اغضبني أن احد الجهلاء قد اورد في مقطع صوتي في التواصل الاجتماعي قصة كريهة عن الرجل العظيم توفيق صالح جبريل طيب الله ثراه . اورد أن احدهم قد ارسل غانية بعد أن اغراها بالمال لتطرق بيت رجل عجوز قد تاب من الخمر وتجعله يخرج من داره . ثم اغراها بالمال لتجعله يشرب الخمر وتوقع بالرجل العجوز وكان ميلاد قصيد كسلا اشرقت بها نار وجدي التي غناهل الكابلي . الرحمة للجميع .
قصيدة كسلا كتبت في الثلاثينات وقتها كان توفيق في عنفوان شبابه ، كان في الثلاثينات من عمره. وتوفيق طيب الله ثراه ليس بالرجل المبتذل ، ولهذا يقول .
انتحي ان جمع الناس فلا ** ارد الحوض صباحآ ما تباها
والذي تبتذل الدهماء من ** مغريات عافها القلب أباها
قبل 125 سنة ولد ابو الوطنية الشاعر توفيق صالح جبريل.
أبو الوطنية الشاعر توفيق صالح جبريل
فى 29 سبتمبر 1997 قدت حمله لاحياء ذكرى الوالد توفيق صالح جبريل ، وقد شاركنى فى هذه الحمله زميلات واخوة افاضل ، على رأسهم الاديب احمد عبد المكرم . وكان هذا خاصه على صفحات جريده الخرطوم ، التى كانت تصدر فى القاهره . وكان هذا بمناسبة مرور مائه سنه على ميلاد ابو الوطنيه وعبقرى الكلمه توفيق صالح جبريل . وفى سنه 2007 اعدت نشر هذا الموضوع فى حلقات فى الصحف وفى المواقع الالكترونيه . والآن اعيد نشره بالرغم من الغلطات الإملائيه بسبب النقل ولكنها لا تخفى على القارئ الحصيف .
والشكر اجزله للاستاذ الاعلامى والجندى المجهول المبارك ابراهيم صاحب الاسطوانات الغنائية برنامج حقيبة الفن في الاذاعة . المبارك ابراهيم عرف البروفسور ابو سليم بتوفيق صالح جبريل ، ولم يكن ابو سليم يعرف الكثير عن توفيق صالح جبريل لسؤ الحظ .
……………………………..
سأحاول في هذا المقال أن أتجنب الأشياء التي سيذكرها الآخرون، ولن أقيّم شعر توفيق لأنني لست مؤهلآ لهذا.
ولكن سأحاول أن أقدم بعض الصور التي قد لا تكون معروفة للآخرين.
شعر توفيق عبارة عن باروميتر أو مرآة تاريخية، تسجل كل ما يحدث حوله. ولحسن الحظ يضع التأريخ في أغلب قصائده وربما هذا بسبب عمله الإداري والقضائي. وله مقدرة عجيبة علي تسخير الكلمات وتشكيلها ويكاد يكون كإبن الرومي لو أراد لجعل كل كلامه شعرآ. وهذا شيئ رائع بالنسبة لإنسان لا تعتبر العربية لغة أمه. فوالدته هي شريفة إبنة سليم بن عبد الله، وهي محسية لا تتكلم العربية بطلاقة.
من نوادر توفيق أن أمه كانت في طريقها لزيارته في كسلا في الثلاثينيات ووالدته قد تخطت السبعين عامآ وقتها، وتعطل القطار في احدي المحطات فاتصل توفيق بناظر المحطة لمساعدة والدته فسأل ناظر المحطة محتارآ :\”أمك دي أعرفها كيف يا توفيق؟\” فقال توفيق بمرحه المعروف : \” سهلة جدآ أمي علمية وعجمية\” هذا إشارة لقامتها الفارعة وعدم تمكنها من العربية وهي تشبه حفيدتها وهي شاعرة وقد رثت عمها توفيق بقصيدة \”قومية\” .
أمال علي صالح جبريل.
لقد أعطانا توفيق 383 قصيدة منشورة في ديوانه من أربعة أجزاء (أفق وشفق) الذي حققه الدكتور محمد أبراهيم أبو سليم ومحمد صالح حسن كما أعطانا تأريخآ حافلآ بالنضال والوطنية.
وكما قلت في مقالات سابقة فإن توفيق هو أبو الوطنية السودانية بلا منازع ولم نعطه نحن شيئآ سوي لوحة صدئة في جدار داره يغطي جزء منها الطلاء الأصفر \”ساحة الشاعر توفيق صالح جبريل\” حتي هذه اللوحة البائسة وجد أصدقاء ومحبي توفيق كثيرآ من العناء قبل تثبيتها. فالسلطة وتوفيق ضدان لا يلتقيان.
قبل أسبوعين نجحت في إقناع لجنة الحي وبعض رجال أم درمان في إطلاق إسم توفيق علي الحديقة أمام داره، وعندما رفعت اللافتة \”حديقة الشاعر توفيق صالح جبريل\” أتي بعض الجزاريين من الحي وبعض البسطاء وهددوا بالموت وعظائم الأمور واستنكرو إطلاق إسم توفيق علي الحديقة وكانوا يقولون : \”كيف تسموا الجنينة دي علي توفيق؟ وتوفيق ده منو؟ ونحن رجال الحي ده كيف تسموا الجنينة بإسم زول تاني؟ من الموكد أن هنالك من دفع بهؤلاء البسطاء.
