حملَ كِتابه، وكرّاسه، بيمينه ورحل راضياً مرْضيّاً عنه بإذْنِ الله
بوفاة عمّي الأستاذ ميرغني الماحي ظُهر السبت 17 سبتمبر الجاري، ودّعت آخر أبناء حبّوبة بُرّه بِت مكي وجِدّي محمد احمد الماحي. لحِق آخر وأصْغر أعمامي وعمّاتي بوالديه وأخواته نفيسة وحواء وعائشة وست الجيل، وإخوانه أحمد وبابكر ومحجوب، لنبكي فراقهم من جديد في فقده الجلل.
يفارِقنا عميد آل الماحي، والأسرة الكبيرة كَكُلِّ الأسرِ السودانية، مِثل سِبْحَة انقطعت فتشتّتت حبّاتها في أصقاعِ الدنيا وأركانها الأربعة وقاراتها البعيدة والقريبة في العديد من الدول.
يفارِقنا وجِراح أحزاننا لمْ تندمِل بعد من وفاة شقيقي النور محجوب قبل أربعة أشهر وقد كانا، النور وعمّه ميرغني، يجمعان شتاتنا بتواصلهما معنا وسؤالهما عنّا، فكنّا نلتقي فيهما ونختصر معهما المسافات التي فرّقتنا ويلمّنا تفقُّدهما لنا، ونصبح معاً في رحابهما، فأيّ كرم حبانا الله بهما وبوجودهما، وأي فقد عظيم جعلنا يتامى بعدهما.
كان ميرغني الماحي عند عودة أي أحد من الأسرة من غربته أو هجرته أو من أي سفر لمُهِمّة خارج السودان، أوّل مَن يزور العائد والعائدين. قبل أنْ تصله يصلك، وقبل أنْ يعاوِدك قريب أو حتّى جار تجِده أمامك، وفرحة الناس عِزّ اكْتِمال بهجته، يخرُج منك ليوزعها في مشاوير تواصله وتراحمه فيعُمّ الخبر ويشيع السرور بين الأهل.
في صفحتين بفيسبوك، الأولى لأخي محمد ميرغني والثانية لزوجته نهلة، وجدت صباح الجمعة 16 سبتمبر الجاري احتفاءً بعيد الميلاد الثالث عشر لابنهما ميرغني. أسرعت ونقلت صورة للميرغنين معاً، الجِد والحفيد، لقروب آل الماحي بمنصة (واتساب) مع تعليقي الذي كتبت فيه: ميرغني الصغير يحتفِل بثلاثة عشر ربيعاً.. سنة حلوة يا بطل وأنْ شاء الله كل العُمر نجاح وتوفيق وفرح وسعادة، و”شايل” الاسم محبّة ومَحَنّة وتواصُل وتراحُم. تحياتي للعمِّ العزيز ميرغني الماحي والحاجة فاطمة مدني والأسرة الكريمة وكل الأهل.
جاءت التعليقات ونحن نوصّي ميرغني الصغير بحمِل الاسم سيرة ومسيرة، ونلقي على الكبير آخر تحيّة، وودّعناه. فيا لها من لحظات صعبة عِشتها ظهر اليوم الثاني، ولم يواسني غير القلم والورق، أو بالأصح كيبورد – لوحة أحرف – الكمبيوتر المحمول.
جلست أكتب وشريط اللقاءات مع عمّي ميرغني لا يفارقني، وبدأت أبحث عمّا كتبته عنه في سلسلة “حكايات لا تموت مع محجوب الماحي وآخرين” والتي لمْ تُنْشَر بعد، وما احتفِظ به في الملفات الإلكترونية التي استبدلت بها الورقية.
وجدت أنّني احتفِظ ببوست نشره الأخ عبد الحفيظ خضر بادي في صفحته بفيسبوك يوم 25 أكتوبر 2018، بعنوان “الأستاذ المُربّي ميرغني الماحي”.. كتب فيه: “الأستاذ القدير مُربّي الأجيال ميرغني محمد أحمد الماحي متّعه الله بالصحّةِ والعافيةِ، كنت أتردّد على مكتبه بمدرسة الخرطوم التجارية جوار وزارة التربية والتعليم حينما كُنت مُعلِّماً بالخرطوم القديمة الثانوية بنين. يحلو الجلوس في رِحابه الطيب، ويطيب الأنْس في مجلسه العامِر وهو يتحدّث بموسوعيّة واسْتِطراد بأسلوبه الرصين المُحْكَم في التاريخ والسياسة والأدب والأخبار. أحببت شخصيته المُثقّفة الراقية لِما تتمتّع به من صِدق وبساطة وكرم وشهامة ورغبة في مُساعدة الآخرين. حفظه الله وبارك فيه ومتّعه بالصحّةِ والعافيةِ”.
