبل ان يطيح بها انقلاب عسكري.
حكومات الملكة الراحلة (اربع حكومات حتى الآن منذ وصولي لندن) وفرت وتوفر لي ولعدد كبير من اللاجئين الرعاية الصحية الراقية المستوى ،والسكن والحياة الكريمة .
هذا كله يعني أنني كلاجيء ، مع آخرين حطوا رحالهم بصفة اللجوء في البداية ثم صاروا مواطنين يحملون الجنسية والجواز ، يهمنا الشأن البريطاني ،اذ بتنا شركاء للبريطانيين في الأفراح والأتراح والحقوق،وهذا هو مناخ دولة المؤسسات وحكم القانون، وهي دولة المواطنة .
في هذا السياق. أرى أن محبة الشعوب ينالها الحاكم العادل ،الذي يحترم نبض شعبه، وحقوق الانسان، ويجسد بمساواة معادلة الحقوق والواجبات.
ليس في مقدور أي حاكم مهما ارتفعت معدلات بطشه أو قدرته على شراء الذمم أن يزرع (الحب) في قلوب الناس.
أساليب القوة والقهر،ومصادرة الحقوق والحريات ،بالانقلابات مثلا كما هو الحال الآن في السودان بعد الانقلاب الذي يسيطر بالقوة على أوضاع البلد حاليا ، لا تزرع الحب بل تزرع الكراهية والضغائن والأحقاد،وتدمر البلد وتنشر الفساد بسرقة وتهريب الموارد كالذهب، وتنتهك حقوق الشعب في الحياة الكريمة،وتذبح أحلامه .
هذا يعني أن الانقلابيين في أي زمان و مكان يفكرون تفكيرا سياسيا متخلفا عن مقتضيات و روح العصر ،وهو عصر الحرية والعدالة وحقوق الانسان، لا الانقلابات العسكرية .
الطريق الى قلوب الناس يمر عبر جسور احترام أشواق الناس، وتلبية تطلعاتهم المشروعة في حياة حرة وكريمة.
ربما يطرب الحاكم الظالم في أي بلد لبعض الوقت بكلام المنافقين والمطبلين وحملة المباخر وأصحاب المصالح الخاصة لكنها( سعادة) زائفة ، ستقوده حتما الى مآلات صعبة ومصير وأجل محتوم ولو طال الزمن .
من دون شك أيضا إن الحاكم المتجبر والمنافقين حوله والأيادي الباطشة التي تأتمر بأمره سيتربعون جميعا على مواقع متقدمة في أسوأ صفحات التاريخ .
هذا يعني بالمقابل أن التفاعلات الايجابية لرحيل ملكة بريطانيا وتنصيب الملك الجديد قدمت لقيادات في دول عدة دروسا جديرة بالتأمل، لأنها تتفاعل في بلد يتمتع بديمقراطية عريقة،هي مدرسة لمن يريد أن يتعلم أو يصحح الأخطاء والخطايا .
في لندن الآن ملك جديد (تشارلز الثالث) وولي عهد جديد (وليام). ورئيسة وزراء جديدة (ليز تراس)وهي التقت الملكة قبل يومين من رحيلها ، كما جاءت مراسم تنصيب الملك الجديد حافلة بالدلالات المهمة،وبينها أن الملك تسلم مسؤولياته بسلاسة ،وفي ظل تماسك المؤسسات، التي دعمت الملك الجديد وفي صدارة مواقع الحيوية السياسية والتشريعية الداعمة جاء موقف البرلمان موحدا في هذا الشأن (حكومة ومعارضة) .
واذا كانت التحديات أمام الملك الجديد كثيرة، فان تشارلز الثالث يعرفها جيدا، وسيسعى بخبرته الطويلة واستيعابه للمستجدات في المجتمع إلى أن ترتاد المؤسسة الملكية آفاقا جديدا تدعم الخدمات والرعاية وتحترم حقوق الأقليات في بلد يحترم التعددية الثقافية والدينية.
الملك صاحب آراء ورؤى تجديدية في اطار صلاحياته المحددة،أو في اطار ما يمكن أن (يتمنى) من الحكومة أن تقوم به ،كي يواصل دور الملكة كملهم للشعب ومصدرا للاستقرار وتوحيد الخطى بشأن التحديات الكبرى.
التقيت تشارلز قبل سنوات عدة بصفتي الصحافية ، خلال سنوات عملي في قطر ، بدعوة من السفير البريطاني لحضور حفل استقبال اقيم على شرفه،وكان انطباعي الأول أنه يتمتع بروح اجتماعية وقادر على التفاعل مع الناس وتلمس همومهم.
وهاهو الملك الجديد يطلق رسالة تأكيد وطمأنة لمجتمعه في اطلالته الأولى ، إذ شدد على أنه سيصون المبادئ الدستورية،و تعهد الدفاع عنها .
أخلص الى أن الملكة الراحلة حصدت مازرعت،وهاهي الثمار تبدو واضحة وملموسة في مشاعر (الحب)و(الاحترام) ،وسيحصد الملك وولي عهده ثمار غرسهم.
أقول للملك الجديد وولي عهده ورئيسة الحكومة ما قاله بليغ وحكيم (من يزرع الطيب ما خابت محاصيله) وأقول للطغاة سارقي أحلام الشعوب (من يزرع الريح يحصد العاصفة).
أحر التعازي للملك الجديد و لأسرة الملكة المحبوبة الراحلة وللشعب والحكومة والأحزاب كافة وقوى المجتمع المدني .
أدعو الله أن يرحم فقيدة الانسانية رحمة واسعة .
لندن – ١٠ سبتمبر ٢٠٢٢