إن الغلطة في المقام الأول هي غلطتنا نحن المتعلمين فمن العادة أن نهمل عظمائنا. الإذاعة البريطانية قدمت توفيق إلي المستمعين قبل عدة شهور وتحدثت عن عظمته وشعره والمبادرة أتت من أحد العرب وأنجز البرنامج الأستاذ محمد خير البدوي الذي يخصه توفيق بأحدي قصائده.
حتي الدكتور أبو سليم يعترف بأنه لم يتعرف توفيق إلا من خلال القصيدة التي غناها الكابلي \”كسلا\” وإذا كان هنالك من لا يزال يسأل عن من هو توفيق فتوفيق قد ولد في جزيرة مقاصر إقليم دنقلا في 29 سبتمبر 1897 وجده جبريل من الشلال بمصر وأصله كنزي وانتقل والده إلي السودان في أيام التركية.
نشأ توفيق في منزل عرف بالسرايا أو قلعة صالح جبريل ولا يزال قائمآ وهو أول منزل في أم درمان يبني بالطوب الأحمر وعلي هذا الطراز، وقد أحضر الطوب من سنار بالمراكب والمنزل يقدر بآلاف الأمتار وأمامه دكاكين كانت مشهورة لإزدحامها بالبضائع وكل الخيرات عرفت بدكاكين صالح جبريل وأمام الدكاكين سبيل صالح جبريل بسقيفة جميلة وماء نمير لعابري السبيل. السقيفة قد إنهارت والجرار تعاني من الجفاف. ولم نستطع كعادتنا أن نحافظ علي ما تركه لنا الرجال. والأغنية يا بدور القلعة وجوهرها تشير للسرايا.
الدهليز الذي إشتهر كمنتدي للأدباء والشعراء منفصل عن السرايا وبابه كان أعرق باب سنط في أم درمان وقد صنعه في أول المهدية \”ود السني\” وهو من أسرة مدني السني التي تنسب إليها عاصمة الجزيرة \”ود مدني\” .
باب الدهليز قد صار في خبر كان وكذلك الدهليز وأبدل بباب هزيل من الخشب المهترئ والمنطقة أمام الدهليز حيث كان يجلس أعظم الرجال صارت مبولة،تغطي بالقازورات إننا نتبول علي نصب تذكاري. إذآ ما العجب في أن حالنا هو حالنا؟؟!
السرايا قد قسمت.فالحوش والصالون العتيق يستأجره بعض تجار السوق الذين يحضرون في الليل للنوم. ووسط السرايا وقبلها تستأجره أسرة.وانزوي أهل السرايا في هذا الزمن الجائر في جزء صغير من البيت.
كانت هنالك خلوة ملحقة بالسرايا وفي هذه الخلوة تعلم توفيق وشقيقاه علي وأبراهيم وأختاه كلثوم وفاطمة. ثم تتلمذ علي يد أساتذة خصوصيين وتخرج في كلية غردون في سنة 1916 وعمل بالتدريس في الأبيض إلا أنه إستقال بسرعة قائلآ أنه لا يستحق شرف أن يكون معلمآ.
بالرغم من هذه النشأة المترفة إلا أن توفيق كان متواضعآ وبسيطآ جدآ يحب كل الناس ويؤمن بالعدالة الإجتماعية ويدعو إليها ويدافع عن البسطاء والمسحوقين. وعرضه هذا لأن يكون حادثة شاذة. فهو الإداري الوحيد في السودان الذي عمل في الإدارة لأكثر من ثلاثين عامآ بدون أن يترقي ولم يساوم أبدآ وهو القائل
سألاقي الموت صلبآ كالرماح
تاركآ بعدي شيئآ لن يموت
هو ماذا؟ إنه الحق الصراح
ويقول
نزلاؤنا النبلاء الكرماء من أبناء جنس
الصاعدون إلي العلا النابذون لكل رجس
عمالنا الغبش الخفاف الخشن لم ألجأ لملس
أنتم حياة الشعب حامو وحب الشعب قدسي
ما بعتم يومآ ضمائركم بغال أو ببخس
أو حمتموا حول \”السرير\” ولا تمسحتم بكرس
وكان ينشر الشعر مهاجمآ الإنجليز حتي حرف التاء.
توفيق كان يصادق كل الناس من كل الأعمار لم يكن كالآخرين من جيله يبني الأسوار أمام من هو أصغر منه سنآ ومكانة. وكلما أتذكره أحس بيده تقبض علي عنقي ويشدني بقوة إلي صدره شاتمآ بمزاح . وعنما تهيئ إبنته مرقده علي المسطبة كان يفسح لي مكانآ عند قدميه ويتبسط معي،
علي عكس أبراهيم بدري الذي لم يحدث أن أكلنا معه أو جلسنا أمامه. كطريقة ذلك الجيل
من أصدقاء توفيق المقربين محمد عثمان يس الذي صادق توفيق وهو في العشرين من عمره وتوفيق قد تقدم نحو الأربعين، ومن وحي تلك الصداقة وليالي الأنس خرجت قصيدة كسلا.
وصادق توفيق صالح عبد القادر وهو أحد المؤسسين لجمعية الإتحاد السرية كما صار الصديق اللصيق لمنير إبن صالح عبد القادر وخصه ببعض قصائده وذكر إبن منير الفرذدق. وعندما قدم لي الفرذدق قبل شهور في أبوظبي لأول مرة قلت له أنت الفرذدق منير صالح عبد القادر وعندما رأيت الدهشة في وجهه قلت له جدك ووالدك من أصدقاء توفيق صالح جبريل.
