روزنامةُ الأسبوع
الإثنين
أجزل شكري للصَّديق عدلان عبد العزيز على ما راسلني بشأنه عقب الرُّزنامة الماضية، حيث كنت لاحظت أن قائد البرهان تعمَّد، لدى استلامه أوراق اعتماد السَّفير الأمريكي الجَّديد غودفري، أن يستقبله بالزَّيِّ العسكري! وتساءلت عمَّا جعل أمريكا «تتهاون» تجاه هذا التَّرميز الدِّبلوماسي! ولئلَّا يُقال إنها لم تكن لتعلم أن البرهان قد يفعل ذلك، استبقتُ باستبعاد الاحتمال، إذ في حين كان غودفري يتهيَّأ للتَّوجُّه إلى القصر، كانت الشَّوارع السُّودانيَّة تغلي، على بكرة أبيها، ضدَّ الانقلاب، مطالبة بمدنيَّة الحكم! فلا يُعقل، إذن، ألا تهتمَّ استخبارات أمريكا بتنبيه الإدارة للتَّحسُّب للأمر، حتَّى لا يُحسب عليها!
من بين المصادر التي بحثت عن تفسير فيها للأمر، كتاب جاريد كوشنر، مساعد الرَّئيس الأمريكي السَّابق دونالد ترامب، وصهره، بعنوان «Breaking History»، والذي أضاء بعض العُتمة، خصوصاً في الفصول الأخيرة، حيث أفاد بأن التَّفاوض مع حكَّام السُّودان الجُّدد «تقرأ: لجنة البشير الأمنيَّة» قد جرى على قبولهم التَّطبيع مع إسرائيل، وتيسير «ميثاق ابراهام»، على أن تتعهَّد أمريكا بحمايتهم من أيِّ اتِّهامات ربَّما تطالهم بشأن ما قد يكونوا ارتكبوا من انتهاكات خلال عملهم ضمن نظام البشير البائد!
غير أن عدلان كاتبني يقول إن هذه المسألة غير موجودة في كتاب كوشنر، فلزمني إثبات أنَّها موجودة، كالآتي:
(1) في الفصل (54)، تحت عنوان «مواثيق ابراهام»، أشار كوشنر للجَّهد الذي بذلوه في إحكام الصِّياغة اللغويَّة للأصل الانجليزي لهذه المواثيق، وترجمتها العربيَّة والعبريَّة، بما يجعل تسويق دعوة ترامب للسَّلام مع إسرائيل ميسوراً في الشَّرق الأوسط، ليس، فقط، للامارات والبحرين، بل ولغيرهما.
(2) وفي صفحة (419) كتب كوشنر أن ترامب فاجأهم، في يوم التَّوقيع، وعلى حين كان يتهيَّأ للمغادرة إلى فيلاديلفيا، بقوله: «نتوقَّع أن تلحق بنا دول أخرى عمَّا قريب»!
(3) قبل ذلك غرَّد وزير سوداني على تويتر بوجوب تطبيع بلاده علاقاتها مع إسرائيل! لكنه أزال تغريدته، كما تمَّت إقالته! مع ذلك اعتبرنا الحدث مشجِّعاً، فسجَّل بومبيو زيارة خاصَّة إلى الخرطوم أكَّد بعدها إمكانيَّة أن يكون السُّودان مستعدَّاً للانضمام إلى «مواثيق أبراهام».
(4) على أنه نبَّه إلى أن للسُّودانيِّين مسائل يرغبون في معالجتها، أوَّلاً، وأعجلها إزالة اسم السُّودان من القائمة الأمريكيَّة للدُّول الرَّاعية للارهاب، حيث كان أدرج في القائمة لتوفيره إقامة آمنة فيه لبن لادن وأتباعه الذين دبَّروا تفجير سفارتي أمريكا في كينيا وتنزانيا، وتفجير المدمِّرة «كول»!
(5) وفي 2019م أطيح بالبشير الذي حكم لأكثر من ثلاثة عقود، وارتكب انتهاكات ضدَّ الشَّعب السُّوداني، وجاءت إلى السُّلطة حكومة انتقاليَّة بتوجُّه ديموقراطي.
