في منحنيً ما يسخو الزمان بالعباقرة والكبار، تزدهر في كل بستان باقةٌ منهم، علماء وشعراء وأدباء و موسيقيين ومثقفين وساسة، ثم يرتاح الزمان برهةً يتزاحم فيها العاديون ودونهم حتي يتوهم الناس أنهم كل عامٍ يرذلون. وعندما يبسط كونديرا لوحة الخلود فيصطف فيها المحجوب والأزهري وخليل وزورق ثم الشريف وعبد الخالق والترابي، سيكون هنالك مركزٌ في اللوحة معد منذ زمن بأقدار الله ثم بكسب العبقريين، يخطو نحوه الصادق المهدي واثقاً ويجلس مطمئناً.
يبدل العباقرة الزمن العبقري، فتخرج المدينة الخارجة لتوها من غبار المعارك الي الهدؤ المستريب، تخرج من ليلها الطويل الي فجر الحداثة واضطراب المكان، وتنتصب مهمة شاقة شديدة الوطئة، إعادة التوازن الي الروح بين الأصل والعصر،بين الخلوة والمدرسة وبين المصنع والقبة، بين الجزيرة أبا واكسفورد وبين كرري ووست منستر، بين دومة الولي الصالح ومرفأ الباخرة، ويختار القدر الصادق المهدي ليتصدي لتلك المهمة وليس ثمة خيار أمام روحه المعذب سوي القبول وسوي النجاح.
بعض القادة يختارون لوظائف في الحياة لدورة أو دورتين أو ثلاثة علي الأكثر ثم ينضب المعين ويجف الإبداع، وبعضهم تختارهم إرادة الشعب ليهدوا الأرواح أبداً مدي الحياة، فتغدو الحياة إبتلاء كما وصف الصادق نفسه وكما هيأته السنن، أن يدخل المضمار شابا ويواصل فيه السعي لعقود وليس ثمة أرضاً سلاح، بين بيدبا الحكيم ودبشليم السلطان يراوح المثقف والإمام ، المثقف حقاني يسعي الي الحق ، ودبشليم يرفع السيف الذي تقتضيه السياسة،ولكن الإمام يتأنى حتي إنه لا يكاد يرفع السيف، المثقف يجد روحه في الحكمة والأناة، فلئن تبرئ مجرماً خير من أن تُجرِّم بريئاً، لئن تقبل الضيم خيرٌ من أن تحرق القبيلة المدينة، ضربة السيف إذا وقعت لا ترد ولكن قد ينفذ العقاب بعد حين إذا جنحوا للسلم فالصلح خير. لا تحتاج السياسة عند ابن خلدون الي العباقرة لأنهم يحملون الناس الي ما لا يطيقون ولا الفلاسفة لأنهم قد يحاكون الشيخ الرئيس إبن سينا ، وهم الفيلسوف الذي صار وزيراً فخفض رواتب الجند لا يحاربون فثاروا، وعزله السلطان قبل أن يعزله الجند، ظل الإمام الصادق الي ابن سينا أقرب رغم صروف الحياة التي هيأت له مراراً أن يكون دبشليم، ثم صار بيدبا الأمة.
يبزغ فجر الإمام قبل فجر الأمة كما يبزغ فجر الإنسان قبل فجر الطبيعة كما يتوطد معني الإنسان أكبر من وجوده ، والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ، يتنفس المؤمنون قبل الطبيعة مع صلاة القديسين في المسيحية ومع صلاة الفجر عند المسلمين، وينهض القادة قبل الشعب كما فعل و ظل يفعل الي يومه الأخير الصادق المهدي، الدأب و المثابرة ثم الإطلاع والكتابة حمل هو وثلة من الأولين وقليل من الآخرين همهما عن السودانيين، فكفوا بكتاباتهم عمل جيل بأكمله وبسطوا قراءتهم لتكون موسوعية. قلت في عيد ميلاده الأخير وقد أخذ الإمام شكل المناسبة ومنحها جوهراً من عبقريته ، يحتفل بالميلاد كما يفعل عامة النخب علي سنن الغربيين ولكنه جعله وقفةً للإعتبار والأفكار، قلت يومئذٍ : لقد إختار الإمام لعيد ميلاده كتاباً من تأليفه ، وأختار الفلسفة من الموضوعات الشاملة التي تناولها بالتأليف،واختار من موضوعات الفلسفة المقدمات أو الفلسفة العامة، وتلك لعمري أوسع موضوعات الدرس الفلسفي وأشقها، أن تجمع البحر فر راحة اليدين. كان يريد أن يقول للأجيال الجديدة: يجب أن تقرأوا الفلسفة لانه لكي تدخلوا العصر لابد من أن تتفلسفون.