وعندما يقول توفيق
محمد محمد * أنت طيري الفرد إن الأنام رقدوا*فقم معي نغرد
من الصعب نصدق أن الشاعر يخاطب طفلآ عمره ثلاثة سنوات هو محمد سر الختم علي صالح جبريل.
توفيق كان مثالآ للسوداني الهميم لطيفآ سهلآ \”حنينآ\” وأغلب شعره وأحسنه يدور حول أصدقائه الكثيرين وأبناءهم وأهلهم. تخبرنا إبنته سكينة كيف كان يعتكف لشهور عندما يموت أحد أصدقائه
لا يخرج او يخاطب أحدآ وأجود ما قال كان في رثاء أصدقائه كرثائه لعبيد حاج الأمين بطل 24 الذي سجن ونفي إلي واوودفن فيها
جاهدت لا متبرمآ تخش الردي ** وسهرت تعمل والأنام هجود
وارتك أكناف الخلود مناضلآ ** بيني وبينك يا عبيد بعيد
ويناجي إبنه أبراهيم بدري بعد موت صديقه ومرض توفيق
يا بنت إبراهيم حياك الحيا عند المقيل
عز الوصال وليس بيني وبينك غير ميل
ورثي والدته شريفة بعد أكثر من عشرين سنة من موتها
مضت أمي بآمالي الغوالي وبدد فقدها العطف الأخير
قصيدته مصرع البائس تعبر عن إحساسه بآلام الآخرين ويقول
علي كتفيه أسمال تلاشت ** تلوز بها الخطوب وتستتر
وينهي القصيدة ببيت شعر يعكس تمرده وعدم قبوله الضيم
يموت أخوكم الإنسان جوعآ ** وإملاقآ أما في الناس حر
توفيق كان بسيطآ في طعامه وملبسه وطريقة حياته، أكلته المفضلة \”القراصة والتركين\” أو القراصة بدمعة الدجاج ولم أري توفيق مرتديآ أي شيئ سوي الجلباب البسيط وإن كان سعيد الذي رافقه وخدمه جزء كبير من حياته ولا يزال يتمتع بصحة جيدة يقول بأن توفيق كان يرتدي البنطلون وصوره الفوتوغرافية في العشرينات تظهره كشاب في منتهي الشياكة بملابسه الأوروبية وهنالك صورة لتوفيق قبل أن يبلغ السابعة من عمره وهذا شيئ نادر في ذلك العصر.
(4)
توفيق كان لا ينام علي أي شئ سوي العنقريب وغرفة نومه لا تزال كما هي تتوستطها المرآة الأثرية التي احضرها والده من مصر والعنقريب وإن كان قد تغير بآخر لا يزال بالقرب من الشباك.
توفيق كان يصلي الفجر حاضرآ كل يوم كما تعود في خلوة أبيه ويقرأ القرآن إلي ميعاد الفطور ولم يتوقف عن قراءة القرآن إلي أن مات ويحتسي الحليب في المساء بإنتظام.
الأصدقاء كانوا يحضرون في الضحي لشرب القهوة والشاي ومناقشته الأدب والشعر وبالسؤال أكد إبنه الجنتلمان علي توفيق وبناته وأحفاده بأنه كان يكتب الشعر في الصباح عندما يكون المنزل هادئآ وقبل حضور الأصدقاء. بالرغم من مرض النقرس وتردد توفيق علي الأطباء والمستشفيات إلا أنه كان مرحآ ودودآ تجلجل ضحكته في دارنا وعندما يكون مع أبي لا يطلب أبي الأسبرين ولا يشتكي من آلام الشقيقة فرفقة توفيق تذهب الألم. ويصير والدي مرحآ ودودآ مما يشجعني للتواجد في البرندة وسماع كلام توفيق . من بعض نوادر توفيق أن أحدي قريباته كانت تسكن عنده وإسمها الجاز ، وهي إمرأة متعبة كثيرة الطلبات والصياح وتسبب كثيرأ من المشاكل ، وكان توفيق يعتبرها إمرأة شؤم وتوفيق يحب المرح والجمال. ذهبت الجاز شاكية لكبار العائلة لآن توفيق كان يلعنها في بعض الأحيان. وانعقد مجلس حرب وطالبوا توفيق أن يعامل الجاز برقة لأنها إمرأة مسكينة لا ذرية لها وإن الله قد أكرمه بأن جعله مسئولآ عنها وأخذ الرجال عهدآ علي توفيق بأن لا يسب المرأة بعد هذا ولم يتركوه إلا بعد أن أقسم.
وبينما الرجال في طريقهم خارج الصالون، لحق سعيد يتوفيق وهو علي السلالم وأسر له شيئآ فانفجر توفيق قائلآ \” إنعل أبو الجاز واليوم الجاب الجاز والبعرف الجاز والبتكلم في الجاز\” فصدم الرجال وضحك توفيق موضحآ بأن الثلاجة التي رافقته في كل السودان قد توقفت لإنعدام الجاز. وبعدها لم يسب الجاز.
عندما كان توفيق نائبآ للمأمور في الدامر قدمت له بعض النسوة بتهمة صناعة العرقي فحكم علي بعضهم بالسجن وهؤلاء من لهم سوابق وحكم علي الآخرين بالغرامة أو السجن ومثلت أمامه السيدة زينب فقال لها توفيق \”زينب منو؟\” \”أنا زينب القزوزة جنابك\” فقال توفيق \”القزوزة عرقيك نضيف وتمام…إفراج !!