(6) ولإزالة السُّودان من قائمة الارهاب وافق على تنفيذ حكم قضائي بمبلغ 335 مليون دولار كتعويض لضحايا تلك التَّفجيرات، كما وافق على تطبيع علاقاته مع إسرائيل! ومع أنه لم تكن لدينا أوهام حول الأوضاع في السُّودان، فقد اعتبرنا أن من مصلحته منحه فرصة لشقِّ طريق جديد، فضلاً عمَّا في ضمِّه إلى «مواثيق أبراهام» من قيمة رمزيَّة!
(7) ورغم أن الجَّامعة العربيَّة كانت عقدت في الخرطوم، عام 1967م، عقب حرب الأيَّام السِّتَّة، مؤتمر قمَّة صدرت عنه «اللاءات الثَّلاث الشَّهيرة: لا سلام، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع إسرائيل»، إلَّا أن السُّودان، الآن، على أهبة الاستعداد لإدارة الظَّهر لذلك الماضي!
(8) وفي صفحة (435) وما بعدها قال كوشنر إن أمريكا، وإسرائيل، والسُّودان، أصدروا، بعد جهود دبلوماسيَّة حثيثة، بياناً مشتركاً أعلنوا فيه اتفاقهم على إقامة علاقات اقتصاديَّة بين إسرائيل والسُّودان، وأن الدَّولتين ستلتقيان، خلال أسابيع، لبحث جوانب هذا التَّعاون.
(9) ثمَّ أضاف كوشنر أن السُّودان طلب توفير حصانة لسيادتة، وحماية لـ «قادته الجُّدد» من المساءلة الجَّنائيَّة عن أيِّ انتهاكات قد يكونوا ارتكبوها في عهد البشير! والسُّؤال الذي ينطرح هنا هو: مَن، تراهم، المقصودون بـ «القادة الجُّدد» الذين يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا انتهاكات في عهد البشير يخشون من المساءلة عنها؛ حمدوك ووزراؤه؟! أم المجلس العسكري «لجنة البشير الأمنيَّة»؟!
………………………..
………………………..
هذا ما لزمني توضيحه. أمَّا بقيَّة ما أورد عدلان فإنني أستأذنه لأضيف ما يلي:
أ/ لم أعن بتاريخ اتِّخاذ «قرار» التَّرفيع الدِّبلوماسي بين أمريكا والسًّودان، إنَّما بتاريخ «تنفيذه» فعليَّاً.
ب/ لم أشاهد مقابلة «قناة فوكس» مع جاريد كوشنر. فإذا لم يكن قد ذكر السُّودان في المقابلة، فقد ذكره في الكتاب مرَّات ومرَّات، وهذا ما انصبَّ حديثي عليه.
ج/ قال عدلان إن كوشنر لم يذكر، في كتابه، لا البرهان ولا لجنة البشير الأمنيَّة! لكنني أؤكد أن ذكرهم ظلَّ يرد بين السُّطور بإلحاح، لا سيَّما في الفصول الأخيرة! وأعيد، هنا، بوجه خاص، السُّؤال عن المقصودين بـ «القادة الجُّدد» الذين يمكن أن يكونوا ارتكبوا في عهد البشير انتهاكات يخشون من المساءلة عنها؟!
د/ أورد عدلان «أن الخارجيَّة الأمريكيَّة اعتبرت تغريدة الوزير السُّوداني إشارة مشجِّعة، فسافر بامبيو إلى الخرطوم في ذلك المسعى». لكن عدلان وضع، هنا، للأسف، نقطة في نهاية السَّطر، مع أن الأهمَّ هو ما ورد في الصَّفحات التَّالية من كتاب كوشنر، واجتزأناه منه بعاليه، وأبرزه «اشتراط قيادة السُّودان الجَّديدة للتَّطبيع مع إسرائيل حمايتها من المساءلة الجَّنائيَّة عن أيِّ انتهاكات قد يكونوا ارتكبوها في عهد البشير»!
