تناولنا في المَرّة السابقة إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التعبئة الجزئية، خلفيّاتها ومحاولة قراءة تعاطي الشعب الروسي معها، والرسالة التي وجهها له الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي داعياً للثورةِ ضُدّ القيادة في الكرملين وإسقاط ما يزعم أنّها سُلطة الرجل الواحد، في إشارة واضِحة ومباشِرة للرئيس الروسي بوتين. وختمنا التقرير التحليلي بضرورة تناول الجزء الأهم من خطاب الرئيس بوتين القصير صباح الأربعاء الماضي وحديثه عن السلاح النووي الذي اعتبره الرئيس الأمريكي جو بايدن مساء نفس اليوم من على مِنْبَرِ الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنّه تهديداً جديداً، ويرى مراقبون غربيّون ضرورة التعامل معه بجدية، فيما كتب المحلل السياسي جورج فريدمان “بصرف النظر عن الخيار النووي، يمكن لروسيا أنْ تهاجِم رومانيا أو مولدوفا في سياقِ المشاكل التي تواجهها في أوكرانيا”، فعلى ماذا استند فريدمان وما هي قراءته لمُجْمل التطورات الساخِنة؟ وما هو الفرق بين السلاح النووي التكتيكي والأسلحة النووية الاستراتيجية؟
- الحديث عن أسلحة نووية:
في البدء علينا أنْ نعرف أنّ الأسلحة النووية التكتيكية تمّ بناؤها من أجل التأثير التكتيكي وليس التأثير الاستراتيجي. ويُمْكِن للأسلحة النووية الاستراتيجية، مِثل تلك التي أُلقيت على هيروشيما وناجازاكي في اليابان ودشّنت بداية نهاية الحرب العالمية الثانية، أنْ تدمِّر مساحة كبيرة من خلال الانفجار والتداعيات النووية. وهي تدمِّر منطقة الانفجار وتزيد التداعيات من مُعَدَّل القتل لتحملها مسافة كبيرة في كل الاتجاهات. ومع ذلك، يجِب أنْ نتذكّر أنّه بغضِّ النظر عن عدد الضحايا، لمْ يتمّ التخلي عن أيِّ من المدينتين تماماّ، وكلاهُما كان مأهولاً بالسُكّانِ ويعملان بمستوى معقول بعد حوالي عام من انفجار القنابل.
إنّ قوّة الأسلحة النووية التكتيكية (حسب النوع) أقل من 1% من انفجار هيروشيما، والأهمّ من ذلك أنّها تنتِج تأثيرات نووية قليلة.
قد تحدِّد الأسلحة النووية التكتيكية نتيجة معركة، ولكن ليس الحرب، ولنْ تجعل الأرض غير صالحة للسكنى. لذلك، فإنّ الخيار النووي الآخر لروسيا هو خيار استراتيجي: تدمير المُدن الأوكرانية بسلاحٍ من نوع هيروشيما. وهذا الخيار له نُقْطتا ضُعف لأنّ الرياح في أوكرانيا مُتغيرة، ففي شرق أوكرانيا، على سبيل المِثال، تهب إلى الشمال الشرقي. وقد يؤدي أيّ تفجير نووي استراتيجي إلى إرسال تداعيات عبر روسيا إلى مدينة فورونيج الروسية الاستراتيجية. ومن المُحتمل أنْ يؤثِّر أيّ استخدام لسلاح نووي استراتيجي على الأراضي الروسية.
الخطر الثاني، وإنْ كان غير مُرجَّح، يتعلّق بردود الفِعل الغربية حيث تمتلِك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا أسلحة نووية استراتيجية. ويُمْكِن لأيٍّ منهما أنْ يتّخِذ ضربة روسية لأوكرانيا كتهديد مُحتمل لها، مِمّا يؤدي إلى تبادل التدمير. قد يكون هذا الأمر بعيد المنال ولا يُمْكِن لأيِّ من الدول الثلاثة تخيُّله، ولكن عادة تتضخّم المخاوِف في مراكِزِ القيادة.