كان من عادة الإنجليز أن يحتفلوا بعيد جلوس الملك جورج وينصبون الأعلام والزينة في كل مدينة في السودان، وحدث أن كل الأعلام والزينة قد أحرقت في الليل. وحاول توفيق بصفته ممثل الحكومة في أم روابة أن يعتقل المجرم وفشل توفيق. وسجل بلاغ ضد مجهول لآن توفيق كان هو الذي أحرق الأعلام والزينة في الليل وقد سجل هذا في احد قصائده.
وكان توفيق يتفادي تنفيذ الأموامر الإستعمارية التي تضر بالناس ولقد قال قد
ولو كنت مأمور لنفذت أمرهم بأكمله ولكني نصف مأمور
توفيق كان يتأثر بكل شيئ يحيط به وهو علي سرير المرض يقاسي من آلام النقرس الفظيعة
شاهد من شرفة المستشفي الإصلاحات والطرق المرصوفة والإضاءة الحديثة في بداية الستينات فأهدي قصيدة إلي الأستاذ فتح الرحمن البشير ضابط مجلس بلدي أم درمان.
(5)
عندما لم تنتظر النساء من أهل بيته مفعول الدواء وأتو بأحد المشعوذين كتب قصيدة يندد بالمشعوذين ويعتذر للدكتور إسماعيل نابري الذي عالج حفيده ولو لا توفيق لما عرف الناس إن الدكتور نابري كان شاعرآ.
في القصيدة \”معرفة بالإكراه\” مداعبآ الأستاذ عبد الله رجب صاحب جريدة الصراحة ولم يكن قد قابله
رمت لقياك فحارت قدمي ***أين ألقاك وحالت حجب
إنما موعدنا للملتقي *** أن نعش سبتمبر أو رجب
وإذا متنا وهذا قدر *** سوف يرعاها بنونا النجب
ليس هناك شاعر أشاد بشعر الآخرين كتوفيق ، بل أظنه الشاعر الوحيد الذي عشق شعر الآخرين وتشبب به كأنه حسناء . وأشاد بشعر الأخطل الصغير والشريف الرضي وعندما مات الشابي الشاعر التونسي نعاه توفيق قائلآ
نظم الحياة قصيدة لا تعجبوا *** أن يخلب الألباب شعر الشابي
وفي قصيدة \”إلي صديقي الشاعر الملهم\” بتأريخ 30/9/62
يا بلبل الوادي ومؤنس روضه ** من ذا الذي شدو لنا ويغرد
وهذا لأن سيارة أجره قد صدمت الشاعر المجذوب وكادت أن تؤدي بحياته. كم من أهل السودان يتذكر هذه الحادثة لو لا قصيدة توفيق.
ولأنه كان يكره الإنجليز فلقد كان له كلب أسماه جون وعندما مات الكلب كانت له قصيدة تداولها الناس في السودان وإسمها \”الكلب جون\” . ونظم قصائد يحي فيها الندوة الأدبية في مدني والأبيض سنة 1945 وأم درمان سنة 1960 وعن طريق قصائد توفيق نعرف أن الندوات الأدبية كانت شيئآ معهودآ في مدن السودان . أين نحن اليوم من هذا؟ !
وعندما تتحطم سيارة صديقه على عبد اللطيف وقيع الله \”الفيات\” سنة 1928 يعزيه توفيق بقصيدة. مما يعرفنا بأنه كانت للسودانين سيارات حتي في العشرينات.
وعندما سقط عرش النجاشي في الثلاثينات نظم قصيدة بهذه المناسبة والقصد أن يحس الإنجليز بأن ملكهم سيزول ويقول
سل الطائر المشؤم كيف تبددت *** جيوش النجاشي بل وأين رؤوسه
كأن لم يكن ملك عريض ولم تكن *** تطل من القصر الأشم شموسه
(6)
لا يخفي إرتياحه لسقوط نوري السعيد في العراق سنة 1958 بقصيدة \”مصرع طاغية\” وكان نوري السعيد قد حاول الهرب متخفيآ في زي إمرأة
ألبست ثوب الحيزبون تخفيآ ** ما أنت في الحرب الذبون بناجي
ويخاطب الإستعمار في نفس القصيدة قائلآ
غيبوا بدولاراتكم عن أرضنا لا نبتغي منكم بروج العاجي ما دام هذا النيل يجري مرسلآبرخائه المتدفق الثجاج
ويخاطب السودان في قصيدة وطني
إنما حبك نجوي لا بكاء ونواح
إنه كاللحن ينساب شجيآ في انشراح
ويؤلف قصيدة يشيد فيها بحسن نجيلة وينّوه بكتابه \”ملامح المجتمع السوداني\” والقصيدة بعنوان \” ملامح من الملامح\” . وبينما نحن الآن نلهو بالأغاني الهابطة كان لتوفيق قصيدة طويلة من عيون الشعر يلهو بها في القعدات مع الصحاب إسمها \”عبث أم روابة\” يذكر فيها أصدقائه الخانجي ، عثمان بشير نصر، حسن خورشيد ، الكوباني ، عالم محمد عالم ، جورج ، وآخرين وكل مقطع من بيتين يدد بعدها الصحاب ، لراحتي والسلام !