الثُّلاثاء
بالثُّلاثاء 30 أغسطس 2022م أصدر مستشفى الرِّئاسة الرُّوسيَّة المركزي بياناً بأن ميخائيل سيرغيفيتش غورباتشوف، آخر الرُّؤساء السُّوفييت، توفي ذلك المساء عن 91 عاماً. ونقل متحدث الرِّئاسة أعمق تعازي فلاديمير بوتين، كما نعاه رؤساء وشحصيَّات دوليَّة كثر. غير أن بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، استغلَّ المناسبة ليقارن بين الرَّجلين، قائلاً: «في وقت عدوان بوتين على أوكرانيا، يظل التزام غورباتشوف الدؤوب بانفتاح المجتمع السُّوفييتي مثالاً لنا جميعا»!
ورغم أن المزاج الغالب داخل الاتِّحاد السُّوفييتي السَّابق يميل لتحميل غورباتشوف «وزر» تفكيك التَّجربة، إلا أنه، ما أن أعلن نبأ وفاته، حتَّى اصطفَّت الطوابير في مدخل «قاعة الأعمدة» بالكرملين، والتي كانت تُسجَّى فيها، عادةً، جثامين القادة السُّوفييت الرَّاحلين، لإلقاء نظرة الوداع، وحضور مراسم التَّأبين! هكذا تزاحم آلاف الأشخاص لوداعه، وللتَّعبير عن احترامهم له، وهو مسجَّى في نعش مفتوح يحيط به حرس الشَّرف، حيث جلست ابنته، وأقاربه، بينما الناس يضعون أكاليل القرنفل الأحمر حول النَّعش!
ولد الزَّعيم الشِّيوعي الرَّاحل في الثَّاني من مارس 1931م. وكان أصغر عضو في المكتب السِّياسي للحزب. ولمَّا بلغ الرَّابعة والخمسين صار سكرتيره العام، والقائد الأعلى في الدَّولة.
وَفَدَ غورباتشوف إلى منصبيه محتقباً فكر «البريسترويكا/ إعادة البناء»، وسياسة «الغلاصنوست/ الشّفافيَّة»، وشرع، فوراً، في التَّرويج لهما، وكسب القبول بهما، داخل الحزب، وسائر مؤسَّسات الدَّولة، وتطبيقهما بمنهج وُصف في الغرب بـ «الاصلاحي»، بينما هو «ثوريٌّ»، بكلِّ المعايير، لا سيَّما على صعيد الاقتصاد الاشتراكي! وقد وصف محمَّد إبراهيم نُقُد، السِّكرتير السِّياسي السَّابق للحزب الشِّيوعي السُّوداني، «البريسترويكا» بـأنها تطوير حقيقي للفكر الماركسي، كونها تطرح قضايا فكريَّة لا يمكن لأيِّ ماركسي أن يقف تجاهها متفرِّجاً بانتظار النَّتائج، إذ لا بُدَّ من تفادى الأخطاء، والتَّعلَّم من التَّجربة.
وهكذا، بصرف النَّظر عن سوء التقدير الغالب لفكر «البريسترويكا»، إلا أنه كان، في جوهره، صحيحاً، بل وكان الحزب والنِّظام في مسيس الحاجة إليه، لولا عوار وحيد ترك أثره السَّالب عليه، وهو أنَّه جاء متأخِّراً جدَّاً! وأذكر أنه بدا لي، في وقته، شبيهاً بعمليَّة جراحيَّة لتفريغ صديد دِّمِّلٍ احتقن به تماماً، ورغم أن نسبة نجاح العمليَّة كانت ضئيلة جدَّاً، إلا أنه لم يعُد ثمَّة مناص من إجرائها! ولم يكن ذلك التَّقدير ناتجاً عن محض قراءة نظريَّة، بل وعن معايشة لصيقة لتجربة البناء السُّوفييتي العظيمة، في بعض جوانبها الطلابيَّة والشَّبابيَّة المهمَّة، دَعْ المعايشة على الصَّعيد الابداعي عموماً، والأدبي