إن معظم الصراعات المسلحة والنزاعات الحدودية سواء كانت بين المكونات السكانية للقطر الواحد أو بين الدول نجد أن محركها الأساسي هو التنافس على الموارد ومن أهم الموارد على الإطلاق هو مورد الأرض وقد كانت لقرون مضت تنحصر أهميتها في السكن، الزرع والمرعي ثم ازدات أهميتها مع النهضة والتطور الذي طرأ على العالم فأصبح الإستثمار بأنواعه المختلفة (نفط، معادن، مشاريع زراعية تستخدم الميكنة والحزم التقنية، التطوير العقاري والمزارع المختلطة) كل هذا جعل من الأرض محور الإقتصاد وعماد النهضة وقد إستدعي ذلك تدخل الدولة لتملك الأرض وحقوق استخداماتها والانفراد بسلطة التصرف فيها وتخصيص منافعها وفقا لسياسات وخطط وأهداف تلتقي جميعها في مظلة مايعرف بالتخطيط الاستراتيجي…
ملكية الأرض وطرق إستغلالها في السودان مرت بمراحل عدة أهمها صدور قانون تسوية الأراضي وتسجيلها لسنة ١٩٢٥ وقد إستفادت من هذا القانون الجماعات الحضرية وبعض مناطق السودان القريبة من المركز أو ذات الصلة به كالولاية الشمالية، الجزيرة، النيل الأبيض وسنار إذ قام المواطن في هذه الأقاليم/الولايات (المديريات سابقا) بتملك الأرض وتسجيلها في السجل العقاري كملك حر طبقا لنصوص ومتطلبات ذلك القانون بينما ظلت معظم اراضي كردفان، دارفور وشرق السودان تتبع نظام الحيازات العرفية وأراضي القبائل فيما يعرف بالديار أو الحواكير حتى صدر قانون الأراضي غير المسجلة لسنة ١٩٧٠ والذي يعتبر بكل المقاييس ثورة على عادات وتقاليد وموروثات أهل السودان وقد نص هذا القانون على التالي :
” بإسم الشعب
مجلس قيادة الثورة
بعد الإطلاع على الإعلان الدستوري الصادر في ٢ شوال ١٤٣٩ هجرية الموافق ١١ ديسمبر ١٩٦٩م وعلى القانون رقم (٩) لسنة ١٩٥٩ بشأن منازعات الأراضي القبلية المعدل بالقانون رقم (١٧) لسنة ١٩٦٣ وقانون التسجيل العقاري الصادر في ٢ جمادي الثانية ١٣٨٥ هجرية الموافق ٢٨ سبتمبر ١٩٦٥ والقوانين المعدلة له، وبناء على ماعرضه رئيس مجلس الوزراء وموافقة رأي المجلس المذكور أصدر القانون الآتي :
مادة (١)
(١) تعتبر مملوكة للدولة ملكية تامة جميع الأراضي والآبار القبلية غير المسجلة بمصلحة التسجيل العقاري والتوثيق، وتسجل باعتبارها من أملاك الدولة.
(٢) تلغي كافة التسجيلات العقارية المبنية على قرارات لجان منازعات الأراضي والآبار القبلية وتعتبر الأراضي والآبار التي سجلت على أساسها في حكم غير المسجلة وتنطبق عليها الفقرة السابقة، ولايجوز إجراء أي تسجيل بمقتضي قرارات اللجان المذكورة
(٣) الأراضي والآبار القبلية في حكم هذا القانون هي الأراضي التي تنتفع بها على وجه الشيوع قبيلة أو أكثر طبقا للعرف والعادات السائدة، ولايشمل ذلك الأراضي التي يملكها أفراد محددون أو عائلة معينة.
