هذا البرهان يعتبر من أغرب جنرالات الجيش الذين مرّوا عبر بوابة المؤسسة العسكرية، فقد فاق سلفه الدكتاتور المخلوع صاحب السجل الحافل بالمواقف المعادية للتحول الديمقراطي، والمكرّسة لحكم الفرد وتوطين الدكتاتورية العسكرية بالبلاد، فها هو الشبل يتفوق على ذاك الأسد في التعنت والاصرار والمكابرة على المضي قدماً في الطريق المسدود النهاية، ففي تصريحاته الأخيرة لوكالة أنباء رويترز قال:(نحن ننتظر. نحن لا نريد أن ندخل أنفسنا في هذه العملية السياسية ولن ننتظر إلى ما لا نهاية)، انتهى حديث الجنرال، با لله عليكم بماذا تصفون القول المريب لهذا الرجل المرتاب؟، ما الذي يدعوه لينتظر وهو الذي انتهت صلاحية وجوده كرأس للسلطة الانتقالية قبل أن ينفذ انقلابه العسكري بنحو وقت قصير، لماذا لم يذعن لاستحقاق التنحي جانباً ليحل محل رئاسة المجلس السيادي شخص مدني؟، بحسب ما جاء في الوثيقة الدستورية، أليس هو الذي سمح لنفسه لأن يلعب دور الثور على خشبة مسرح الخزف؟، وأليس هو والمتآمرون معه من اختطفوا سلطة الانتقال واعتقلوا رئيس وزراءها؟، من ذلك الذي طلب من البرهان أن يتتدخل في العملية السياسية؟، إنّ الأزمة الآنية المستحكمة والورطة الكبرى التي أغرقت البلاد في بحر المجهول ووضعت الوطن على شفير الحرب الأهلية، سببها يكمن في الانقلاب العسكري الذي قاده البرهان ودعمه أصحاب المصلحة من صفقة جوبا.
الجيش يجب أن يتنحى جانباً اليوم وليس غداً، دون قيد أو شرط، وعلى جموع جماهير الشعب السوداني أن يدركوا حجم الخسائر المادية والمعنوية التي تكبدتها البلاد جراء الانقلابات العسكرية القاتلة لبذرة التنمية والتقدم والازدهار، وعلى الانقلابيين أن يتحمّلوا مسؤولية الاخفاقات المؤرخ لبدايتها من اليوم الأول للانقلاب، وبطبيعة الحال يقع العبء الأعظم على اكتاف القيادات العسكرية صاحبة الدور المحوري في احكام القبضة الانقلابية، كما أن تعليق المساعدات الدولية المقدرة بمليارات الدولارات يجب أن ينوء بحمل أوزارها هذا الجنرال ومؤيدوه وداعموه ومساندوه، وما يجب أن يعيه هؤلاء أن جدل الدستور الانتقالي والانتخابات شأن مدني صرف لا يجب أن يحشروا أنوفهم فيه، أما فيما يتعلق بترشح الجنرال الانقلابي من عدمه في أي انتخابات عامة، نقول، على القوى السياسية والمدنية والناشطين والنقابات المهنية والفئوية المنوط بها وضع دستور الانتقال، أن يحصّنوا مؤسسات الحكم المدني من أن يتولى أمرها العسكريون الانقاذيون، فحرمان حزب المؤتمر الوطني (المحلول) من ولوج أي دهليز من دهاليز الحكم المستقبلي لوحده لا يكفي، إلّا بعد أن يتم إبعاد ضبّاط القوات المسلحة أصحاب الولاء (للحزب القائد للوطن الرائد)، وابتعاد الجيش عن شئون الحكم ليس بالضرورة أن يقترن بحكومة منتخبة، وإنّما يكون بمجرد حدوث توافق حول حكومة كفاءات مهنية.
إنّ قبح الأعذار المقدمة من قائد الانقلاب ومبرراته الهادفة لشرعنة جريمة سطوه على حكومة الانتقال، فاق عار ذنوب جريمة فض اعتصام ميدان القيادة العامة لقوات (الشعب) المسلحة، وكما يقال ليس بعد الكفر ذنب، فبعد أن فعل البرهان تلك الفعلة النكراء والعملية الشنعاء يوم الخامس والعشرين من شهر اكتوبر الماضي، لم يعد ما يقوله يلقى الآذان الصاغية والألسن الصادقة والأعين المصدّقة، فبعد أن حنث بالعهد والوعد الذي قطعه على الثوار لن يكترث لأقواله أحد، ولن تتطابق الخطى مع خطواته أبداً، فالكفّارة الوحيدة لجرمه المرتكب بحق الشرعية إن أراد أن يرحم نفسه ويريح ضميره، هي أن يتنحى جانباً ويفسح المجال لحكومة الكفاءات المهنية المستقلة، مع الابتعاد الكامل للأحزاب السياسية الطامحة في خوض غمار الانتخابات العامة، إلى ما بعد انقضاء المرحلة الانتقالية المؤقتة بتوقيت زمني يمكنها من انجاز ضرورات الانتقال، فالوقت قد حان لأن تتولي شأن البلاد منظومة حكومية إدارية مهنية مشهود لها بالكفاءة، وآن الأوان لتطبيق الشعار الوفاقي العادل والمنصف – العسكر للثكنات والأحزاب للانتخابات – وبذلك يتم تعبيد الطريق المؤدي لانتشال الوطن من فك غول التشرذم والتفكك والتشتت، فالخيار الأوحد لكسر جمود انسداد الأفق السياسي هو تنحي الجيش عن السلطة، من غير انتظار ولا (جرجرة) ولا نسج للآمال العراض للاستئثار بالكرسي.
اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
24 سبتمبر 2022