بالأخص، لسنوات طوال، برغم الفارق الكبير الذي أحدثه ذلك الفكر، وتلك السِّياسات، في ما يتَّصل، على وجه الخصوص، بالحرِّيَّات، والحقوق، شاملة حقَّ الحصول على المعلومات، مِمَّا سمح بالمجاهرة، لأوَّل مرَّة، بنقد المؤسَّسات كافَّة، وفي مقدِّمتها الحزب والحكومة، مِمَّا صار يهدِّد البراحات القديمة التي كان الموظَّفون الحزبيُّون يمارسون، من خلالها، أفظع أنواع الصَّلف والاستعلاء على الأعضاء والمواطنين! لكنني أذكر، أيضاً، أنني، عندما عدت، بدعوة من جامعتي، للمشاركة، صيف 1987م، في سمنار «البريسترويكا والمسألة الدُّستوريَّة»، لم تصعب عليَّ، رغم حماسي النَّظري للتَّغييرات «الثَّوريَّة الجَّديدة»، ملاحظة المستوى من التَّعثُّر الذي كانت تتمُّ به كلا تطبيقاتها واستقبالاتها، والقدر من الارتبكات التي كانت تمور في عقول وجوانح قدامى الأصدقاء، والذين كنت فارقتهم منذ تخرُّجي وعودتي إلى السُّودان صيف 1973م، وذلك إزاء ما كانوا يلمسون حولهم، كما قالوا، من انفلاتات العصبيَّات القوميَّة، والمشاعر الانفصاليَّة، والتَّشهِّيات البُرجوازيَّة، ما انعكس في التَّطلُّع إلى الموضات الغربيَّة للأزياء، والمأكولات، والمشروبات، والموسيقى، وسائر المحاولات العرجاء لتقليد الصَّرعات الواردة من خلف «السًّور الحديدي»، حتَّى لتنتاب المرء لحظات من الشَّكِّ في ما إن كانت الأمور تمضي في الاتِّجاه الصَّحيح! ولعلَّني عبَّرت عن شئ من ذلك المناخ ضمن كتابي عن مأساة انتحار صديقي الحبيب الشَّاعر عبد الرَّحيم أبو ذكرى، بموسكو، في خواتيم عقد الثَّمانينات!
غادر غورباتشوف ميدان السِّياسة، وانصبَّ اهتمامه على قضايا التَّعليم والإنسانيَّات. على أنه حاول، مرَّة واحدة، العودة إلى السِّياسة، بترشيح نفسه في انتخابات 1996م الرِّئاسيَّة، إلا أنه لم يحصل سوى على 0.5% فقط من الأصوات!
وفي أخريات أيَّامه تدهورت صحته بعد إصابته بمرض الكلى، وصار دائم التَّردُّد على المستشفى حتَّى أسلم الرُّوح، وشُيِّع إلى مقبرة نوفوديفيتشي بموسكو، حيث يستقر معظم القادة والشَّخصيَّات الروسيَّة البارزة، ودفن، هناك، بجانب زوجته رايسا التي توفيت عام 1999م.
الأربعاء
لو قال لي أحدٌ، قبل العام 2018م، أن ذلك النَّهر الجَّبليَّ الرَّقراق، سوف يستحيل، يوماً، إلى هذه البِركة الطَّافحة بالعَكَر، لما سمحت لنفسي أن تسمع، دَعْ أن تصدِّق، كلمة مِن ذلك!
عرفته قياديَّاً ضمن وفد الحركة الشَّعبيَّة الموحَّدة، على أيَّام جولات تفاوضها، في العاصمة الإثيوبيَّة، مع وفد النِّظام البائد، وأعجب ما أعجب له أنَّه لو كان أراد، لكان «باع»، من يومه ذاك، قبل أن تبرد مواسير البنادق، لقاء أضعاف وزنه من المعدن النَّفيس، ولما كان اضطرَّ لأن يغامر بالانتظار من غابة لغابة، حيث قد يأتي المجهول بالمجهول، وقد لا يأتي!
