شكّلت الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019م تعديل 2020م الترتيب الدستوري للفترة الانتقالية الذي جرى التوافق عليه من قوى ثورة ديسمبر المجيدة لحكم البلاد. جاء في مقدمة الوثيقة أنها جاءت استجابة لتطلعات الشعب السوداني لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وإعلاء قيم العدالة والمساواة، وحقوق الإنسان، ووفاءً لأرواح الشهداء، وإقراراً بحقوق كافة المتضررين من سياسات النظام البائد.
ورغم اختلاف الرؤى ووجهات النظر حول صياغة الوثيقة ومحتوياتها، فقد اشتملت على مجموعة من النصوص كانت كافية لمواجهة التحدّيات الكبرى التي يواجهها الوطن، وكان من الممكن أن تشكّل مخرجاً للبلاد من أزماتها المعقدة والمتشابكة، إلا أنها عجزت عن تحقيق أهدافها ومقاصدها لما صاحب تطبيقها من قصور واضح في كثير من جوانبها.
هذا القصور أسهم فيها شركاء الفترة الانتقالية دون استثناء كل بقدر، وإن تراوحت مستويات المساهمة، وكانت نتيجتها تعثر مسيرة الفترة الانتقالية لينتهي الأمر بحدوث الانقلاب المشئوم. إنّ قوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية والمؤتمنة على مكاسب الثورة، وحماية الدستور عبر الحكومة الممثلة لشركاء الانتقال لم تقم بواجبها في الرقابة والمحاسبة وحراسة الدستور بالشكل المطلوب، بل سارعت بعض مكوّناتها لفتح الباب أمام التجاوزات، وهي تتسابق نحو المحاصصة الحزبية في تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى، مخالفين بذلك ما أتفق عليه من ضرورة تكوينها من كفاءات وطنية مستقلة.
وفي ظلِّ عدم اتفاق أطراف الشراكة في الحكومة والتنازع فيما بينها حول عدد من القضايا الأساسية، فشلت الحكومة في القيام بمهامها وواجباتها الدستورية المتصلة بإنشاء وإدارة مؤسسات الحكم المدني، ممثلة في تشكيل المجلس التشريعي، وأجهزة الحكم الإقليمي، وإنشاء وتشكيل المفوضيات والأجهزة العدلية والمحكمة الدستورية، إلي جانب ما صاحب ذلك من صمت وتغاضٍ عن مجموعة من التجاوزات الدستورية الجسيمة التي ظل يمارسها المكون العسكري لتعطيل مسيرة التحول المدني، وقد صلت قمتها من خلال انفرادها بمفاوضات اتفاقية جوبا لسلام السودان، والتوقيع عليها في غياب أطراف الشراكة الأخرى، ومن ثم فرض تعديل الوثيقة الدستورية التي أكدت في نصوصها سمو الاتفاقية على نصوص الوثيقة الدستورية في أول سابقة تسمو فيها نصوص اتفاقية على الدستور أم القوانين.
هذا التعديل المخل والمخالف للفقه الدستوري، ولكل الأعراف الدستورية كان للحرية والتغيير منها نصيب، من خلال مشاركتها في إجازتها عبر الاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء. لقد نتج من اتفاقية جوبا لسلام السودان تعقيدات كثيرة تمثلت في قضايا المسارات، والإدارة والحكم وتوزيع الثروة والسلطة، وعدم عدالتها بحق بعض الولايات، وفتحت الباب أمام احتجاجات ومطالب جديدة في عدد من الولايات، كما نشأ الخلاف حول تاريخ انتقال رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني، على ضوء ما جرى من تعديل لمدة الفترة الانتقالية في الاتفاقية؛ ليتحول الأمر إلى تنازع وصراع جديد ومحموم بين المكونين العسكري والمدني، ومن ثم سجالات إعلامية في الهواء الطلق، أشرع كل منهما قدراته وإمكاناته لتركيع الآخر، وإقصائه من المشهد السياسي، وكانت نتيجتها الحتمية قيام المكون العسكري باستخدام القوة العسكرية والمادية والاقتصادية التي ظل يستأثر بها، وإعلان انقلابه العسكري في ٢٥ أكتوبر 2021م في أكبر خرق دستوري تشهده الفترة الانتقالية، وهذا ما أدخل البلاد في حالة من التوهان السياسي، والانهيار الاقتصادي والأمني والسياسي، لتفقد البلاد ما أنجز من تقدم في مجالات كثيرة، وليذيق الحكام الشعب كل أنواع الجوع والمسغبة والقتل والتشريد.