مادة (٢) :
مع مراعاة أحكام المادتين ٣، ٧ من هذا القانون (هذه المواد تتعلق بالتعويض) تستمر القبائل التي تنتفع حاليا بالأراضي والآبار المشار إليها في المادة (١) في الإنتفاع بها، ويجري الإنتفاع بها وفقا للشروط والأوضاع التي تضعها اللائحة بمايضمن عدم اهمالها أو ترك إستغلالها وتصدر هذه اللائحة بقرار من مجلس الوزراء بناء على إقتراح رئيس مجلس الوزراء أو من يفوضه ووزراء الإسكان والمرافق العامة، والزراعة والإصلاح الزراعي…
ومن هنا بدأ وضع يد الدولة على الأرض وبالنتيجة إبعاد القبائل وإدارتها الأهلية عنها تدريجيا ثم جاء قانون المعاملات المدنية لسنة ١٩٨٤ (وهو القانون الساري الآن) مؤكد على ذات الفهم ويحمل نفس المضامين مع إختلاف العبارات والصياغات وأهم مواده بشأن ملكية الأرض هي المادة (٥٥٩) التي تنص على التالي :
(١) الأرض لله والدولة مستخلفة عليها ومسؤولة عنها ومالكة لعينها وتعتبر جميع الأراضي من أي نوع التي لا تكون مسجلة قبل تاريخ العمل بهذا القانون كما لو كانت قد سجلت بإسم الدولة وأن أحكام قانون تسوية الأراضي وتسجيلها لسنة ١٩٢٥ قد روعيت بشأنها
(٢) على الرغم من نص البند (١) تعتبر ملكية عين كل ملكية عقارية تم تسجيلها بالملك الحر في إسم صاحبها قبل صدور هذا القانون وتظل كذلك حتى لو إنتقلت إلى الغير.
ثم صدر لاحقا قانون التخطيط والتصرف في الأراضي لسنة ١٩٩٤ وهو قانون يخول مجالس التخطيط القومية والولائية بموافقة مجلس الوزراء المعنى وضع الاستراتيجيات العمرانية ومايتصل بها من السياسات فضلا عن دوره في تخصيص منافع الأرض لأغراض السكن، الزراعة، الرعي، الإحتطاب، الإستثمار وكل حقوق الإرتفاق ذات الصلة بالإضافة إلى انفراده بوضع ضوابط المنح والتخصيص لكافة الأغراض …
إزاء هذه التشريعات لم يعد للقبائل دور في ملكية الأرض سوي ممارسة الحقوق التقليدية التي لا تتعارض مع سلطات الدولة وقوانينها ولوائحها بشأن تلك الأراضي وهذا يعني عمليا أن مسألة الديار والحواكير والحدود القبلية وسلطة رجالات الإدارة الأهلية وزعماء العشائر والقبائل وشيوخ الحلالات والقرى على الأرض هي مجرد سلطة إسمية ليس لها تأثير على النزاعات والاختلافات بشأن ملكية تلك الأراضي أو كيفية إستغلالها وأن السلطة الحقيقية هي الآن بيد الدولة وأجهزتها المختصة وأن هذه الأجهزة تمارس سلطتها في إنشاء وترسيم الحدود بين الولايات/الأقاليم أو المديريات/المحافظات أو المحليات أو المجالس البلدية /الإداريات وفقا لقوانين ولوائح الحكم المحلي وليس بناء على حدود موروثة عرفيا بين القبائل أو خشوم البيوت (البدنات)….
خلاصة القول أن الإحتكام في كل الحالات يتم وفقا للحدود الإدارية ، لذا علي الإدارت الأهلية وقيادات واعيان ومثقفي الأهل المسيرية والحمر عدم تسويق الأهواء وبيع الوهم لأهلهم وتابعيهم بالقول أن هناك حدود بين قبيلتي الحمر والمسيرية وإنما الصحيح هو وجود حدود إدارية بين مكونات الحكم المحلي ذات الصلة وأن ترسيم أو إعادة ترسيم أو تعديل الحدود يخضع لسلطات الدولة وليس لرغبة القبائل وهذا بالضرورة يعني أن أي ترسيم للحدود الإدارية لا يسلب المواطن أي مواطن سوداني – سواء كان من أتباع القبائل أطراف النزاع الحالي أو غيرها- من حقوقه الأساسية في التنقل، التملك الفردي، الرعي، الزراعة والاستغلال والاستثمار وفقا للقوانين والنظم السارية بكل دائرة اختصاص ….