أن إلقاء خطاب في منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة بأسم السودان كانت تمثل تحدي للبرهان، لسببين؛ الأول أن يؤكد لنفسه و للذين يدعمون موقفه أنه مايزال يمثل السلطة التي بيدها القرار. الثاني أن فكرة قبول المجتمع الدولي و خاصة الغرب و الولايات المتحدة الأمريكية أن يلقي خطاب السودان، تعني له أن هناك مساحة متوفرة للتكتيك و المناورة يستطيع أن يتحرك فيها. و معلوم أن أي خطاب يلقى من هذا المنبر لمسؤول يتحدث عن العموميات، لكنه يفتح له منافذ أخرى مع الإعلام العالمي يستطيع من خلالها أن يرسل الإشارات التي يريد أن يبعثها، إذا كان للرأي العام العالمي أو لمجتمعه في الدولة المعنية، و بالضرورة هي سوف تكون رسائل ذات محتوى أعلى في الشأن السياسي.
برتكوليا و سياسيا لا يستطيع ممثل الدولة أن يجري لقاءات صحفية و مقابلات إعلامية قبل الخطاب، باعتبار أن الخطاب هو الذي يحدد مجرى اللقاءات الصحفية القادمة، لذلك تأتي الرسائل الأكثر أهمية بعد إلقاء الخطاب. جاء لقاء البرهان مع رئيس السنغال و رئيس الدورة الحالية للإتحاد الأفريقي ماكي سال في اليوم الثاني بعد إلقاء الخطاب، بمقر إقامته على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. و شرح البرهان لضيفه أن المؤسسة العسكرية دعت القوى السياسية لتسريع وتيرة الحوار فيما بينها للتوصل إلى اتفاق تراضي لتشكيل حكومة مدنية، لافتا إلى أنها ما تزال في انتظار هذا التوافق. و السؤال يصبح إذا لم تستطيع القوى السياسية التوافق ما هو الإجراء الذي يعقب ذلك؟
جواب السؤال نجده في المقابلة الصحفية للبرهان مع و كالة رويتر حيث قال البرهان (إنه لم يتم تحديد موعد محدد للانتخابات لكن الجيش لن ينتظر إلى الأبد.) هنا يشير البرهان أن الوقت غير مفتوح، و هي إشارة تدل أن العسكر سوف يشرعون في تشكيل حكومة مدنية مهمتها التحضير للانتخابات. فهل المجتمع الغربي سوف يعترف بذلك، أم له خيارات أخرى. الرد نجده عند وفد البرلمان الأوروبي الذي يزور السودان حاليا. و الذي كان قد التقى ببعض أعضاء مجلس السيادة العسكريين حميدتي و الكباشي. و أكد رئيس الوفد ديفيد ماكليستر في تصريح صحفي (دعمهم الكامل لمطالب السودانيين في الحكم المدني الديمقراطي. وأشار إلى تأييدهم جميع الآليات للوساطة وتسهيل شروع الأطراف السودانية في عملية سياسية، مؤكدا أن الوقت ليس في صلاح البلاد، التي تواجه تحديات وأزمات اقتصادية وسياسية عديدة(. إذا الوفد الأوروبي أيضا يؤكد أن الوقت غير مفتوح بل يحتاج للإرادة و الإسراع بحل الأزمة. هذا الحديث يتوافق مع شرط العسكر أن يكون تسليم السلطة لقوى متوافقة أو قيام الانتخابات، لذلك نجد طالب الكباشي في لقاء وفد البرلمان الأوروبي، الأطراف المدنية بالانخراط في حوار جاد دون إقصاء يفضي لتوافق سياسي، مؤكدا على ضرورة دمج المبادرات للخروج بوثيقة واحدة تؤسس لقيام حوار وطني. و بالتالي تكون الرسالة للوفد أن يكون لقاءكم مع كل القوى السياسية و ليس مع مجموعة أو مجموعتين يتم اختيارهم. أن الخطابات التي تحمل رسائل تعتبر شروطا غير معلن عنها، لكنها هي تصبح دليل العمل و تحدد مساره، لذلك قال الوفد أنه سوف يلتقي بكل القوى السياسية الفاعلة في الساحة. و هي الممارسة التي تسميها الحرية المركزي بعدم ” مخاطبة جذور المشكلة” لأنها سوف تبتعد عن المسار الذي حدده “المركزي” أن يكون إنهاء الانقلاب حوارا بين العسكر و ” المركزي ” كمرحلة أولى يسلم العسكر فيه السلطة “للمركزي”ثم يخرج العسكر من المشهد السياسي. هذه المرحلة يرفضها العسكر تماما و أيضا ترفضها عدد من المجموعات الأخرى، الأمر الذي يوسع الهوة بين المركزي و المجموعات الأخرى منها الحزب الشيوعي.