حاولت الاتِّصال به لأقول له: إلحق نفسك يا أخي الذي لم تلده أمِّي! إلحق نفسك، فقدمك لم تزلَّ والأرض زلقة تحتها، فكيف تزلُّ الآن؟! نعم، ليتك تعود كما عرفتك، دائماً، ثائراً، وبطلاً، وفارساً منفعلاً بالسُّودان، وحاملاً على ظهرك «خبوب» أهلك البسطاء، و«طينهم»، ومتعالياً به على جميع متاع الدُّنيا الزَّائل! ليتك تعود لضحكتك الطفوليَّة، الصَّافية، المجلجلة، التي كانت، بالأمس، تسخر من كلِّ هؤلاء الذين صرتَ، للمفارقة، ما بين ليلة وضحاها، مجرَّد واحد من الرَّافلين في زفَّتهم! نعم، ليتك تخلع عنك ما يعكِّر الصَّفو، ويُخمد الجَّلجلة، ويسوِّد السُّخرية النبيلة، فالبصر يعود بذلك حديداً، وكذا البصيرة! ليتك تعود، يا أخي، إلى قضايانا «الخاسرة»، فإنها، كما عرفتها فيك دائماً، أعلى قيمة من كلِّ «ذهب المعزِّ»، و«جباله» و«مناجمه»!
حاولت، ألف مرَّة، الاتِّصال به لأقول له هذا، وأكثر، لكن هاتفه، للمرَّة الألف .. مغلق!
الخميس
ما أسهل أن يمتشق بعضهم قلمه ليدبِّج مقالاً يتَّخذ، من خلاله، موقف «الخبير النَّاصح» الذي يُهدي الأحزاب السِّياسيَّة، يميناً أو يساراً، نصائح مجَّانيَّة في صيغ مطلقة تكاد لا تفهم المقصود منها، أو تعرف، حتَّى، من أين تمسك بها؛ تارةً بأن يطالبها «بإصلاح أوضاعها الدَّاخليَّة»، دون أن يحدِّد أوجه «العوج» في «الأوضاع الدَّاخليَّة» التي يرى أنها تحتاج لـ «الاصلاح»، وتارة أخرى بأن يسألها مراعاة «المصلحة الوطنيَّة» في سلوكها السِّياسي، دون أن يكلِّف نفسه مشقَّة تعيين المسائل التي يرى أن سياسة هذا الحزب أو ذاك قد تجاوزت فيها «الخطوط الحمراء» لهذه «المصلحة»!
وبطبيعة الحال فإن العكس صحيح تماماً، إذ مِن الصَّعب جدَّا أن يؤهِّل نفسه، تماماً، بأدوات «النَّقد الموضوعي»، مَن يريد أن يؤدِّي دور «الخبير النَّاصح» لهذا الحزب، أو ذاك، حيث أن «النَّاقد الموضوعي» وحده هو من يستطيع تقديم «نصحه الخبير» على هذا الصَّعيد.
نفس هذه الملاحظة يمكن أن ترِد، أيضاً، بل ومِن باب أولى، على القادة الحزبيِّين الذين يفرضون على الكوادر الأخرى من زملائهم رؤاهم الخاصَّة التي يديرون بها شؤون أحزابهم! هؤلاء، بكلِّ المعايير، أخطر من أولئك «الخبراء النَّاصحين» في الصُّحف، مِمَّن يمكن تخطِّي آراءهم دون أن يكون بإمكانهم تسبيب أيِّ ضرر لمن يتخطَّاهم! أمَّا هؤلاء «القادة الحزبيُّون» فمهووسون بمراقبة من يلونهم في التَّراتبيَّة الحزبيَّة، ليل نهار، ليروا إن كانوا يتَّسمون بالسَّمع والطَّاعة، أم لا! فإن جاءت النَّتيجة «لا»، يكون من نصيب الكادر غير السَّميع وغير المطيع الاطاحة الحتميَّة به من أعلى عليين إلى أسفل سافلين! أمَّا الأكثر خطورة فهو أن يكون المقذوف به منتخباً مِن مجموع الأعضاء، إلى موقعه في أعلى عليين، وربَّما بأعلى الأصوات! ففي هذه الحالة لا يكون المقذوف به كادراً فرداً، وإنَّما «الإرادة الجَّماعيَّة» ذاتها، وبقضِّها وقضيضها!