عندما كنّا تلاميذ، كان الوالد محجوب الماحي والوالدة ستنا بت النور مصطفى حريصان على أنْ نزور في إجازاتنا الدراسية عمّنا ميرغني الماحي وزوجته الأستاذة فاطمة مدني. الوالدة بالأخص، وهي التي كانت تتابع ترقياتنا الأكاديمية، كانت تردِّد قول عمّتي المُدرِّسة حواء الماحي “بيت ميرغني وفاطمة مَدْرَسة”.. وبالطبع السفر نفسه مَدْرَسة، ففيه الفوائد المعروفة.. فكنّا دائماً في حالات انتقال من مَدْرَسة لمَدْرَسة، ونحن في إجازة المَدْرَسة.
لمْ نترُك مدينة عمل فيها عمّي ميرغني وزوجته فاطمة إلّا وزرناها أكثر من مرّة وقضينا فيها أجمل الأيام تعلمنا منها وفيها الكثير، من القضارف لمدني حتّى انتقلا للخرطوم وأقاما في بُرّي المحس فصار منزلهما إحدى محطاتي التي أجد فيها نفسي، وأصبح جيرانهما أصدقاء وأحباباً لنا.
كانت فاطمة مدني مديرة لمَدْرَسة بُرّي الابتدائية بنات، ويكفي أنْ تقول في كل البراري أنّ عمّك ميرغني الماحي وزوج فاطمة مدني فتحْصُل على كل التقديرِ والاحتِرامِ والحُبِّ من النساء والرجال، وتصبح صديقا للصبية أمثالك والصبايا، فأي ردّ للجميل أكثر من ذلك، وفي الذهن حبيبنا عثمان مصطفى عبد القادر، وآل حريز، والمرحوم الطيب سرور وأسرته، وصديقي صلاح أحمد المصطفى وشقيقه عز الدين وجُلّ أهلهما، والدكتور الفاتح بانقا وشقيقته السُرة وزوجها حسن الفكي وغيرهم كُثر لا احْصي ولا أجْرُد وإنّما فقط أسْرُد بعض الأسماء. وإذا ذهبت لوزارة التربية والتعليم تُفْتَح لك كل الأبواب وتصبح مركز اهتمام كل المُدرِّسين في الخرطوم القديمة والتجارية ولجان تصحيح الشهادة الثانوية، وفي الذاكرة الكثير من المعلمين والأساتذة وعلى رأسهم أستاذ اللغة العربية بالخرطوم الأميرية المرحوم سر الختم محمد صالح، وإدارات الامتحانات والمناهج بالوزارة وما جاورها حتّى جامعة الخرطوم، ولا أستطيع أن أحسِب عدد المرّات التي أخذنا فيها عمّنا ميرغني وزوجته فاطمة لزيارة قريبها البروفيسور عبد الله الطيب في مكتبه بالجامعة أو في بيته ببرّي، وتِلك وحدها علاقة وحالة تجعلك مُميّزاً على الأقل في تلك الأنحاء.
نقل لي أخي عبد الرحمن حسين، ابن خالتي صفية بت النور، رسالة من منصة (واتساب) قال عنها أنّها تعازي من أولاد بُرّي في سلطنة عُمّان، جاء فيها: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. توفى بالأمس إلى رحمة الله الأستاذ ميرغني محمد احمد الماحي والد احمد ومحمد. الأستاذ من قدامى المعلمين في بُرّي المحس وله باع طويل في تربية الأجيال بِبُرّي، تقبله الله في عليين مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا”.
حمدّت ربّي كثيراً لتأخير نشر رثائي هذا فجاءتني الرسالة أعلاه لتعضّد ما كتبته عن عمّي حتّى لا يصبح حديثي قولاً تجرحه صِلة القُرْبى والحُبّ الذي أكنّه له.