بحدوث الانقلاب المشئوم بدأ ت قوى الثورة مشواراً جديداً نحو إنهاء الانقلاب، واستعادة شرعية ثورة ديسمبر المجيدة التي مهرت بدماء الشهداء.
في ظل هذا الوضع ، كان من الطبيعي أن تبدأ الخطوة الأولي لاسترداد الشرعية والحكم المدني الكامل من خلال وقفة مع الذات؛ لتقييم تجربة ما مضى من الفترة الانتقالية بإيجابياتها وسلبياتها، وإعادة ترتيب الأوضاع السياسية؛ من خلال التوافق السياسي الشامل لقوى الثورة حول رؤية جديدة، وبرامج وآليات متطوّرة تضمن سرعة استرداد الشرعية للانتقال للحكم الديمقراطي الكامل، الأمر الذي تأخر كثيراً، وفتح الباب أمام التدخلات الاقليمية والدولية في ظل عدم الوصول إلى اتفاق الحد الأدنى، وتقاطع شعارات مكونات الثورة، ورؤيتها حول الحل المنشود.
لقد فعلت اللجنة التسييرية لنقابة المحاميين خيراً، وهي تقوم بأداء رسالتها الوطنية والمهنية من خلال مبادرتها بالتنسيق مع صحيفة الديمقراطي، وتفتح أبوابها لقوى الثورة من أجل تقييم الأداء لما مضى من الفترة الانتقالية من خلال الورشة التي رعتها بدارها، والتي شارك فيها طيف واسع من السياسيين والقانونيين وقوى الثورة والإعلاميين، وجرى فيها تناول التجربة بشفافية كاملة، مع تداول مفصل ومفيد لجميع قضايا وتحدّيات المرحلة الانتقالية؛ وصولاً إلى توصيات موضوعية في كثير من الجوانب.
لقد تطابقت توصيات الورشة في معظم جوانبها مع ما هو وارد بالوثيقة الدستورية بشأن البرنامج، وشكل الحكم وأجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية والعدلية، مع التركيز على ما كل من شأنه ضمان التحول نحو الحكم المدني، وتأكيد إبعاد العسكر من الحكومة التنفيذية، والتوسع في مجالات حقوق الإنسان ومحاسبة من ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والإبادة، وتفكيك النظام البائد.
على ضوء توصيات هذه الورشة كان الترتيب المنطقي لتنفيذ التوصيات الانطلاق من نقطة المقاربة بين الروئ السياسية المختلفة لمكوّنات الثورة حول قضايا الانتقال؛ وصولاً للتوافق السياسي ليجري على ضوئه الاتفاق حول الترتيبات الدستورية للمرحلة الجديدة، بخاصة أنَّ النقاش الذي دار في الورشة حول مسألة الترتيبات الدستورية أظهرت مواقف متباينة بين القوى السياسية بشأن هذه الموضوع بين من يرى صياغة دستور جديد، ومن يرى إجراء تعديلات في الوثيقة الدستورية تخرج المكون العسكري من الحكم، وتركز على التحول المدني، وهناك آخرون كان من رأيهم الرجوع إلى دستور ١٩٥٦م أو الرجوع للترتيبات الدستورية ذاتها التي أفرزتها تجارب الفترات الانتقالية بعد ثورتي 1964م و1985م.