الجُّمعة
أكبر حقائق صراعاتنا السِّياسيَّة، منذ أيَّام الاستعمار، تمسُّك الجَّماهير بحريَّاتها وحقوقها، واستعدادها لذود الطَّير عن أشجار ثمرها الحلو. أمَّا أضرُّ ما يضرُّ بهذه الحركة فهو «إرغام» أيِّ كيان، بالقوَّة المادِّيَّة الغشوم، على «اليأس» من المجرى العام للتطوُّر، فيُدفع لشقِّ مسرب خاصٍّبه، ينحشر فيه، وهو له كاره! وليس أفصح فى التَّعبير عن ذلك من كلمة الشَّهيد عبد الخالق في الجَّمعيَّة التَّأسيسيَّة، وقد دخلها عن دائرة أم درمان جنوب عـام 1968م، عندمـا لاحـظ الاسـتخدام الميكانيكـي للَّائحـة، فطـالب بتطويعـها، كـون «.. تحديد الزَّمن فى مناقشة اتِّجاهات فكريَّة وسياسيَّة لم يكن لها وزن انتخابي، بالنسبة للقوَّة العدديَّة داخل المجلس، أمرٌ مضر». ثم بلغ ذروة غضبه إزاء الشَّكلانيَّة التى تؤدى لإفراغ الدِّيموقراطيَّة من مضمونها، فانطلق يحذِّر بأن «.. من الخير أن نقول (هنا) ما نريد .. بدلاً من أن نقوله فى الخارج (بطريقة) ربما (لا ترضي) شقَّي المجلس!» (مضابط الجَّمعيَّة، 19 يونيو 1968م).
لذلك عندما يقول النِّميرى، مثلاً، إن الشِّيوعيِّين «.. عمدوا إلى تحريض القوى السِّياسيَّة، تحت شعار استعادة الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة بحسبانها ساحة كانوا يتنفسون فيها وتوفر لهم قدراً من الحركة يتناسب مع حجمهم الذى يعترفون بأنه محدود» (النهج الاسلامي لماذا، ص 138)، فإنه يصيب من حيث يخطئ، وينصف من حيث يتجنَّى! فقد عكَّر الحزب الشِّيوعي عليه، عام 1977م، عرس «مصالحته» مع بعض أحزاب الجَّبهة الوطنيَّة (الأمة بقيادة الصَّادق، والاسلاميِّين بقيادة التُّرابى)، حين رفض الانضمام إلى تلك «المصالحة» بشروط السُّلطة، كالتَّخلي عن المعارضة، وقبول الانخراط في الحزب الواحد «الاتحاد الاشتراكي»، مثلما طَرَح خطَّة «الجَّبهة العريضة للدِّيموقراطيَّة وإنقاذ الوطن»، لإقناع القوى السِّياسيَّة كافَّة بأن «الدِّيكتاتوريَّة» هي سبب أزمة الحكم، وأن حلَّ هذه الأزمة لا يكون بمصالحة «الدِّيكتاتوريَّة»، وإنَّما بإحداث تحوُّلات ديموقراطيَّة راديكاليَّة «جذريَّة». وفى أغسطس 1977م أصدرت لجنة الحزب المركزيَّة بيانها الجَّماهيري الشَّهير: «الدِّيموقراطيَّة مفتاح الحل»، حيث أكدت أن الشِّيوعيِّين «.. لا ينادون: تسقط المصالحة ـ عاش الشِّقاق، (بل) كان شعارهم، وسيظل: تسقط الدِّيكتاتوريَّة ـ عاشت الدِّيموقراطيَّة» (البيان ، ص 21)؛ وناشدت المعارضة، بدلاً من ترميم النِّظام، وهو فى حال تصدُّعه الذى أجبره على طلب المصالحة، أن «تشدِّد نضالها لإلغاء قانون أمن الدَّولة المعدَّل، وحلِّ أجهزة الأمن، وضمان حقِّ العمل، وإلغاء القوانين التى تحدُّ منه، وتحريم تعذيب المعتقلين والسُّجناء السِّياسيِّين، والكشف عن جرائم التَّعذيب، والقتل العشوائي، ومحاكمة الذين أمروا بها، والذين ارتكبوها، وإلغاء قانون النَّقابات لسنة 1971م، ولائحة تنظيم النَّقابات لسنة 1972م، وإلغاء المواد فى قانون التَّعليم العالي التى تمسُّ استقلال الجَّامعة، وحريَّة نشاط