كان المهندس احمد ميرغني يسعدني دائماً بسماع صوت والده، خاصة عندما انشر مقالاً في الصحف حيث كان يحرص على شراء نسختين أحداهما لوالده. وكان احمد وشقيقه محمد وأخواتهما عالية وعديلة وعنايات وحزامي حريصون في الفترة الأخيرة ألّا يفقِد والدهم ما تعوّد عليه فيقومون بتبادل تحريكه وجعله يمارس عبادته في التواصل والتراحم مع الأهل ليشارك في الأفراح والأتراح وكانوا أيضاً يتابعون حركته راجِلاً في نطاق الحي وحافظوا على حضوره الذهني فكانوا يتبادلون مع أحفاده الحديث معه مستفسرين عن شتى المسائل التي تجعله يتذكّر أحداثاً معيّنة، وبالأخص أسماء الأشخاص. لا أضيف جديداً بأنّ برّ الوالدين من العبادات، بارك الله فيهم.
كان العم ميرغني يمثِّل آل الماحي، وبالأخص شقيقه محجوب، بالسفر للمشاركات الأسرية مع الأهل في كبوشية وغربها – قوز بُرّه وكلي وكافة الحلال إلى المتمّة وشندي، وحلة الجعليين بالفكي هاشم، وعند أهلنا بالقضارف آل الأزرق، وصولاً للدامر معَطِّراً العلاقات مع أهلها وال احمد المجذوب وكانت عونه في كل ذلك التواصُل قرينته الأستاذة فاطمة مدني متّعها الله بالصحّةِ والعافيةِ وأطال عمرها.
أكرم الله الأستاذين ميرغني وفاطمة بأنْ نجحا في ترقّي أبنائهما اكاديمياً وتابعا ورعيا وشهدا تخرج أحفادهما من جامعات سودانية واشرفا على جعل العائدين منهم من ديار الاغتراب للدراسة الجامعية بان تترسّخ هويتهم السودانوية وتقوى ارتباطاتهم بها، واسعدهما أيّما سعادة بأنْ انطلقت مسيرتهم الدراسية العليا كما إبائهم وأمهاتهم من ذات منزل الأب وألام الذي اصبح منزل الجِد والحبوبة، فيا لها من سعادة بأنْ صارا، ميرغني وفاطمة، معلمين أجيال بحق وحقيقة في المدارس ومن المنازل وخارج الحدود، فجعلا مهنتيهما عملا مُتّصلاً لا تقاعُد فيه، حتّى درّت لهما استمرارية المِهنة بعيدا عن الفصل والسبورة، سعادة لا نظير لها عوضتهما عن مردود معاش الدولة الشحيح، بآخر أعظم أجراً عُمْلته الحُبّ والاجتهاد والتفوق والدرجات العليا.. وتلك لعمري حالة دراسية “study case” يجِب أنْ تجِد جامعة ومُمْتَحِناً داخلياً وخارجياً ومُشْرِفاً أكاديمياً على رسالتي ماجستير ودكتوراه تكريما للمعلمين وصقلاً لأدوارهم وما يقومون به للأسر والمجتمع والدولة. صدق أمير الشُعراء أحمد شوقي القائل “قُمْ لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا.. كادَ المُعَلِّمُ أَنْ يَكونَ رَسولا”.. فكيف وهما معلمان؟ ميرغني وفاطمة كِتاباً مفتوحاً للأجيال الحالية والقادمة تقرأ فيه كلما جاءت سيرتهما العطِرة ولذلك اكتب عنهما شُكراً لله، وتبجيلا.
كُنت كُلّما أتحدث هاتفياً مع عمي ميرغني أجِده حريصاً على أنْ اسمع من أحفاده وكان يجعل ترقّيهم الأكاديمي جزءً من حديثنا، فيا لها من حياةٍ عامِرَةٍ حافِلَةٍ بالإنْجازِ شاهِدةٍ ومشهودةٍ بالمُشاركةِ بعد وضْع اللّبنة الأساسيّة ورعايتها والتمتُّع بنموّها وتطوّرها واكتمالها غرساً مُنْتِجاً. اللهم اجعل البركة في ذريته، أبناءً وأحفاداً.