في ظلِّ التطوّرات السياسية الماثلة، وما يبذل من جهود لجمع الصف الوطني؛ لتوافق سياسي يجمع قوى الثورة، يبقى السؤال الأهم ما المنصَّة الدستورية التي يجب أن تنطلق منها المطالبة باستعادة الشرعية الدستورية، هل هي منصَّة الوثيقة الدستورية الحالية أم أنَّ الوضع يتطلّب تجاوز الوثيقة الدستورية من خلال إعداد دستور انتقالي جديد كما ينادي به بعضهم؟
للإجابة عن هذا السؤال، نقول بدايةً أنَّ الوثيقة الدستورية تشكّل المرجعية التاريخية والسياسية لثورة ديسمبر المجيدة، وجرى التوصل إليها بتوافق جميع القوي السياسية الثورية الفاعلة بما فيها المكوّن العسكري، وبشهادة إقليمية ودولية، كما أنَّ الوثيقة الدستورية تمثّل المرجعية السياسية والتاريخية لإحدى أهم الثورات التي شهد عليها العالم، ومهرها الشباب والنساء والرجال بدمائهم الغالية، وبذلك فإنَّها مصدر فخر وإلهام للشعب السوداني، يستند إليها في مسيرة استرداد الشرعية؛ بوصفها الوثيقة التي خرج الشعب ضد خرقها؛ مطالباً العسكر للعودة إلى ثكناتهم؛ كما أنَّها تشكّل من خلال نصوصها مصدر الشرعية لقوى الثورة، وهي محطة مهمَّة في المسيرة الوطنية، يستوجب الاعتزاز بها، واستصحابها، رغم ما يراه بعضهم من سلبيات في الصياغة، أو التطبيق والممارسة في المرحلة السابقة .
كما يجب ألا يغيب عن البال أنَّ القفز فوق الوثيقة الدستورية بدستور انتقالي جديد يشكّل مخاطر وتعقيدات سياسية أخرى يصعب تجاوزها؛ في ظل صعوبة، بل انعدام التوافق الكامل بين أطراف العملية السياسية في البلاد، كما يسهل مهمَّة المجموعات التي تعمل على ضرب التوجه المدني، وتعطيل مسيرة الدولة للوصول إلى انتخابات حرة ونزيهة تكمل مسيرة الديمقراطية والدولة المدنية.
إنَّ محاولة تجاوز الوثيقة الدستورية بدستور جديد يفتح الباب لمجموعات الردة وأصحاب الأجندات المتطلعين لتحين الفرص بتجاوز الوثيقة الدستورية؛ بحثاً عن شرعية جديدة تتجاوز شرعية ثورة ديسمبر، ومن الشواهد على ذلك ما صرح به السيد مبارك المهدي في احتفال مبادرة الشيخ الجد عندما سئل من أحد الإعلاميين عن رأيهم في الوثيقة الدستورية في ظل المبادرة، إذ أجاب أنَّ هذه الوثيقة وضعت لحكم قحت، وقد تجاوزتها الآن الظروف السياسية، ولا بدَّ من وضع دستوري جديد يستوعب التطوّرات السياسية.
من أولويات المرحلة التي يجب أن تركز عليها قوى الثورة العمل على تجاوز السلبيات التي صاحبت الممارسة خلال ما مضى من الفترة الانتقالية، والمسارعة في العمل لخلق تحالف عريض من أكبر عدد من القوى السياسية ذات الهدف المشترك من أجل استرداد الشرعية، وتحقيق عودة العسكر إلى الثكنات؛ لذا ليس من الحكمة أو المنطق استباق وحدة الصف والتوافق السياسي بالسير قدماً لإصدار مسودة دستور انتقالي جديد؛ مما يعد أمراً سابقاً لأوانه، ويفتح الباب للتنازع حول مضامينها بين قوى الثورة، وكذلك مناهضتها من بعض القوى، وقد ظهرت بوادر ذلك من خلال صدور بيانات من قوى لها وزنها السياسي؛ لذا فإنَّ إعداد الدستور يجب أن يستند إلى اتفاق سياسي حول القضايا الوطنية، وبمشاركة عادلة من جميع مكوّنات الثورة التي يحق لها المشاركة في إعداده وصياغته؛ لذا فإن استباق إعداد الدستور للتوافق الوطني هو تكرار للتجربة السابقة التي جانبها التوفيق.