عابدين ويحك صاح ** لقد نكأت جراح
ذكرتني عهد راح ** مداره الصباح
لراحتي والسلام
عثمان إذ يتغني ** يخفف الهم عنا
حتي إذا الليل جن ** نال الفتي ما تمني
لراحتي والسلام
هكذا كان أهل السودان يلهون علي هذا المستوي العالي . نحن الآن نعيش زمن الإفلاس الفكري.
رثي توفيق الدكتور أنيس بقصيدته \”هجع أنيس\” . وأنيس كان سفيرنا في امريكا في الخمسينات وعمل كطبيب في جبال النوبة في رشاد وهيبان ولولا قصيدة توفيق لطواه النسيان
كالآخرين الذين خدموا الوطن. كما كانت تربط توفيق صداقات جميلة بمئات البشر بعضهم مسيحين وآخرين غير سودانين مثل القاضي رزق الله في أم درمان ولمنيوس اليوناني وله قصيدة بعنوان إلي \” إلي أخي شفيق فهمي\” .
وتفاعل مع ثورة أكتوبر بقصيدته \”نشيد الزحف المقدس\” حتي المناسبات والمفارقات البسيطة يسجلها في شعره ، فعندما فشل في إسترجاع ديوان \”لزوم ما لا يلزم\” لأبي العلاء المعري لآن المجلّد طالب بمبلغ لم يتوفر عند توفيق وهو 55 قرشآ يقول
جلاد كتب أنت أم جلادي ** فعلام أنفق طارفي وتلادي
قصيدته في رثاء أبراهيم بدري عبرت عن عواطفه وألمه لفقد الصديق الذي كان يسميه بتوأم الروح وامتدت صداقتهم لآكثر من أربعين عامآ ويقول
مات خل الأربعين غدا ** ماضيآ ويلي فقدت غدي
جف زهري قاض رونقه **وخلا من بلبل غرد
ويخاطب إبن صديقه قائلآ
يا كمال البدر سر قدمآ ** إن سر الشيخ في الولد
(7)
في إحدي قصائده يشيد بشعر التجاني عامر والمتنبي والسيد أسعد الأسعد سفير لبنان في السودان في قصيدة \”إلي سفير الشعر\” ولا يتسع المجال لذكر كل الشعراء الذين أعجب بهم وبشعرهم إلا قصيدته في شعر التجاني يوسف بشير ورثائه تستحق الإهتمام.
في بداية العشرينات أصاب كثير من الشباب إحباط شديد بعد تقديم \”سفر الولاء\” وإعلان أقطاب السودان ولاءهم للإنجليز ومن المؤكد أن الشباب قد تأثروا بحركة تركيا الفتاة وكمال أتاتورك وسعد زغلول ومصطفي كامل وآخرين من مصر.
وتوفيق هو أول من فكر في تنظيم وطني للشباب وأول من دعي للوطنية وهو مؤسس جمعية الإتحاد السرية ومن المؤسسين عبيد حاج الأمين الذي مات في سجن واو. محي الدين جمال أ[و يوسف ، وسليمان كشة ، أبراهيم بدري وصالح عبد القادر وآخرين منهم خليل فرح الذي شارك بغنائه وبدأت الإجتماعات في منزل عبيد حاج الأمين ثم إنتقلوا إلي دار الحكمة وتخص سيدة تعرف ب \”فوز\” . وأتي أبراهيم بأصدقائه منهم محمد صالح الشنقيطي الذي كان رئيسآ للجمعية التشريعية ثم البرلمان ثم البرلمان و عبد الله خليل الذي صار رئيسآ للوزراءومحمد على شوقي ..
وتكون الإتحاد من خلايا ، كل خلية من خمسة أعضاء أحدهم مسئول إتصال يتصل بدوره بخمسة آخرين عن طريق مسئول إتصال إلي قمة الهرم المكون من 13 عضوآ ومن هذا التنظيم السري كان هناك تنظيم آخر هو اللواء الأبيض بزعامة علي عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين ولهم جناح عسكري ممثلآ في الظباط والجنود السودانين منهم ثابت عبد الرحيم وحسن فضل المولي وسليمان محمد وعلي البنا وعبد الفضيل ألماظ الذي إستشهد مع الآخرين في معركة الخرطوم وحكم علي الظباط الآخرين بالإعدام.
ونشيد الحرية لهذه المجموعة كان القصيدة التي نشرت في سنة 1922 بمناسبة حضور اللورد البريطاني الانبي حاكم الشرق الأوسط المهاب والذي رحب به الكبار. وقال توفيق الشاب
أيها القوم لا تجروا الزيولا * يأنف الحر أن يعيش ذليلا سمتمونا العذاب ضّيقتم الأرض* علينا حتي هوينا الرحيلا
ويح قلبي ماذا يروم الانبي *** يوم وافي يجر سيفآ صقيلا
جمع الجمع أرهب القوم *** حتي أصبح السيد النبيل ذليلا
ونشرت عدة مقالات في نفس السنة لأبراهيم بدري في جريدة الحضارة تحت عنوان \”نفثة مصدور\” وسلسلة مقالات أخري \”كيف نبني أمة\” ولتوفيق قصيدة كذلك إسمها \”نفثة مصدور\” تشير إلي تلك المقالات.