أحمِد ربّي لمرّةٍ ثانية على تأخير نشر هذا المقال لأنقُل (بوست) يرثي فيه الأخ الحبيب مُدّثر الطاهر الأزرق عمّي ميرغني مُجدِّداً بكاءه على والده المرحوم، وكتب على حائط صفحته بفيسبوك: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اليوم وقّع الأستاذ المربي الزعيم ميرغني الماحي على دفتر الوداع الأخير حيث مضى إلى رحاب ربه طاهر الأردان.. لمْ ينكأ جرحاً ولمْ يهدِر كرامة. لمْ يتنزّل على الناس من شاهِقٍ وقد قضى سِني العمر متفسِّحاً في مجالس الدنيا بحفدٍ ورفْدٍ، قدّيساً في مِهنة الأنبياء، أستاذاً جليلاً، مُعلِّماً ومرْجِعاً للمعارِفٍ بشتّى ضروبها وصديقاً للفضائل أينما كان إشعاعها. في خضمِ ذلك جعل من بيته محفلاً وديواناً مُشرع المداخل ومُترع بالخيرات، ومن قلبه المتّسِع قناة لانسراب المحَنّة. مُنذ عرفناه زوجاً للخالة الوالدة الأستاذة فاطمة مدني، كانت داره هي دارنا ومأمننا وسدرة منتهانا، ننعم تحت ظلال حفاوته وترحيبه. لوقتٍ طويل لمْ نعرف من أمر دنيانا إلّا أنّه كان فينا عوضاً عن والدنا الذي غاب بغتة بلا ميعاد. أفاض علينا مشاعر أبوية حقيقية سنداً واحتواءً وقبولاً. مُنذ أنْ خلق الله الناس قليلاً ما نجِد أباً باراً بأبنائه وأهله مثل ما كان يفعل في انعكاسات المرايا وحفاوة اللقيا وحسن التعامل”.
في مواساتي له، ضمن آخرين كُثر حيث امتلأت وفاضت خانة التعليقات بدعائهم وترحمهم على فقدنا الجلل، كتبت لمُدّثر: كلماتك ابلغ مواساة ليّ.
وكانت بالفعل كذلك، فمُنذ سماعي الخبر جعلت جلوسي للكتابة عن ميرغني الماحي وحياته وسيلة لامتصاص الحزن وتسكينه في خانة مُنْتِجة. فكيف لا تهدأ نفسي ويتحول حزني على وفاة عمي لعمل وقُدرة على الإنتاج وأنا اقرأ تلك الكلمات وأعيد قراءتها واستحضر الذكريات وأضمد بنفسي جراح الحُزن، ومن هنا في هجرتي البعيدة، أعيشها من جديد مع عمي ميرغني في القضارف ومدني والخرطوم.. في بري وود البنا والكدرو وكل الأمكنة التي أكرمنا ربّنا لنكون معاً، كل الأهل والأصدقاء والجيران والمعارف وزملاء الدراسة والعمل، في صحبة عمّنا ميرغني وإخوانه وأخواته.
كان عمّي ميرغني أرشيفي الخاص يمشي على قدمين. كان مَخزن وبنك معلوماتي. وكنت قبل خاصية “قوقل” التي أصبحت تنجِدنا عند البحث، كنت على ذات الوزن “أمرْغِن” الأشياء التي ابحث عنها عندما أجهِّز نفسي للكتابة الصحفية أو الحوارات التي أجريتها. كُنت أسارع الخُطى لعمّي ميرغني كُلّما استشكلت على الأشياء مُستفسِراً عن حدث وأسماء وتواريخ. كنت اكتفي بحديثه وتوضيحاته وبما يقدمه لي شفهياً، لكنه كان يأبى أنْ يتركني اذهب قبل أنْ يخرج من سحارته قصاصة من صحيفة اصْفَرّ ورقها، أو يضع بين يدي كتاباً ويحدِّد لي رقم الصفحة أو اسم الفصل ويقول لي أقرأ! فتكتمِل متْعتي بأنْ يقرأ لي بصوته فأجلس لحصة في اللغة العربية. كان لميرغني الماحي مخارِج حروف صحيحة منوّنة ومشكّلة وهو يتحدث حتّى بدارجي فيجعله فصيحاً. كُنت اجلس كتلميذ أمام أستاذه، وكان يقوم بدوره كامِلاً مُتكامِلاً تنقُصه الطبشيرة والسبورة، وتنفتِح شهيته للمزيد وأحصل منه على أكثر مِمّا جِئت ابحث عنه.