اتِّحادات الطلاب، وإلغاء لائحة النَّشاط المدرسي، وإلغاء قانون ممارسة السَّيادة الشَّعبيَّة الذى يبيح للاتِّحاد الاشتراكي التَّدخُّل في نشاط المنظَّمات الشَّعبيَّة، ووقف الصَّرف من خزينة الدَّولة على حزب السُّلطة، ومنعه من استخدام وسائل وأدوات الدَّولة .. الخ» (البيان ، ص 15). ثمَّ عادت اللجنة المركزيَّة، لاحقاً، لتستكمل، من خلال دورة انعقادها فى ديسمبر 1978م، بلورة فكر الحزب من واقع التَّجربة المتراكمة حول قضيَّة الدِّيموقراطيَّة، ومحتواها الاجتماعى، بالمفارقة لبلدان المعسكر الاشتراكي ولبلدان الغرب الرأسمالي؛ ومايزت بين «الجَّبهة الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة» و«جبهة الدِّيموقراطيَّة وإنقاذ الوطن»؛ ونوَّهت لانكسار رأس الحربة فى ظاهرة إضرابات واعتصامات العاملين؛ وخلُصَت إلى أن «الانتفاضة» هى المخرج من أزمة الدِّيكتاتوريَّة إلى فضاء الليبراليَّة؛ وانتقدت صيغة الاتِّحاد الاشتراكي الذى «أصبح أسلوباً مرفوضاً ومرذولاً ومبتذلاً بالنسبة لشعب السُّودان، وازدادت أزمته تفاقماً (لكون) سادة التَّجربة الأم فى مصر تخلوا عنه نهائيَّاً» (الدورة، ص 5). عليه، وكيما يستقيم الحـوار مع السُّـلطة، فلا بد له من مقدِّمـات حدَّدتها الدَّورة فى توفير مناخ الحريَّات، وجماهيريَّة التَّفاوض (الدورة ، ص 10ـ13). ونلاحظ هنا أن ذلك كان سابقاً على شيوع استخدام مصطلح «الشَّفافيَّة/ الغلاصنست ـ Transparency» الذى أدخلته «البريسترويكا» فى الأدب السيِّاسي العالمي. كما طالبت الدورة بأنه، ولكون السُّلطة أصدرت، فى 27 نوفمبر 1977م، قانوناً «يحمى رجالها من .. المحاسبة .. منذ 25 مايو 1969م، فمن حق الشَّعب أن ينال قراراً مماثلاً برد الاعتبار لكلِّ الذين استشهدوا فى الصِّراع ضدَّ السُّلطة في معارك عسكريَّة، أو فى السُّجون والمعتقلات، أو تحت التَّعذيب، ونشر حيثيَّات المحاكمات» (الدورة، ص 14). وبلغت الدَّورة ذروة تلخيصاتها بتقريرها أن «.. ظروف بلادنا، بتعدُّد تكويناتها الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة والقوميَّة، وعدم التناسق فى تطوُّر قطاعاتها الاقتصاديَّة .. مازالت تشكِّل الأساس المادِّي الموضوعي لتعدُّد الأحزاب والكيانات السِّياسيَّة» (الدورة ، ص 65).
هكذا ، ومع وفرة الدَّلائل التَّاريخيَّة على تغلغل موضوعة الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة في النَّسيج الفكري للحزب، إلا أن دورة اللجنة المركزيَّة (ديسمبر 1978م)، وقبلها بنحو عام، بيانها الجَّماهيري «الدِّيموقراطيَّة مفتاح الحل ـ أغسطس 1977م»، شكَّلا، بطابعهما البرامجي، خطوة نوعيَّة متجاوزة بصورة متجاوزة، وحاسمة، بعد قرابة ثلث القرن من مراكمة كل تلك التَّجارب، بإعلانهما الواضح الانحياز نهائيَّاً لـ «الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة» منهجاً للحكم، ولتداول السُّلطة، بما توفِّره هذه الدِّيموقراطيَّة من مساحات واسعة للحريَّات، والحقوق، وامكانيَّات التَّداول الدِّيموقراطي «لا مجرَّد السِّلمي» للسُّلطة.