عندما قدمت لجنة التسيير لنقابة المحاميين ” مقترح وثيقة الدستور الانتقالي” لممثلي المجتمع الدولي و بعثة الأمم المتحدة وجدت ترحيب من كل الأطراف، و اعتقدوا ممكن أن تشكل أرضية للحوار بين القوى السياسية تقود للتوافق بينها، و انتظروا أن تقدم في تجمع للقوى السياسية و ممثلي البعثات الأجنبية، لذلك وجهت الدعوة لكل المجموعات التي لها مبادرات أخرى، و قبل تقديمها في القاعة بدأت عملية الاعتراض بأن الوثيقة لم تنص بشكل قاطع عن إسقاط الانقلاب، الأمر الذي أضطر أصحاب الوثيقة أن يكتبوا دياجة سياسية للوثقية جعلها غير متناسقة مع محتوى الوثيقة، ثم غاب عدد من الذين تمت دعوتهم، و حتى لا يقال أن اللقاء قد فشل، سارعت لجنة التسيير في وقت أخر أن تفتح حولها حوارا عاما، و دعت له عدد من ممثلي القوى السياسية، و الهدف من الحوار التأكيد أن الوثيقة قد وجدت القبول الذي يمكنها أن تكون هي محور الإجماع، و استغلت القوى السياسية المناهضة ” لقوى الحرية المركزي” أن تستغل الحوار لتشن هجوما عنيفا علي الحرية المركزي، بهدف التأكيد للمجتمع الدولي المساند لها أنهم ليس وحدهم في الساحة السياسية، و إذا لم تتوسع فكرة توسيع الحوار سوف يفشل المجتمع الدولي في مهمته. لذلك ليس مستغربا أن يشير البرهان في خطابه أن البعثة الأممية لم تنجح في المهمة التي أوكلت لها، باعتبار أنها لا تملك الفكرة الصائبة للحل، أن إشارات البرهان الهدف منها أن يقبل المجتمع الدولي بالخطوات التي يريد أن يقوم بها تحت مسمى فشل القوى المدنية في التوافق.
أن لقاء وفد البرلمان الأوروبي مع عدد من القوى السياسية و سماع رؤيتها للحل، يؤكد أن المجتمع الدولي لم يهمل شروط العسكر للتوافق الوطن، و عدم استثناء أي مجموعة من حوار التوافق، الأمر الذي يجعل مهمة وفد البرلمان الأوروبي ليست سهلة و تحتاج إلي عصف ذهني. كان السفير الأمريكي جون جودفري حاول أن يجمع أطراف الصراع في حوار في بيت السفير السعودي لكن فشلت المحاولة، و فضل أن يلتقى بالقوى السياسية فرادة و من بعد التفكير لجمعها على مائدة حوار واحد. و اللجنة الرباعية تقوم بدور الاتصال مع القوى السياسية و إقناعها للحوار و الوصول لاتفاق يمكنها من الاتفاق على حكومة مدنية للفترة الانتقالية المتبقية، فحراك اللجنة الرباعية هو الذي عطل الحراك للبعثة الأممية.
الغريب في الأمر أن اختلاف القوى السياسية و الصراع الدائر بينها، أدى لغياب للقوى المدنية الأخرى التي كانت فاعلة في بدايات الثورة و بعد تشكيل الحكومتين السابقتين، و تعقيد الصراع جعلها على هامش الفعل السياسي. لكن السؤال هل أغلبية القوى المدنية تفضل حل المشكل أم أن خلاف القوى السياسية يجعلها هي المستفيد الأكبر. أن المجتمع الغربي يعتقد أن ضعف الثقافة الديمقراطية في السودان يشكل أهم عقبة لعملية التحول الديمقراطي، لذلك لا يبخل بالدعم من أجل قيام الورش المختلفة و الندوات و غيرها، و هي تشكل فاعلية أكبر لتلك القوى المدنية، و التعقيدات المتواصلة تحتاج إلي قيام ورش أكثر و فاعليات، و بالتالي غياب المجتمع المدني سببه تعدد الورش المختلفة، فحل المشكل ربما يؤدي إلي تقليص هذه الورش أو أن المؤسسات الحكومية هي التي تزاحمهم في هذه الورش، فالمجتمع الدولي رغم أنه يحاول جادا تزليل العقبات لكنه أيضا يعقدها من جانب أخر.
أن الحوار الذي عقدته لجنة التسيير و دعت إليه القوى السياسية، رغم أنه كان حوارا ابتعد عن الوثيقة و أخذ منحى الهجوم على ” الحرية المركزي” كانت لجنة التسيير تواصل فيه، لآن الاجتماع الأول و الثاني سوف يخرج كل النفس الساخن من داخل الجميع و لم يبق سوى الرجوع للحوار الموضوعي الهادف لكيفية الخروج من هذا التحدي أن تتوافق القوى السياسية على الوصول لاتفاق على تشكيل حكومة من اشخاص لهم خبرات و معلوم في الإدارة عالية في مجال تخصصهم إلي جانب وعي كامل بالعملية السياسية يستطيعون أنجاز مهام الفترة الانتقالية، و تذهب الأحزاب لكي تطور و تحدث نفسها، و تستعد لفترة الانتخابات، أن خطوة لجنة التسيير خطوة موفقة إذا استطاعت أن تواصل في العملية الحوارية. و نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com