ويخْتِم المُحلِّل جورج فريدمان تحليله ويقول “النظر إلى القيمة المحدودة للأسلحة النووية التكتيكية والكارثة المُحتملة للأسلحة النووية الاستراتيجية، قد يقود إلى اعتبار التهديدات النووية الروسية مُجرّد حرب نفسية مُمْتازة لكنّها لا تستطيع حلّ المُشْكِلة العسكرية الروسية”. ومع ذلك، يرى الكثير من المراقبين ضرورة أخذها بجدية.
وعليه، هل استخدام الأسلحة النووية مُستبعد، مُحْتمل أمْ مؤكد؟ وهل يريد بوتين أنْ يعُمّ الخوف فقط أمْ تدفعه الهزيمة إلى الدخول في المجهول وتجريبه؟ وهل يُمْكِن أنْ يحدُث شيء من ذلك حقّاً؟ للأسف الإجابة تتراوح بين نعم ولا، وهذا الأمر يجعل قراءة الموقِف تقِف محلّك سِر، لا تتحرّك لاستقراء الخطوة التالية!
يقول مراقبون “لتقليل فرص استخدام النووي – التكتيكي أو الاستراتيجي، يجِب افْتِراض أنّ التهديد حقيقي” فرُبّما يؤدي احتمال انهيار القوات الروسية انهياراً كبيراً في جنوب شرق أوكرانيا خلال الأشهر السِتّة إلى التِسْعة المُقبِلة إلى اسْتِخدام بوتين أو الاقتراب من استخدام أسلحة نووية تكتيكية. ويضيفون “في كل لحظة، اختار بوتين التصعيد وزيادة المخاطِر، يبدو الأمر كما لو أنّه يبحث بقلق شديد عن حرب وليس هناك ما يشير إلى أنّه سيفعل أي شيء مُخْتلِف، ولا يوجد دليل على تحرُّك لعزله من منصبه”. وبرأيهم يجِب على الحُلفاء الغربيين التفكير بجِدِّية في كيفيّة دفع روسيا لعدم القيام بعملٍ سيكون كارثياً عليها وعلى العالم، وكيف يُمْكِن تفادي تصعيد حرب تقتُل ملايين البشر؟ وكيف تبدو الخطة الروسية وتلك التي يجِب أنْ تقابلها؟ وهل يُمْكِن أنْ تتضمّن خيارات الحرب التي تجري تطوراتها المخيفة الفهم الذي تطلق عليه الجيوش نقاط القرار، أي الفُرصة الحاسِمة للنظر في إجراءات روسية متوقّعة وتصوّرها وتشكيلها والتأثير عليها؟
لعل الثابت في أيِّ قراءة يجِب أنْ يبدأ بإعادة التأكيد لأخذِ التهديد على مَحْمَلِ الجَدِّ والعمل لتقليل المخاطِر، وأنْ يتضمّن العمل مع الصين والهند للضغط على روسيا. وفي الواقع، قد تثبت الصين أنّها لاعِباً رئيسياً في إبعاد بوتين عن أسوأ خياراته، ويُمْكِن أيضاً استغلال شركاء روسيا العسكريين وفي مجال الطاقة.
وعلى صعيد المُتحرِّك، لا شكّ أنّ هناك حاجة الآن إلى استجابة عالمية مُحْتملة لتشكيل سلوك روسيا في الأشهر المُقْبِلة، ليبتعِد عن أيِّ تهديد نووي، تكتيكي أو استراتيجي. أمّا إذا استمرّ الغرب في الاعتقاد بأنّ كل ما يفعله بوتين هو خِدعة، فسيكون أمام روسيا خطوة واحدة والدخول في المجهول.
جميع الذين يقولون إنّ بوتين لنْ يستخدم الأسلحة النووية هُم معلقون وسياسيّون غربيّون. والذين يقولون إنّ روسيا ستستخدمها هي أصوات خارجة من موسكو وبالأخص من الكرملين في شخص الزعيم الروسي نفسه وأركان حربه ودبلوماسيته، وقد قالوا ذلك على الأقل مرّتين منذ بدء الحرب في أوكرانيا.