كرامات عمّي وكرمه الذي أحاطني به في حياته حتماً ستكون مستمرّة بعد وفاته، فها هو تأخير نشر رثائي يدرّ عليّ لمرّة ثالثة المزيد لتأكيد ما كتبته وتناولته من سيرته، وقد رفع شقيقي صلاح محجوب في قروب آل الماحي الرسالة التالية:
أنْقُل لكم ما وصلني من أخي وأستاذي يوسف بشير مُعزّياً في كبير آل الماحي، عمّنا المرحوم ميرغني. كتب يوسف جزاه الله ألف خير: “خالص العزاء لكم ولأنفسنا ولكل الأسرة الكبيرة المُمْتدّة في فَقْدِ اخونا العزيز ميرغني الماحي. كان أبو احمد ركيزة من ركائز الأهل البعيد منهم والقريب. ظل بيته واحة وارفة الظلال، ودوحة عامرة بالخير كدأب سائر آل الماحي الكرام، بيوتهم تغشاها كل الطيور، تهبُط بلا موعِد ولا استئذان فمِنها مَن يغادر ومنها مَن يبقى إلى ما شاء الله فيختلط النزلاء والضيوف بالأبناء والإحفاد واهل البيت، لا فرق بين من وُلِد وتربّى هاهنا وبين من نزل بالأمس حتّي يكاد يختلِط الأمر على مَن لا يعرف ميرغني الماحي، فكل هؤلاء وأولئك أبناؤه وأحباؤه! مضى ميرغني إلي ربّه، ففقدت البراري واحِداً من معلميها الأفذاذ الذين تركوا فيها بصمة مُرَبِّي فاضل لمْ تستأثر به لوحدها البجراوية أو سقادي أو قوز بُرّه والقضارف والحميراب حيث موطنه وعشيرته الأقربين. نسأل الله أن يتولى أبو احمد ومحمد بواسع رحمته ومغفرته، وأنْ يحشره مع الصديقين والشهداء، ونشهد الله أنّنا نحبّه فيه ونحزن لفراقه ولا نقول إلّا ما يرضي الله، ونسأل الله أنْ يحسِن عزاء بناته ووالدتهن وأحفاده وأصهاره ويربط على قلوبهم”.
فما القول ويوسف بشير نفسه مُعلِّماً أقف له وأوفِه التبجيل المُسْتحق إسوةً بكل أساتذتي الذين تتلمذت على يديهم بدءً بكُتّاب عطبرة الشرقية، والخرطوم شرق الأولية، والاتحاد الوسطى، والدامر الأميرية، والخرطوم الأميرية، وبيت الأمانة الثانوية، وأكاديمية الدراسات الاقتصادية ببوخارست، وصولاً لأستاذي الذي أشرف على رسالتي للدكتوراه كونستانتين فلوريسكو، عليه رحمة ربّه. يكفيني أنْ انطُق اسمه في أكاديمية الدراسات الاقتصادية ببوخارست لأحصل على كُلِ الاحترام والتقدير. أرأيتم كيف أكرمني عمّي بأنْ أشْمِل في رِثائه ثنائي وعرفاني وتقديري لِكُلِ مَن علّمني حرفاً، وتبجيل أساتذتي؟
أخْتِم بشُكر وتقدير آل محمد أحمد الماحي وآل أحمد المجذوب وقد كتبوا فيه: “قال الله تعالى في سورة آل عمران، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}. الحمد لله الذي أعطى فشكرنا، ثم اخذ منّا فصبرنا، ثم نحمد إليه أنْ جعل الناس شهوده في أرضه من لدن سيد الخلق آدم النبي وإلى آخر مولودٍ صارِخاً بسرِّ الحياة. تلك هي حِكمة البارئ مًنذ تخلُّق النُطفة الأولي من ماء حميم، وحتّى غياب الأجساد في باطِنِ اللحود. هكذا بدأ والدنا الحبيب حياته ومضت به حتّي صلصل الجرس إيذاناً بالوداعِ الأبدي. عاش فيها بقلبِ طِفلٍ وجناحي يمامة، قامة مديدة وأيادٍ مبسوطة بالخير في براحات الأهل والأحباب. كُنّا في كثير من مُعايشتنا له نظُنّ أنّ في بذله