يمنع التواضع الكثيرين أن يصفوا الإمام بأنه صديقهم ولكنه في تحريره للثقافة وفي تمثلها لمعناها الحق يجعلها سلوكاً يسم حياته كافة، ومن الثقافة الصدق والصداقة التي يستشعرها كل من أسعده الحظ وهيأت له أقدار الرضي أن يلقي الإمام منتظماً أو شبه منتظمً في دروب الحياة. ومن الثقافة المكان الذي تلقي فيه الصديق وتهيئه لاستقبال الأصدقاء ، يدعوك الإمام إذا طلبت لقاءه دائماً الي موعد يوافي وجبات الطعام، ولكن يجعل من تلك الوجبة الطيبة دائماً محض تنويع في مقام السجال الفكري المتصل الذي يجعله لقائه متعة، والحق أن بعض الزعماء لقائهم كابوس ينتظر المرء أن ينقشع. أذكر أني جئته في نهارٍ من رمضان حاملاً اليه رغبة ثلاثة من كبار الباحثين الذين لا يرضون أن تطلق عليهم صفة المستشرقين للقائه، كانوا ثلاثة من الكبار في دراسات الإسلام وأفريقيا و الشرق الأوسط جون اسبوزيتو مستشار الرئيس كلنتون للشؤون الإسلامية وجون فول أول باحث اميركي كتب عن طائفة الختمية و مايكل هيدسون العالم المعروف في الاقتصاد السياسي الذي اشتهر بنظريته التي تكره الربا والديون، فاجئني الأمام بتحديد اللقاء علي موعد الإفطار الرمضاني ومائدته ليكون موافياً لموعد الغداء أو العشاء المبكر عندهم. وفي العشاء شغب الأمريكان الثلاثة علي الإمام وشعبوا في المواضيع والمسائل التي تخطر علي بالك، ثم سأله أحدهم: ماذا تكتب هذه الأيام؟ فاجئهم الإمام وفاجئني وهو يقول:
أكتب كتاباً عن الضحك، عندنا تراث رائع بالغ الذكاء عن الفكاهة، ليس التراث العربي ولا العربي المترجم عن الفارسي أو الهندي، ولكن تراث سوداني جمعته من أسرتنا التي اجتمع في بيتها كل السودان من الاستوائية الي حلفا، ورغم المحن التي اعترت تاريخنا كانت الذاكرة الشعبية دائماً تضحك وتحفظ من خلال دموعها الحكايا والقصص والأمثال والطرف والأشعار،ومع السنوات التي تتالت منذ ذلك اللقاء غابت عن ذاكرتي غالب المواضيع التي أثارها أولئك الأحبار مع الإمام وبقيت راسخة أطروحته عن الضحك أو فكاهة الأمة ، وعقب اللقاء مباشرة وفي طريقنا الي مقر إقامتهم إنصبت تعليقاتهم علي الزي الأنيق الذي يميز الإمام ، الجلباب السوداني في أبهي صوره ثم تناسق الألوان بين العمامة والشال، ثم أناقة المكان والتصميم المبتكر الذي جمع بدائع صنائع السودانيين وبين التأثيث الحديث، ثم أناقة الطعام حلو ومر ومتوسطي مسته نكهة سودانية، أذكر أن أحدهم استعاد مقولة البريطانيين أن المثقف لابد أن يتوفر علي حس الفكاهة كما يتوفر علي حس الاناقة، وذكرت لهم مقولة مالك بن نبي : من يعجز عن ترتيب محيطه الخاص لا يمكن أن يتصدي لترتيب المجتمع.
عاصر الإمام في مساره الطويل اللاحب عصر الايدلوجيا، وقد بلغنا متأخراً عقودا عن فورته في أوروبا، واستفاد من إلهامها الدفاق كما كما كابد تطرفها العنيف، وظل منتبهاً لأصالته وهو يخوض غمار معاصرته، كانت الاشتراكية أشد غوايةً وإغراءً يومئذٍ يصيح دعاتها بالالتزام الكامل بها، بماديتها وتاريخيتها وعلمويتها، كما كانت الرأسمالية قوية مستبدةً بقوتها، وكان الإمام وثلة معه يعرفون أن الحق قوام بين ذلك لا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا. كما عاصر الإمام أوان الإحياء والبعث والصحوة والتجديد الإسلامي وكان بعضه الأقرب ماضوياً لا يكاد يعترف بالثورة الهائلة التي بدلت التاريخ ، فصار الإمام علماً من أعلام الصحوة المتوافقة مع الأصل والعصر، كما عاصر الإمام سنوات الحرب الباردة وتيار عدم الانحياز، ويزعم كاتب هذه السطور أن الانشغال الموسوعي بالمعرفة والتفاعل الشامل مع العالم قد عطل إنجاز المشروع السوداني الوطني،رغم أن الاجتهاد النظري الذي أنجزه الإمام يمهد الطريق بالكامل لتمامه، ويضع المسؤولية بالكامل علي الأجيال التالية.
كانت الديمقراطية عائدة وراجحة عند الإمام وكان مؤمناً صديقاً بها، ولعل أكبر محنته مع نظام الإنقاذ كانت إنقلاب ممن إعتبرهم من ذوي قرباه الفكرية عليها ودحضه المتوالي للمعلومات المتواترة عليه وهو في منصب رئيس الوزراء عن ترتيب الجبهة الإسلامية لذلك، فكان موقفه من الإنقاذ مزيجاً من المرارة والخيبة ، ثم كان جنوحه للمسالمة والحوار كلما جنحوا لها ، ولعل أكبر إخفاق الإنقاذ بسبب التناقض البنيوي في نظام تحالفاتها هو عجزها عن تجاوز خلافها الثانوي مع الإمام الي الاتفاق المبدئي معه،ذلك حتي بعد أن ثاب بعضها ليبسط الحريات ويقبل الرأي الآخر فقد ظل بعضها علي عناده وضلاله القديم . أذكر تعليق الإمام عندما كسر جدار السياسة وسافر الي جنيف ليلقي الشيخ، أذكر إضطراب أولي الأيدي والأبصار عند الإسلاميين وعند المعارضة من ذلك اللقاء، قال الإمام عندما سألناه عما دار بينهما في خلوة الساعات الثلاث، قال الإمام مبتسماً : لقد توصلنا خلال نصف ساعة الي إتفاق حول القضايا الجوهرية وبقية الساعتين ونصف كان يشكو ممن حوله في الحكم وكنت أكشكوا ممن حولي في المعارضة.
رحم الله الإمام فقد سارع الي الرحيل وقد كان الشعب السوداني ينتظر منه الكثير قبل أن يحمله ويقف علي قبره.