ما ورد من إشارات في رسالتي كل من البرهان وحميدتي حول استعداد القوات المسلحة والدعم السريع والقوات النظامية الأخرى الخروج من العملية السياسية والعودة إلى مهامها وفق الدستور والقانون، وما ورد من تأكيدات من جانبهما بضرورة الالتزام بتنفيذ اتفاقية جوبا لسلام السودان التي أصبحت جزءًا من الوثيقة الدستورية، بل تسمو عليها، إضافة إلى ما ورد في رسائلهما من الربط بين حل مجلس السيادة وتشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقوات الدعم السريع بعد تشكيل الحكومة المدنية، ذلك كله يؤكد إصراراهما على استمرار الشراكة بشكل جديد، وتمترسهما بالوثيقة الدستورية كمرجعية للشراكة.
في ظل هذه المفاهيم، فإنَّ التوجّه نحو اعلان دستوري انتقالي من جانب واحد قبل الاتفاق على إكمال استعادة الشرعية سيكون مدخلاً لهم للتنصل مما أبدوه من تنازلات، من خلال التمسك بالوثيقة الدستورية بوصفها الوثيقة المعتمدة والسارية المفعول، والتذرع بأنَّ قيام قوى الثورة بإعداد دستور آخر يعني خروجها طوعاً من الشراكة المقننة بواسطة الوثيقة، الأمر الذي قد يفتح جدلاً جديداً حول الوضع الدستوري، وقد تجد ادعاءاتهما المزيفة قبولاً من قوى مجتمعية كبيرة مما يعقد الوضع السياسي في البلاد.
إنَّ الأمر يتطلّب التفاوض بين أطراف العملية السياسية للوصول إلى اتفاق بين أطراف الشراكة الواردة في الوثيقة الدستورية وصولاً إلى اتفاق سياسي جديد يحقق استرداد الشرعية، ويضمن انتقال الحكم للمدنيين بشكل كامل، ويحدد دور القوات المسلحة والدعم السريع والأجهزة النظامية الأخرى، وفق الدستور والقانون؛ ليتم بناءً عليه تعديل الوثيقة الدستورية، أو التوافق على دستور جديد، وإعلان انتقال الحكم للمدنيين تحت ضمانات إقليمية ودولية. كما يجب ألا ننسى أنَّ الوثيقة الدستورية هي المرجعية لمجموعة من القوانين المهمَّة التي صدرت خلال ما مضى من الفترة الانتقالية قبل الانقلاب؛ لذا يفضل الإبقاء عليها؛ مع تعديلها بما يتوافق ومطلوبات الحكم المدني الكامل.
وعليه، ومع تقديرنا لوجهة نظر من ينادون بإعداد دستور انتقالي، والعمل المهني الذي رعته لجنة تسيير نقابة المحامين، وما بذل من جهد من لجنة إعداد الدستور والخبراء، فإنَّ ما يجري الآن لا يعدو أن يكون وضع العربة أمام الحصان، ولا يمكن أن تشكّل البداية الصحيحة للخروج من المأزق الذي يعيشه الوطن.
إنَّ الطريق الأمثل للوصول إلى الهدف المنشود من وجهة نظري هو التركيز على جمع الصف الوطني، وخلق أكبر كتلة وطنية، بوصفها أولوية لاستعادة الشرعية من خلال مرجعية الوثيقة الدستورية؛ على أن تُجرى تعديلات في الوثيقة، أو إحلال دستور انتقالي جديد محلها؛ بناءً على ما يجري التوصل إليه من اتفاق بين أطراف العملية السياسية؛ بما يضمن خروج المؤسسة العسكرية من السلطة الانتقالية، والعمل السياسي؛ وصولاً إلى الحكومة المدنية الديمقراطية الكاملة.
والله من وراء القصد
المستشار البشرى عبد الحميد محمد