إذن، وتأسيساً على كلِّ تلك الخبرات، لم يعُد «عرج» الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة فى بلادنا، كما فى بعض وصف الحزب لأدوائها منذ فجر الاستقلال، وميلها إلى «الشَّكلانيَّة» بسبب هشاشة أساسها الاجتماعي فى بلادنا، وسطوة القطاع التَّقليدي، وضعف القوى السِّياسيَّة التى يُفترض أن تتبنَّاها، وسعيها لتبنِّى العنف لهدم الحريَّات والحقوق التى هي مضمون هذه الدِّيموقراطيَّة، وأساس نظامها البرلماني، بالاضافة إلى النَّقد «اليساري الطُّفولي» للحزب بأن «.. النِّضال من أجل الحقوق الدِّيموقراطيَّة البُرجوازيَّة لا يقود إلى شئ، وأن (الصَّحيح) هو الدَّعوة من فوق رأس البيوت للدِّيموقراطيَّة الجَّديدة» (دورة يونيو 1968م)، لم يعُد شئ من كل ذلك كافياً، منذ ما قبل انهيار حائط برلين بثلاثة عشـر عاماً، لدفع الحزب للتَّخلِّي عن النِّضال لأجل هذه الدِّيموقراطيَّة الليبراليَّة، أو حفزه للعودة للنظر، بأى قدر من الاعتبار، في المناهج الشُّموليَّة المتخندقة خلف شعارات «الدِّيموقراطيَّة الجَّديدة»، أو «الشَّعبيَّة»، أو «الثَّوريَّة» .. الخ.
السَّبت
لولا ما شاب نصوص بعض المواد المهمَّة في «مشروع الدُّستور الانتقالي لسنة 2022م» من «ارتباك الصِّياغة»، أحياناً، و«خطل المضمون»، أحياناً أخرى، لسارعت لضمِّ صوتي إلى أصوات المنادين بالالتفاف حول هذا المشروع، كون أغلبه مقبول. وأورد، في ما يلي، كمثال، فقط، على «الصِّياغة المرتبكة»، نصوص المواد/5/49 «الاشراف على الشُّؤون الأمنيَّة والدِّفاعيَّة»، و6/49 «رئاسة مجلس الأمن والدِّفاع»، و7/49 «الإشراف على جهاز المخابرات العامَّة وقوَّات الشُّرطة»، ضمن «اختصاصات وسلطات رئيس مجلس الوزراء الانتقالي»! وإلى ذلك أورد، كمثال، أيضاً، على «خطل المضامين»، نصَّ المادَّة/4/63 التي تضيف شرط «عدم الكفاءة» إلى شرط «الولاء لنظام 30 يونيو 1989م، أو نظام 25 أكتوبر 2021م»، لأجل استبعاد «مَن تمَّ تعيينهم في وظائفهم» عن طريق النِّظامين المشار إليهما، إذ أن «الولاء»، بمجرَّده، سبب كافٍ لهذا الاستبعاد!
الأحد
اللغات السُّودانيَّة المحليَّة تتلفَّع بأسرارها إزاء العربيَّة، خصوصاً على صعيد المعارضة السِّياسيَّة، وربَّما كانت النُّوبيَّة أكثرها علوَّ كعب في هذا المضمار! ويُروى عن عجوز حلفاويَّة كارهة لحكومة الفريق عبود أنها ظلت مواظبة علي الدعاء يوميا بعد صلاة العشـاء:
ــ «وونور اولن ولو كتكر ان هكومق مارام»!
وترجمتها: «يارب نصحى الصَّباح ما نلقى الحكومة دي»!
ولمَّا طال الأمد بدعائها دون استجابة، رفعت يديها، ذات يوم، بعد صلاة العشاء، ودعت:
ــ «ووونور انهكوملن ولو كتكر اوق مارجا»!
وترجمتها: «يارب الحكومة دي تصحى الصَّباح .. ما تلقانا»!
kgizouli@gmail.com