لا غرو إنّ أحدث تحرُّكات الرئيس بوتين تتعلّق بقائد يواجه هزيمة تقليدية في ساحة المعركة. وعليه تبقى تعبئة جنود الاحتياط، والتهديد باستخدام الأسلحة النووية، وضمّ الأراضي بالاستفتاءات السريعة، كلها إجراءات تهدِف إلى دعم الجهود الحربية المُنْهارة.
كما أنّها تحرُّكات مُصمِّمة ومُصمَّمة على إجبار الغرب للتوقُف عن إمداد أوكرانيا ودعمها ومساندتها بالسلاح الذي أحدث مؤخّراً الفرق في ارض المعركة ودفع القوات الروسية للانسحاب والتراجع من بعض المواقع.
لا ريب أنّ قطع الارتباط بين الغرب وكييف، مالياً وسياسياً وعسكرياً، هو الرهان الأكبر لموسكو. وإذا تمكَّن بوتين من ذلك ولو بنسبة 50%، بإمكانه تحقيق انتصار والذهاب لمفاوضات وهو قويّاً، وأقوى مِمّا كان قبل 24 فبراير 2022، وبذلك يكون التهديد النووي قد حقّق غرضه كسلاح قوي استعمل بوتين أهم جوانبه كأداةِ ردعٍ فعّالة، فهل ينجح أمْ من المُستبعد أنْ يحدُث ما يصبو إليه الرئيس الروسي لتستسلم أوكرانيا لإرادته؟
بشكل عام، لمْ يعُد بإمكان أي سياسي أوروبي عاقِل أنْ يتجاهل الجانِب المُظْلِم في روسيا، كما فعل معظمهم منذ عام 2007. ولو كانت الدول الغربية قامت بتسليح أوكرانيا، ولو أنّ ألمانيا نأت بنفسها مُبكِّراً عن الغاز الروسي، لكان من المُمْكِن منع اندلاع الحرب التي أشعلها فلاديمير بوتين. ومع ذلك، تلك الأيام ولّت منذ فترة طويلة وبوتين يبحث الآن عن انتصار في حرب تتطور خِلافاً لخططه الأساسية ويده الآن على الزِرِّ الأحمرِ. - خيار مهاجمة رومانيا أو مولدوفا:
أحد خيارات زعيم الكرملين، في سياق المشاكل العسكرية التي تواجهه في أوكرانيا، هو مهاجمة رومانيا أو مولدوفا لأنّ الهجوم على حليف أمريكي من شأنه أنْ يقلِّل من دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا لوجستياً، وسيصعِّب على واشنطن العمل على جبهتين، بحسب المحلل جورج فريدمان، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة التنبؤ والتحليل الجيوسياسي Geopolitical Futures.