أين كان توفيق أثناء أحداث 1924 ؟ فالجواب الموثق هو أن توفيق كان بعيدآ عن الخرطوم وأول مكان عمل به كنائب مأمور كان في مدني مع محمد أحمد الخواض وأبراهيم بدري ثم أرسل كل منهم إلي جهة مختلفة وذهب توفيق إلي جبال النوبة وأبراهيم بدري إلي جنوب السودان.
(8)
في سنة 1923 كان توفيق نزيلآ بمستشفي مدني بداء معوي فقال شاكيآ مداعبآ صديقه أبراهيم بسخريته المعهودة وكان له خادمآ إسمه \”دين\” ودكتور درزي إسمه \”نكد\” وحصانه أعرج فقال
خادمي دين ودكتوري نكد *** ذهجت روحي من هذا الجسد
فحصاني أعرج محدودب *** كان يمشي خطوة أو يكد
وتنقل توفيق في أغلب مدن غرب شرق شمال ووسط السودان مثل دلامي رشاد هيبان بارا الدامر ويذكر حلايب التي عمل فيها في شعره وأم روابة كما عمل في سنكات بورتسودان الخرطوم والخرطوم بحري وكسلا التي بها شارع بإسم توفيق صالح جبريل وهنالك شارع بإسم توفيق في الدامر.
هنالك بلاد لم يعرفها أهل السودان إلا عن طريق شعر توفيق مثل دلامي التي أحبها توفيق وخلّدها بشعره.
الصحف اليومية في الخمسينات والستينات كانت مليئة بشعر توفيق. وكان يحدث أن يكون لتوفيق أكثر من قصيدة في أكثر من جريدة في نفس اليوم.
توفيق يعود بإستمرار في شعره لحوادث 24 ورجالها وإلي أن مات كانت حياته تدور حول تلك الأحداث وتلك الأحداث هي التي كانت اللبنة الأولي في بناء القومية السودانية وكما قال المفكر المصري الأستاذ حسين ذو الفقار في كتابه \”سيادة السودان\” أن الأيام الحاسمة في نوفمبر 1924 ومعركة الحياة والموت في شوارع الخرطوم كانت نقطة إنطلاق للقومية والشخصية السودانية.
من الذي بدأ المبادرة لإطلاق الوطنية السودانية من قمقم القبلية والعصبية ؟! إنه الشاعر توفيق صالح جبريل. لقد حورب توفيق في حياته بواسطة الإنجليز والسادة ورؤساء الطوائف. وحورب بعد موته ويحارب الآن بعد مائة عام من ميلاده. ولقد قال للسيد روبرتسون السكرتير الإداري الذي كانت أسنان الرجال تصطك عندما يقفون أمامه
أأنت موزع الأرزاق فينا ** ومجري الطيبات علي العباد ؟
إذا كنت جبارآ عنيدآ ** ستلقي بأسي جبار عنيد
وربك إذا ذهبت إلي قريب ** بربك إذا ذهبت إلي بعيد
سيجري النيل في واديه زهوآ ** ويحى الشعب في عيش رغيد
بعد أحداث 24 غضب السادة الزعماء الذين أصابهم بعض الخير من جرء الإستقرار والإتجار مع المستعمر وخافوا أن يفقدوا مكاسبهم المادية. وشنو حملة عنصرية لأن قائد اللواء الأبيض كان من والدين ينتميا إلي جنوب السودان وجبال النوبة. وقالت صحيفة الحضارة التي تمثل السادة \” أن الأمة تشعر بالإساءة عندما ينبري أقل الرجال شأنآ وأوضعهم مكانة في المجتمع بالتظاهر بأنهم يعبرون عن فكر الأمة\” !!! وواصلت \”الحضارة\” مذكرة الناس بأن الغبار الذي يثيره مثل هؤلاء \”يسبب الإزعاج للتجار ودوائر المال\” وناشدت الحضارة السودانيين الحقيقين إلي سحق أولاد الشوارع . وفي سلسلة من المقالات هاجمت الحضارة رجال 24 ووصلت الحد عندما قالت \” إن أمة يقودها علي عبد اللطيف هي أمة وضيعة\” وهنالك قائمة مكونة من 38 رجلآ هم الزعماء الدينين، مفتي السودان ، القضاة ، المفتشين ، العمد ومجموعة ضخمة من التجار الذين خافوا علي مصالحهم أحدهم صالح جبريل. ترتيب بابكر بدري في هذه القائمة هو الخامس والعشرين وهذا تصرف مخجل لرجل عظيم.
محمد صالح الشنقيطي بعد عن الحركة لدخول أبناء \”الأمة\” ولقد شفع لعلي البنا وغير الحكم إلي عشرة سنوات أما الآخرين من غير أبناء السادة فلقد نفذ فيهم حكم الإعدام.
(9)
شاعرنا توفيق كان يقف مع الحق كل الوقت وهو علي إعتقاد تام بأن إختلاف الرأي لا يفسد الود. فإبنته سكينة متزوجة من الناظر مادبو وشقيقته كلثوم هي والدة الدكتور عقيل أحمد عقيل وصهره كذلك محمد أحمد شرفي ومن أقرب أصدقاءه الكثيرين الذين يصعب حصرهم عبد الله الفاضل المهدي وعبد السلام الخليفة وعبد الرحمن النور الذي رثاه بقصيدة رائعة ومامون حسين شريف زوج إبنة السيد عبد الرحمن ورثاه كذلك بقصيدة عصماء.
