يمر السودان اليوم بحدوده الجغرافية الحالية بتحديات كبيرة مصدرها الاساسي غياب سلطة مركزية او ولائية قادرة على بسط السيطرة الامنية على ربوع البلاد.
تتعدد الاسباب بين ما هو متعمد و مقصود و بين ما هو طبيعي و متوقع في ظل الصراع السياسي الذي تمر به الدولة، غير ان اقوى افرازات هذا الوضع هو ظهور الإدارة الاهلية كسلطة تقليدية جاهزة لسد فجوة غياب الدولة القومية.
لكي نفهم طبيعة تحديات الادارة الاهلية، يجب الاقرار بان الحدود الحالية التي وجد السودانيون انفسهم يتعايشون فيها مع بعضهم البعض يعود تاريخها الى عهد الاستعمار، و تحديدا بعد معاهدة برلين الثانية عام (1884-1885) ميلادية.
عبر هذه المعاهدة اتفقت القوى الاستعمارية انذاك باقتسام افريقيا تحت عدة حجج. ابرز هذه الحجج ايقاف تجارة الرقيق، و بالطبع كانت هذه واحدة من اولى مراحل بداية سرقة و استنزاف موارد الدول المستعمَرة في افريقيا. نشر المسيحية ايضا كان احد الاسباب التي ادت الى غزو افريقيا، الامر الذي ادى معه الى ظهور قيادات اسلامية تدعو الى دحر المستعمر و من هؤلاء الإمام محمد احمد المهدي في السودان، عثمان دان فوديو في نيجيريا، عمر المختار في ليبيا، الحاج عمر تال الفوتي في غينيا و غيرهم كثر من من كانت لهم ادوار جهادية في تلك الحقبة
ما يهمنا هنا هو ان كل من بريطانيا و فرنسا فازت بنصيب الاسد من الاراضي الافريقية نتيجة معاهدة برلين الثانية، ثم البرتقال، المانيا، بلجيكا، اسبانيا و ايطاليا.
عندما تم تقسيم القارة الافريقية طبقا لمعاهدة برلين، لم يكن صاحب الارض حاضرا للتوقيع على بنودها (حدث الامر نفسه في اسيا و امريكا اللاتينية)، كما ان الموقعون لم ياخذوا بعين الاعتبار الانتشار الجغرافي لانسان هذه المناطق. و فجأة وجدت الكثير من القبائل و المجتمعات المستقرة انها مقسّمة بين قوى استعمارية مختلفة. بل ان الامر كان اكثر تعقيدا للقبائل الرعوية التي كانت تتجول بحرية جيئة و ذهابا في فيافي افريقيا من اقصى الغرب الى اقصى الشرق اينما وجدت الماء و الكلأ جنوبا و شمالا. و بدون سابق انذار اصبحت حرية الحركة لهذه القبائل مقيدة ببعض النظم الادارية الجديدة التي وضعها المستعمر، فانقطع بعضها عن جذورها.
عندما قدمت هذه الدول الاوروبية وجدت في داخل مستعمراتها نظم تقليدية لادارة شؤون مجتمعات مناطقها. تختلف هذه النظم في تطورها، حجمها، و نفوذها حسب حجم القبائل المكونة لها و كذلك تحالفاتها الخارجية مع جيرانها.
من المعروف ان نشأة الدول بصورة عامة بدات بمثل هذه النظم التقليدية و مع تطور الاوضاع نتيجة الحروب و الصراع على الموارد و ما تبع ذلك من تحالفات تكونت الدول الاوروبية بحدودها الحالية (اذا ما اختزلنا فترات الحروب الكبرى)
من هنا نكتشف ان دخول الدول العظمي في افريقيا و بقية دول جنوب الكرة الارضية قد اوقف التطور الطبيعي لمعظم نظم هذه المجتمعات (اوقف تطور علاقاتها في التبادل التجاري و كذلك اوقف تطور علاقاتها القائمة على اسس دينية كما هو الحال علي سبيل المثال لا الحصر؛ في الدولة السنارية، سلطنة الفور، مملكة سنغاي، تمبكتو، سكتو، فوتا تورو، و الداجو و موخرا المهدية في السودان).
