تم نقل السيد (وليم قلادة)، عليه السلام الأبدي، مهندس البريد والبرق والهاتف، من موقعه بمدني، إلى الخرطوم، فانتقل هو وأسرته، تاركاً فراغاً هندسياً كبيراً، في محطة مدني، وفراغا وجدانيا، خلفه انتقال ابنه البكر، عادل، في قلب (ولد جيراننا)، فتحي جمعة، والذي جمعته به صداقة المرحلة الإبتدائية، فنعاه فتحي، باهزوجة، يظل يرددها كل مغرب شمس، متقرفصاً فوق بيارة السكة حديد، صادحاً مثل طائر (التيتاهويا)، في كتاب ألان بيتون، (ابك يا بلدي الحبيب)، ينشد في أسىً…..
عادل وليم يا حليلو!
وشاءت الأقدار أن التقي بعد ذلك بسنوات عددا، في فصل (أولى عثمان)، في الخرطوم القديمة، بعادل وليم، وشاءت الأقدارأيضاً، أن نكون جيراناً في الحلة الجديدة بالحلفايا، كان عادل أقرب إلى القصر منه إلى الطول، وكان مفتول العضلات، وقد صنع أحمال كمال الأجسام، في المنزل من سطلين معبأين بالخرسانة، وبينهما عمود حديدى، وكان مميزاً (بشقة الشعر)، وله من الإخوة نادر، ونبيل ومجدي بطة وجورج، واخت (زغنونة) في ذلك العهد، تعلو فوقهم بحلاتها، مثل السكر المسحوق على الخبيز الناعم.
في أيام الشهادة السودانية، كنت أقضي ليال بحالها في المذاكره، في منزلهم، ننام في الحوش صرعى الرهق، فكأنني أشتم رائحة زهر الياسمين، المزروع على حواف حائط بيتهم، في هذه اللحظة. في تلك الليالي كانت تقوم على خدمتنا بكرم وحب، والدتهم المرأة البشوشة (بهجة)، تصيح بنا من يأسٍ: ياعيال إنتو بتشربو سجاير؟ قول اااه
فنكذب، ولكنها لم تكن تنخدع بسهولة، وياله من (سجوك) ذاك الذي كانت تصنعه.
لا يزالون يسكنون قلبي، وأتبارى وقريبي مامون الملك، الذي زاملنا أيضاً، في تذكر الإسم الكامل، لعادل، والذي لا يزال عالقاً في عقولنا وأفئدتنا
عادل وليم قلادة مليكة متّى أبو ضباب.
وفي القديمة، ووسط سيارات الطلاب، من (جعصاء الطلاب)، أبناء الوزراء والرأسمالية الوطنية، كان عادل سمير، يركن سيارته (الهيلمان)، ثم يترجل عنها، في (فنكهة)، فتصافحك ابتسامته، والتى هي ضحكة خفيفة، مرحبة، مليئة بالحب، حتى كدت أساله، إن كان يقرب للمغني الإغريقي (ديميس روسوس)، إتصلت عرى الصداقة، بيننا، فهو يعرف كل أفراد أسرتنا عن قرب، وزامل شقيقتي فاطمة، في قانون الخرطوم، وقد إلتقيته بعد سنوات، وأنا حديث عهد بالعمل الصحفي، في أحد أقسام الشرطة، لعله الشمالي، وكنت مزنوقا في قضية، بسبب مقال كتبته في السوداني، وأراد الملازم بي شراً، أن يضعني في الحبس، خميس، بين الرجرجة والدهماء، والنشالين، ويطلق سراحي في السبت، كيداً، فصحت من فرح
ياعادل سمير الحقني وافزعني
فتجاهلني متعمداً، وسارخبباً، بمشيته المعتدلة التي أعرفها، منذ أيامنا في الكاديت، فلحقت به، فوجدته متلبداً وراء شجرة لبخ ضخمة، فقال لي يتصنع التضجر
يازول شنو بتكورك عادل سمير عادل سمير، أنا هنا مولانا…. المهم إزيك اول حاجة، أسمع، لو دخلوك الحراسة بجي بكرة الجمعة بفكك، بكونو لبعوك الحرامية…
لا ياخ دي الخوة يعني؟ .
وشاءت الأقدار، أن يمر الأمر بسلام، ويأتي عادل في مساء الخميس نفسه، لزيارة بيت شقيقتي، بصحبة زوجته السيدة سهام سمير، فشربنا الشاي الملبن، على إيقاع كيكة، إشتهروا بعملها.
شقيقتي (نعيمة) رحمها الله، كانت حمراء اللون كما نقول، وشعرها بني وعيونها كذلك، حتى حكى أحد أهلنا الشوايقة في وصفها فقال
والله بت حسن الملك التقول (إنقليزيي)!
درست في البعثة التعليمية العربية، وكان من صديقاتها، شقيقة زميلي وحبيبى، (كامل عزيز كامل واصف)، والذي تولت شقيقتي، التوفيق بين رأسه وراس ابنة الفنان التشكيلي العظيم (مكرم نسيم)، فتزوجها وأنجبا الصبيان والبنات، كان شقيقتي نعيمة، تنذر (للعدرا)، ولأهل الله الصالحين بنفس القدر، وتوفي النذور لكليهما، وكانت تزور الكنيسة القبطية بصورة راتبة، وأصبحت مدرسة في مدرسة الراهبات في مدني، وحينما توفيت، أقام أقباط مدني القداس على روحها، بينما كان القرآن يتلى على روحها، في باحة دارنا.
والتقيت بمجدي سعد درياس، في الحلفايا، إبن السيد سعد درياس، وابناء خالته وأشهرهم عادل فريد طوبيا، اللاعب الأيقونة، جمعتني بمجدي (المزازيك)، وكان لاعب تنيس مميز، كان يركب دراجته من الحلفايا، للحاق بالتمرين في العمارات، وقد أعجب (النميري) بنشاطه، فتبرع لإتحاد التنس بحافلة، قامت بنقل كل الناس، إلا مجدي الذي تبرع بها النميري من أجله! في زماننا، كان (جورج مايكل، ومارفن قاي والبريك دانس)، قبل أن يحكم بني كوز على الخرطوم بالموت البطئ، حين أقنعوا أب عاج، بسن قوانين سبتمبر المجرمة. كنا نقيم الحفلات، المسماة بالديسكو، للسفارة البريطانية، وكثير من الحفلات الخاصة، كان راقصاً ماهراً، و(دي جي) لا يشق له غبار.
يعيش هذه الأيام في الخرطوم
يشهد شحوبها
وانطفاء بريقها
ولكن بريق المحبة لا يزال متقداً.
تاج السر الملك