من أصدقائه المقربين رئيس القضاء عثمان الطيب وعبد المجيد حامد الأمين ، الدكتور عبد الله الطيب ، المبارك أبراهيم ، حسن الأزهري ، إمام دوليب ، الباقر وقلندر الذين ذكرهم في قصيدة الدامر ، جعفر حامد بشير و ح ح البدوي وأحمد داؤود الذي كان يزوره بإنتظام كعادته مع الجميع.
القصيدة التي لا تزال توغر الصدور ضد توفيق هي \” العملاق والقزم\” ويقول فيها عند ،، لقاء السيدين ،،
القزم والعملاق يعتنقان *** وتباكيا كذبآ بدمع قان
فرسا رهان أطلقا هدفاهما *** تاجان أخذان مؤتلفان
لما بدا للشعب أن يتنحيا *** ضحكا وفي قلبيهما ناران
الشئ الذي كان يهم توفيق هو مصلحة الوطن وعندما إشتدت العداوة بين عبد الله خليل الذي كان رئيسآ للوزارة والسيد ميرغني حمزة ناشدهما توفيق بقصيدة أن يفكرا في مصلحة البلد والقصيدة بعنوان \” إلي الأخوين المتنابذين\” .
لم أسمع أو أقرأ لشاعر أعجب بشعر الآخرين وأشاد به مثل توفيق ولم يكن يحسد أي شخص لمال أو جاه. وعندما يعجب بقصيدة يشيد بشاعرها ويواصل في نفس البحر وبنفس القافية مثل قصيدته \” إيحاء شعر\” إلي صديقي الشاعر الوجداني مختار محمد مختار من وحي قصيدته الرائعة \” حلفا الذاهبة
دارت عليك رحي الزمن الجافي *** فخلوت من أهل ومن آلاف
فيقول توفيق
شعر كرقراق النمير الصافي *** لم يلقي من قدر ومن إنصاف
وهذه حقيقة فمن سمع بمختار محمد مختار ؟ فقط القلة. ويقول بعد قراءة ديوان \” الشاعر الرقيق\” يوسف التني
لا أذوق المدام من غير ساق *** إنما الود والأنس في التساقي
شاقني راق لي وهذا كياني *** نفحات من شاعر خلاق
وعندما يرثي التجاني يوسف بشير يشيد بشعره
ليتني نلت من عيون معانيك *** فنونآ كأنها الأحداق
القاف من الحروف المفضلة عند توفيق وله 33 قصيدة تنتهي بالقاف لا يزيد عليها الأ حرف ، النون 45 قصيدة والراء 46 قصيدة .
(10)
وعندما يرثي الشاعر الكبير العباسي ،وكأنه يقول بأنه يتطاول عندما يقول شعرآ في العباسي
قصيدته \”رثاء\”
ذهب الردي بالمستغاث الآسي ** سامي الشعور المبدع العباسي
من لي بمعني سامق متناسق ** مزجي بغير تأنق وجناس
قصيدة توفيق \”الخميلة الدارسة\” كانت بسبب زيارته لدار صديقه رزق الله ووجد الحديقة المذدهرة والنافورة التي تنثر الماء قد أصبحت في خبر كان بعد موت رزق الله وقال ( إن الحديقة كانت كما قال صديقي العلامة ابراهيم بدري)
أخرج الروض فضة ونضارا ** لم يشكوا أهل الرياض إفتقارا
فيواصل توفيق
إن الديار كأهلها ** حينآ تعيش وتدبرأنا لم أكن أ‘رف أن أبراهيم بدري شاعرآ قبل أن أقرأ ديوان توفيق.
الدهليز والجزء الذي كان يسكنه توفيق منفصلآ عن السرايا وعندما يقول الدكتور إسماعيل نابري في سنة 1953
جلست بدهليز كم مرة ** أتوق إلي نظرة عابرة
فيواصل توفيق
تمر بنا ما مضت فترة ** من الناس قافلة قافلة
وذو خرق بائس مطرق ** وحسناء في حلل رافلة
وقال في العودة إلي الدهليز
دهليز توفيق عاد الأنس يبهجه ** ونضرت جانبيه هذه الطرب
الشعر من بابه كالدر منتظم ** والنثر في ظله فيض من الذهب
شاعرنا توفيق كان يدعو إلي تحرير المرأة وتعليمها وتقول إبنته سكينة وشقيقتها صفية كيف كان يحرص علي تعليمهم وكيف درسن في مدرسة ودنوباوي و الإرسالية الخرطوم بحري والدامر. وكان للفتيات في السرايا جريدة إسمها نداء جبريل وتوفيق كان يحثهم ويشجعهم علي إصدارها بإنتظام والمحررات كن آمال صالح جبريل ، نجوي علي صالح جبريل ، شريفة محمد أحمد شرفي ، كوثر وفاطمة ويساعدهم في الرسم صالح شرفي . ولقد أشاد توفيق بهذه الجريدة في قصيدته \”تحية إلي النداء\” .
الشخص الذي ندين له بالمحافظة علي شعر توفيق هو إبنه علي الرجل الذي يعمل بصمت كوالده لا يتوقع حتي كلمة شكر وهو الوحيد الذي كان يقرأ خط والده .
كما نشكر الكابلي بشدة لأنه أخذ قصيدة توفيق \”كسلا\” دون إذنه . وتوفيق كان من المؤكد سيرفض، وعندما علم من إبن أخيه عبد الماجد إبراهيم صالح جبريل بأن الكابلي يغني شعره سأل \” ياتو قصيدة\” وقال بالحرف الواحد : ( أنا ما حا أخلي الكابلي . الناس حتقول أنا بعت شعري !) . والذي أتي بالكابلي إلي توفيق هو صديقه جعفر حامد بشير والكابلي قد أسدي خدمة كبيرة للشعر بأخذه القصيدة .