ويقول المحلل السياسي الغربي الأشهر جورج فريدمان إنّ المشكلة الرئيسية للروس في الحرب في أوكرانيا هي الدعم اللوجستي الذي تقدِّمه الولايات المتحدة إلى كييف، ويضيف “بصرف النظر عن الخيار النووي، لدى روسيا أيضاً خيار مهاجمة رومانيا أو مولدوفا للقرب الجغرافي بينهما من أوكرانيا”، ويواصل “على روسيا تغيير ديناميكيات الحرب حتّى لا تُجْبَر على تسوية سياسية لا تريدها”. وفي تقديره إنّ المفتاح هو إنتاج تهديدات للأوكرانيين من اتجاهات مُتعدِّدة، تكتيكياً واستراتيجياً. ويشرح فريدمان موضِّحاً “في الواقع، حاجتهم الأساسية هي تعطيل الخدمات اللوجستية للولايات المتحدة من خلال خلق تهديد عسكري خطير لحليف آخر للولايات المتحدة أو مُهاجمة أحدهم بشكلٍ مُباشِر. وليس من الواضِح أنْ تصبح الولايات المتحدة قادرة على العمل على جبهتين، بيد أنّ روسيا قد تزعزع توازن الولايات المتحدة وتجبرها على تقليل الدعم لأوكرانيا، مِمّا قد يفتح فُرصاً لروسيا”، ولذلك، من وجهة نظر فريدمان، إنّ أكثر الأهداف منطقية هي رومانيا ومولدوفا. ويضيف فريدمان في تحليله الذي اهتمت به في رومانيا وتناولته كافة الوكالات والصحف ووسائل الأعلام الحديثة “تقدِّم الجغرافيا خيارات قليلة في هذا الصددِ، ولكن على الأرجح أنْ يكون الهجوم على مولدوفا ورومانيا، وهما دولتان متصلتان ببعضهما البعض، ولا يُمْكِن أن يكون الهجوم عليهما بريّاً، وسيتعين على روسيا في هجومها الاستفادة من البحر الأسود، وإسقاط قوات كبيرة في رومانيا، وهي عضو في الناتو وتستضيف قوة بحرية أمريكية. ولتحقيق ذلك، على الروس أولاً استخدام الصواريخ لإخراج الصواريخ الأوكرانية المُضادة للسُفن مثل تلك التي أغرقت السفينة الحربية موسكفا. وعند القيام بذلك، سيتعين عليهم كسب والحفاظ على التفوق الجوي أو الصاروخي فوق البحر الأسود ثم الهبوط ونشر قوة كافية لقتال القوات الرومانية التي ستجد الدعم والمساندة من القوات الأمريكية. وبالنظر إلى وجود قوات بحرية أمريكية خارج مضيق البوسفور، وإلى تفويض الناتو أو إلى الضرورة المُطلقة، ستُجْبر تركيا على إغلاق البوسفور، وسيشكل ذلك تهديداً خطيراً لروسيا، وأضِف إلى ذلك ضربة جوية على القوات الروسية ليفشل هجومها على الأرجح وينهزم”.
ووفقاً لما نقلته صحيفة (اديفارول) الرومانية، يواصل فريدمان تحليله الاستراتيجي وتقييمه لكافة الأطراف التي ادخلها في معادلاته، قائلاً “لا تزال روسيا في حيرة من أمرها فيما يتعلّق بالحلول، وستكون التكلفة السياسية للتخلي عن الحرب باهظة. والهجوم على دول البلطيق سيجلب هجوماً بولندياً كبيراً على الجناح الروسي، وشنّ هجوم على فنلندا، على سبيل المثال، سيتِمّ اكتشافه وتوقعه. وينطبق الشيء نفسه على رومانيا، ولكن مع فُرص أصغر إلى حدٍّ ما. وبالطبع، المناورة العسكرية في رومانيا مشكوك في نجاحها، لكن دعونا نفترِض أنّ روسيا أجْبِرت على الدفاع عن نفسها وليست مستعدة للتخلي عن الحرب. وعليه فإن الخيار الأخير الذي يبقى لها هو حشد القوات في الشرق ثمّ مواصلة مهاجمة أوكرانيا. ويظل هو الحل الأكثر ترجيحاً لروسيا، بافتراض أنها تستطيع حشد وتدريب وتحفيز قوة كبيرة بما يكفي. وإذا لمْ يَحدُث ذلك، فرُبّما تحصل روسيا على تعادل ضعيف، ولا تستطيع فرض إرادتها على أوكرانيا”.
تبقى القول بعد كل ذلك الاستعراض، أنّ القليل جداً من الخيارات تبدو جذّابة لروسيا في هذه المرحلة، والتكلفة السياسية للتخلي عن الحرب هائلة، وإذا كان على الروس الاسْتِمرار فيها ولمْ يتمكّنوا من استعادة زمام المبادرة، فإن الصلاة ستكون الخيار الوحيد المتبقي لهم لمقابلة مصير محتوم. - نقلاً عن صحيفة (التيار)