ولد الأستاذ عبدالرحمن الفكي الريح حاج حمد بحي العرب الأمدرماني العتيق في سنة 1912م، وهو ينتمي إلى أسرة تعمل في مجال الاتجار بالأنعام بسوق المواشي في أمدرمان.
لم يلتحق فناننا وملحننا الكبير بالمدرسة، لكنه التحق بخلوة الفكي أحمد عبدالرحيم؛ ليحفظ القرآن الكريم، ويتعلم اللغة العربية، ثم جرى نقله إلى خلوة الخليفة عثمان بحي سوق أم درمان، وبعد قضاء مدة في الدراسة ذهب مع والده إلى متجره بسوق أمدرمان؛ لبيع الدمور شمال البوستة، حيث بدأ تعلم وحفظ القرآن الكريم، وراتب الإمام المهدي عليه السلام، ومنشوراته.
ومن بعد ذلك غادر المتجر إلى ورشة قسم الله الحوري؛ ليتعلم فنون النجارة، لكنه ترك ذلك، وعمل على تعلم صناعة الحقائب النسائية، ولقد برع في وضع لمسات الجمال والذوق والأناقة وتشكيل الألوان، وتحركت مشاعره الرقيقة، وانداح في كتابة قصائده في تلك الحقبة، والإبداع المتواصل، وذهب إلى أمبدة، وافتتح كنتين بمنزله، وتزوج مرتين، ولم ينجب، واستقر حتى وفاته .
عرف بالأناقة والهندام الجميل، وكان فناناً في الاختيار والانسجام الكامل للألوان، وشأنه شأن الأساتذة كرومة، وسرور، ومحمد عوض الكريم القرشي، وصلاح أحمد محمد صالح، وحسين بازرعة، وعلي محمود التنقاري، وعبدالمنعم عبدالحي.
والده من قبيلة الجعليين، ووالدته شايقية. كان حسن المعشر، وحلو اللسان، وكريم الخصال والجمال . الظروف القاهرة جعلته يبيع منزلهم بحي العرب للسيد يحيى الكوارتي، ويذهب إلى أمبدة.
كان يتمتع شاعرنا الجميل المرهف بالإنسانية والشفافية، وشديد الحياء، وعفيف اليد واللسان. كان دائماً يتحدث بصوت خافت ممتلىء بالأدب والتهذيب والرقة.
كتب كثيراً من القصائد، وتغنى له كثيرون، وجعلوا الكون آية من الجمال والفن والطرب، وكان ملحناً بارعاً. وأسهم في تشكيل الوجدان الفن السوداني، وكان من أبرز الذين تعاون معهم الفنان التاج مصطفي، الذي كان يتمتع بعبقرية فذة، وشخصية ملهمة في كل شيء: المظهر والمخبر والتطريب العالي، وذوقه الرفيع، وهدؤئه.
والمعروف أن حي العرب حي الطرب، ومنبع الإبداع والشجن والنغم والحضارة والثقافة والأدب، وحلاوة الترابط الاجتماعي، والتمازج السوداني المترع بالإلفة والمحبة والسماحة والاحترام الشامل، والجميع يرون أنهم قبيلة واحدة انصهرت فنا وشعراُ وطرباً، وأخلاقا وحباً عظيماً.
عبدالرحمن الريح شاعر فوق العادة، وإنسان غير طبيعي. لحن كل أغنياته ومن ثم كان يهديها للمطرب في بوتقة شاملة.
لحن أغنية “قوم يا حمام أسمعني ألحان الربيع” لشاعرها محمد البشير عتيق، وهو صديقه الوفي، وكان لديه عدد كبير من الأوفياء المخلصين والحلوين.
وقد تخرج في مدرسته الشعرية الحديثة شعراء الأغنية الحديثة، منهم الأستاذ الكبير سيف الدين الدسوقي إسحق الحلنقي وبشير محسن، وآخرون.
كان المذياع (الراديو) يعمل ببطارية السيارات في أربعينيات القرن الماضي، وكل الناس يلتفون حول الراديو، وهو متصل ببطارية اللوري. الجميع في نشوة وفرحة عارمة؛ لأن في ذاك الزمان الإذاعة تبث أربع أغنيات فقط، ونصيب شاعرنا الكبير عبدالرحمن الريح أغنيتان.. يا للمتعة والسرور.
العين جزء حساس جداً، ومهم لجسم الإنسان، حيث التعبير، والشكل، واللون. والحب يتدفق من نهر العين؛ ولذلك صاغ شاعرنا المحبوب أغنياته، وتفرد في البيان:
يا حـنوني.. وعليك بزيد في جنوني
حبيب منعت وصالك.. ضيعت كل ظنوني
حجبت عني خيالك.. وكيف رضيت بشجوني
من يوم عشقت جمالك جيوش هواك أضنوني
تزيد علي في دلالك.. وأزيد عليك في جنوني
بنورك المتـوهج.. يا الأخضر الليـموني
خطفت موية بصري.. وعميت عليا عيوني
يا من سكنت فؤادي أخبرني كيف سكوني؟
وأخـبرني كيف أشـاهـد مناظرك الهلكوني
حـاولت أداري وصالك أحـبابي حين سألوني
عنك.. وعن أخبارك.. وعن عيون شغلوني
إذا انتـظرت وصالك.. عزالي ما خلوني
كفـاك تـعال أدركني.. جـفاك مغـير لـوني
هذه الأغنية تغنت بها عائشة الفلاتية، واحتلت مكانتها في خريطة الأغنية السودانية.
التاج مصطفى
أما الملهمة، فهي الرائعة التي تمثل أجمل ما غني التاج مصطفى:
نور العيون انت الأمل
طال الفراق وأنا
في اشتياقي.. كيف العمل
انت الأمل.. وانت الرجا
والفرحة يا نور الدجا
اضمن الى عمري النجا
لو طيف خيالك لي جا
في الكون الكرى.. هل أرى
شخصك قريب.. هل ترى
انا في انتظاري لم أزل
يا ملهمة شعر الغزل
عيوني يا اخت الزهر
في حبك اعياها السهر
في جسمي تأثيرك ظهر
لو كنا مجتمعين سوا
ما كان على قلبي احتوى
حر النوى
ونار الجوى
وظلم الهوى
لكن انا.. اهواك يا كل المنى
…. مهما حصل
آمالي في الدنيا الجديدة
تتحقق آمالي العديدة
بعد الجفا
القى الوفا
وحسن الصفا
اتهنا برؤياك هل؟
هل من وصال يا روحي.. هل؟
هذه الأغنية حفلت بكل عصارة جهده الشعري الفني والخبرة وهي ثرة تأصلت في مشاربها من عناصر الموروثات اللغوية وأدبياتها، وحسه الدافئ الممتلىء بالحنين والهوى والعشق الصادق.
والأداء رائع إلى أبعد الحدود من التاج مصطفى والفرقة الموسيقية البارعة في التنويت والصولات، وكل اللزمات الفنية والمقطوعات اللحنية، وأجمل ما في الأغنية الهدوء النادر للفنان، وتقاسيم أنفاسه موسيقياً وعاطفيا وحنينياً بذات التفاؤل والأمل والرجاء.
التحية لكل من يعشق عبدالرحمن الريح والتاج مصطفى، والشعر الجميل، والغناء الرصين، وكل أشكال الجمال.
وإلى لقاء قادم بمشيئة الله.