جاء خطاب البرهان بمنصة الأمم المتحدة مهذباً ومشذباً خال من الشطط والحمق، لم ترد بالخطاب كلمات متحدثه الرسمي بعدم تسليم مقاليد الحكم لسلطة غير منتخبة، وهل يستطيع ترداد مفردات التهديد والوعيد التي تعكس معانيها السلوك الانقلابي؟، بالطبع لا، فالرجل حريص كل الحرص على أن يقدم نفسه عبر هذه السانحة كممثل للسيادة الوطنية لدولة السودان العضو الأصيل بالمنظمة، السيادة الوطنية التي قضى عليها بارتكاب خطيئة الانقلاب على الشرعية، فبعد انقلابه على منظومة الحكم الانتقالي أضحى بالضرورة منقلباً على المجلس السيادي الذي منحته الوثيقة الدستورية شرف رئاسته، فاحتمى بالجيش الذي يقوده بحكم الأمر الواقع، ومن الأجدى له أن يظل قائداً انقلابياً للجيش، لقد خلت كلمته من أي إشارة لتمدد طموحه في الاحتفاظ بالسلطة رغم سلوكه الاداري وتحركاته الدبلوماسية الساعية لذلك، تلك الدبلوماسية التي عرّفها نائبه بأن لا فرق بينها وبين الكذب البواح الذي لا يضمن لك الحصول على وجبة العشاء إذا وفّر لجنابك غداءًا مشبعاً، فالحديث الناعم و(الأملس) لقائد الانقلاب بمنبر الأمم المتحدة سوف يعقبه كلاماً خشناً بعد أن يلامس إطار طائرته مدرج مطار الخرطوم، فالرجل معروف عنه المراوغة واللعب بكل الحبال، وآخر هذه المراوغات جاءت عقب نفي متحدثه الرسمي لما كشف عنه نائبه من كواليس اتفاقهما على التحوّل المدني الكامل الدسم.
الخطاب المنمّق والجميل الذي صاحبته بعض الهنّات اللغوية وذلّات التعابير الجسدية، تعرض لما سوف تتمخض عنه الأيام القادمات من ولادة حكومة كفاءات مهنية، يكون لأحزاب القوى السياسية فيها نصيب عدا حزب المؤتمر الوطني، إنّه طرح رائع نظرياً، أما من حيث التطبيق الذي بدأ بُعيد الانقلاب المشؤوم قبل إحدى عشر شهراً، فقد تمت إعادة جميع من فصلتهم لجنة إزالة تمكين نفس الحزب الذي أعلن البرهان عن حتمية إبعاده في المرحلة القادمة، وهنا تتراءى للجميع تناقضات أقوال قائد الانقلاب مع أفعاله الواضحة والفاضحة، وسباحته عكس اتجاه موجهات ثورة ديسمبر التي ظل يذكرها ويردد كلمات الاطراء في حقها بحسن القول، فمنذ اطلالته بعد إسقاط رأس النظام البائد ظل قائد الانقلاب يعدد مآثر الثورة الديسمبرية المجيدة، وفي ذات الوقت يستمرأ الفعل القاصم لظهرها والقاطع لنسلها، وأولى خطوات هذا الفعل نحر بعير المرحلة الانتقالية وإعاقة تمرحلها بارتكاب خطيئة الانقلاب، الذي أزاح ورقة التوت عن سوءات من خططوا ودعموا وناصروا ونفذوا هذا الفعل الشنيع وتلك الجريمة البشعة، فليست بهذه الدبلوماسية الكذوب تساس الأمور، ولا بتلك الطرائق الانتهازية والوصولية تدار الشؤون العامة للبلاد، المرسوم لها خارطة للطريق اجتمعت حولها مصالح غالب حكومات العالم من حولنا، فلابد من الديمقراطية والحرية والسلام والعدالة وإن طال السفر.
لقد أخطأ قائد الانقلاب في مناشدته لعبد العزيز الحلو وعبد الواحد من منصة الأمم المتحدة باسميهما صراحة، فهذا ينم عن القصور المهني للمستشارين المحيطين برموز الحكم الانقلابي، وانعدام الخبرة الدبلوماسية الكافية، فمنبر منظمة الأمم المتحدة ليس منبراً إقليمياً من شاكلة منابر جوبا وأبوجا والدوحة (وهذا ليس تقليلاً من شأن الرجلين)، لكن، هذا الخطاب الأممي يجب أن لا يتعرض لذكر الأشخاص، بل كان الأحرى أن يتناول عموم قضايا الحرب والسلام وضرورة لم الشمل الذي يجمع الممانعين المسلحين والمعارضين المدنيين، فهيبة (السيادة الوطنية) تتطلب هذا الاتساق، أليس كذلك؟، وما أهلك سكان مناطق النزاع غير ربط قضاياهم بالأشخاص وترك المباديء والمطالب العامة، عندما تبدأ المؤتمرات الباتّة في وضع الحلول المستهدفة لهذه الشرائح الضعيفة – نازحين ولاجئين وأسرى، فلو كانت حلول مشكلات السلم والأمن الداخلي رهينة بشخوص الحركات المسلحة لكانت قد حُلّت في منابر أبوجا والدوحة وجوبا، ولجنى البؤساء في أقاليم دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ثمار اتفاقيات السلام التي دخل بموجبها الآتية أسمائهم القصور المنيفة واستظلوا تحت اشجار اللبخ الوريفة،وهُم: مناوي والسيسي والحلو وعقار وعرمان وحجر والهادي، فما كان يجب أن يكون الخطاب المعبر عن الأمم والشعوب السودانية بهذا الضمور والضعف.
اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com