(11)
من المؤكد أن أول قصيدة معروفة لتوفيق هي \”إستقبال\” التي نشرت في عام 1922 ولكن من المؤكد ان له أشعار قبل هذه . وآخر قصيدة حسب الديوان هي \”تحية العيدين\” بتأريخ 1/5/1966
من الممكن أن هذه القصيدة قد قيلت قبل هذا التأريخ وهي من المؤكد من قصائد توفيق الا ان توفيق مات قبل هذا التأريخ وما أعتقده أنا أن آخر قصيدة هي \”سلام علي عهدي الأخضر\” وبها يودع الدنيا ويقول
سواسية نحن تحت التراب ** فته كيفما شئت واستكبر
وقومي أضلهم \”السامري\” ** يطيب لهم إن خبا سامري
إلي الله مرجعنا وهو حسبي ** وحبي وما أنت بالآمري
والقصيدة التي قبلها بشهر، أو أربعة أشهر قبل وفاة توفيق هي \”أيا أملآ تألق بعد يأس\” يشيد فيها
بشعر شاعر الشباب عبد المجيد حاج الأمين.
توفيق ترك الدنيا في 26 أبريل 1966 .
أغلب شعر توفيق شعر تقليدي وبعض قصائده تبدو وكأنها قيلت في حضرت خفاف بن الندبة أو السليك بن السلكة عندما يقول
خليليّ وقد جد الزمان فجودا ** بجد وجهد كي تذيدا وجودا
هذه القصيدة هي \”المنافقون\” وقد قيلت لتهنئة المحجوب لإختياره رئيسآ للوزارة وكان المحجوب يهتم بتهاني وتحيات زملاءه الشعراء بطريقة خاصة.
ثم يتجه لنوع من الشعر عرف في الجاهلية بسجع الكهان وهو شعر قصير الفواصل فيقول في دلامي
وبها الجنان تمد للرواد أنواع الثمر
فالتين والزيتون والليمون والموز الأغر
واللفت والجرجير والغثاء فيها الجزر
والبان والرمان والزوان والعود الذكر
وله بعض الشعر الحديث ، قصيدة \”إنني وإنهم
ضوء ناري وهي تذروها الرياح
بعد أن سارت رمادآ في البطاح
أي سعد لا يساوي ألمي
إنهم يلقون زيتي في التراب
سرقوا كل نبيذ في الرطاب
كبلوني بحديد موصد
من الأشياء الجميلة التي بدأها توفيق في السودان هي- الشعر البرق- فعندما أستؤصلت زائدة أحد أصدقائه أرسل برقية قائلآ
إن إستأصلوها إنها أجنبية ** وانك فرد لا تريد الزوائد
وبرقية أخري لصديق
وإن تك الحاني من ألحان انها ** تحية محزون تزف لفرحان
وعندما إنقطعت أخبار إبراهيم بدري في نهاية 1949 وأبراهيم مريض في سنجة أرسل برقية إلي حسن نجيلة
نجيلة ان هلالك صار بدرآ ** يضيئ الخافقين فأين بدري
فرد إبراهيم بدري بالبرق بعد يوم واحد قائلآ
تولتني خطوب أزعجتني ** وأسلمني السقام لعيش ضر
يبشرني الطبيب بطول عيش ** فقلت هو الشقاء\” وطول عمر
سنة 1955 كانت هناك قصة حب عنيفة بين شاب مسلم إسمه جميل وفتاة مسيحية إسمها أنجيل وبالرغم من الصعاب ومعارضة الأهل تزوجا ورزقا بطفلة إسمها ياسمين وسجل توفيق هذه الحادثة بقصيدة رائعة إسمها \”أنجيل جميل\” .
لتوفيق قصيدة من بيت واحد إلا أن لها من العمق والمعني ما يزن عشرات الأبيات
ظلموه انه الإشراق ** انه الفجر مطلق دفاق
ومن قصائده الفلسفية قصيدته\” إلي أبراهيم بدري\” ويقول فيها
تشعبت المذاهب واستطار *** الفؤاد سدي إلا أين المصير
إلي الدنيا وما فيها بقاء *** إلي الأخرى وما فيها مثير
ولم يذكر لنا الماضون شيئآ *** فقد ذهبوا كما ذهب العبير
من المعروف عن توفيق أنه كان يذهب إلي منزله مباشرة بعد ترك عمله ويكره \”الزواعة والتلطع\” ولا يغشي المنتديات ومن العادة أن يحضر الناس إليه . حتي المآتم يكتفي بإرسال البرقيات.
كان يقول أنه يكره الطرق التي يسلكها كل الناس والشرب من الحوض المباح ولهذا يقول
انتحي ان جمع الناس فلا ** ارد الحوض صباحآ ما تباها
والذي تبتذل الدهماء من ** مغريات عافها القلب أباها
وقد خلد توفيق الكثيرين بشعره وبكي وأبكي عليهم . ولا يحفظ الناس قصيدة قيلت في رثائه .
توفيق لم يكن الرجل الذي يريد شيئآ . رسالته كانت رسالة عطاء.
شوقى بدرى
shawgibadri@hotmail.com