رُهقاً وفي انصرِافه إلى شئون الناس مشقّة، حتّى أتانا التفسير مُجلجِلاً بالبهاءِ حين ظهر أثر الفَقْد في أعيُن محبيه وعارِفي فضله وما أكثرهُم عدداً وأجزعهم عليه في يومه المشهود. كان الوالد المرحوم ميرغني الماحي والِداً للجميع بلا فرز، صديقاً نبيلاً لكل عابرِ طرق بابنا، مُحتسِباً فيض نواله عند ربّ العالمين حيث يجزئ كُلاً بما كسب أجراً بلا حساب. رأينا ذلك عِند انهِمال المدامِع وانسكابها، عِند ارتِجاف الشِفاه التي تَهمْهِم بالدُعاءِ والقلوبِ التي علا نبضها وزاد خفقانها. شعرنا به لدى كل الذين شقّ عليهم النبأ الأليم أيان غادرت روحه الجسد، فتوافدوا إلينا وحداناً ونوادٍ وجماعات من كل فجٍّ
ومحلٍّ عميق لحظة مواراة جُثمانه الطاهر جوف الثرى. فسبحان الله الذي تجلّ حِكْمته عن الأفهامِ حين تصبح في الأسيّة فِكرة وفي الفخرِ زاداً. نَنْظُر إلى فاجعتنا برؤية يختلِط فيها البُكاء بالصبرِ ونتأمّل جمال تلك الأفئدة التي غمرها الحُزن الوضئ. هي سيرة وسريرة ومآل نُقِشت على صُم الجنادِل، وكُتِبت بيانعات الحروف، فقد ترك لنا الوالد الذي رحل إرْثاً عظيماً من محبّة الناس، وما كان فوته إلّا محفلاً للتوادُد والوصل، وموته استِدراكاً وتدبُراً لفلسفة الحياة والموت، وحياته بُستاناً سقاه في معاشه بماءِ الوضوءِ الطهور. نشكُر كل الذين تحدّثوا ذاكرين مناقِب الوالد الراحل وصفاته وموجبات سعيه في أرض الله بكلمات خرائد خفّفت من لواعِج فقدنا. شُكرنا العميم يتنزّل على بطاحِ كل الذين قاسمونا الوجع وكانوا ترياقا للهمِّ والتياع النِفوس، ويمتدّ ذلك لكل من وصل مُعزيّاً، أو هاتفنا مواسياً، أو راسلنا مُشاطراً ما مسّنا من أوجاع. عظيم امتناننا للأهل والعشيرة والأصهار الذين تكبّدوا المشاق حُضوراً، ضربوا له أكباد الإبل من كبوشية وكوستي وربك والدامر والقضارف وفِجاج العاصمة الوسيعة. ويمتدّ تقديرنا للجيران والأصدقاء والأحباب أهل البراري بأنحائها والجريف شرق الذين شيعوا الجثمان الطاهر إلى مرقده الأخير ورفعوا أكفّ الضراعة لله داعين له بالرحمة والمغفرة ونسأل الله أنْ يرحم والدنا الأستاذ المربي ميرغني الماحي ويجعل في مرضه كفارة له وأجراً مثبوتاً ويسكنه الجنة بغير حساب ولا عدد وأنْ ينزله منازل الصديقين والشهداء، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون”.
تبقّى القول.. أحْمِد الله للمرّة الرابعة على تأخير نشر المقال لأضمّ إليه الشُكر أعلاه، ثُمّ اختم: اللهم يا ذو الجلال والإكرام.. جاءك عبدك ميرغني الماحي حامِلاً كتابه الذي سجّل فيه ملائكتك أعماله، وبيمينه أيضاً يحْمِل كرّاسته التي صحّحها له تلاميذه قبل أهله، وكل مَن عرفه مِن خلقك قبل أبنائه، فنال أعلى الدرجات عن حياته في الدنيا. أكرم وفادته في الآخرة، اغفر له وزِده إحساناً وأجعله مع الصديقين وحسن أولئك رفيقا.
وداعاً أستاذ الأجيال ميرغني الماحي. ابنك الحزين على فراقك
عصام محجوب الماحي – بوخارست – رومانيا
17- 21 سبتمبر 2022.
نقلاً عن صحيفة (التيار)