النتيجة الحتمية لوجود مستعمر اكثر تطورا، كانت محاولة تطويع هذه النظم و تطويرها وفقا لما تقتضيه مصالح المحتل. بالطبع لم يكن هذا التطويع سهلا. فقد تمت مقاومته في بعض المناطق و في مناطق اخري لجأ المستعمر الى حيلة فرق-تسد لاحكام السيطرة على مناطق نفوذها.
من كل هذا نخلص الى ان نظم مجتمعاتنا لم يكتب لها ان تاخذ بوسائل التطور الطبيعي لتكوين دولة قومية ذات حضارة و اسس اجتماعية متجانسة، و ان الحدود الحالية هي حدود وضعها لنا المستعمر (و لذا سميت بالحدود الاستعمارية)، و الشعوب التي وجدت نفسها في حالة تعايش مع غيرها داخل هذه الحدود لم يكن ذلك التعايش باختيارها الحر.
بالطبع عاشت معظم الدول الافريقية تحت هذا التجانس النسبي لعقود طويلة، و الغريب في الامر انه عندما ظهرت حركات التحرر الوطني و التي ادت الى استقلال معظم هذه الدول، كلها اقرت بالمحافظة على الحدود الموروثة من الاستعمار، و تم التامين عليها بعد قيام منظمة الامم الافريقية عام ١٩٦٤.
اقرت منظمة الامم الافريقية مبدا الحدود الموروثة من الاستعمار لتفادي وقوع حروب بين كثير من الدول التي كانت حديثة الاستقلال آنذاك.
الان رجوع الادارة الاهلية في السودان الى جذورها القديمة وفق ما تراه بعض المجتمعات، سيوقظ هذا المارد الذي سعى قادة قوى التحرر الوطني في انحاء افريقيا الى حبسه في جرّة القي بها في قاع بحار التاريخ العميقة. بل ان الادارة الاهلية بتجلياتها الجديدة يبدو و كانها ستعصف بكل محاولات بناء الدولة القومية منذ ما يزيد عن قرن من الزمان . و التحدي الاكبر سيلقي بظلاله على الحدود الادارية الحالية للولايات و المناطق.
من جانب اخر فان الصراعات القبلية و المحلية التي يعيشها السودان سيكون لها امتداد دولي و اقليمي لو شاء لها ان تتطور و تتوسع و قد يصل دويها الى كل دول القارة السمراء.
الاوضاع في شرق السودان سيكون لها امتداد داخل ارتريا، و الاوضاع في غرب السودان تتصل مباشرة بتشاد، دولة جنوب السودان و إفريقيا الوسطى. اوضاع النيل الازرق لها امتداد طبيعي في اثيوبيا و مناطق بني شنقول. بل ان جنوب السودان أيضا ليست ببعيدة عن الحدث.
المثقف السوداني اليوم امام تحدي كبير لترتيب خياراته في التعامل مع الوضع الحالي. و يتمثل ذلك في ثلاث حالات.
الحالة الاولى عدم التدخل و التغاضي عن كل ما يحدث باعتباره “سحابة صيف و تعدي”
الحالة الثانية التدخل السلبي و تتمثل في اللعب على العواطف و محاولة الاستفادة سياسيا من الوضع
الحالة الثالثة التدخل الايجابي و محاولة رفع الوعي القومي مع السعي في تقديم حلول اقتصادية و سياسية عاجلة لراب الصدع.
تحليل هذه الحالات الثلاث في اطار الظروف المحيطة بالوضع السياسي الراهن هو عنوان لمقال اخر.
السودان يمر بمنعطف خطير .شكرا السر ننتظر منك الكثير في وصف أزمة النيل الأزرق بإعتبارك شاهدا عليها