١- “صقر افريقيا” كان ذلك واحدا من الألقاب التي منحتها الصحافة الرياضية السودانية لحارس مرمى فريق الهلال والمنتخب الوطني لكرة القدم منذ منتصف الخمسينات وهو في مقتبل العشرينات وحتى مطالع السبعينات بعد حراسة للمرميين العتيدين استمرت نحو عشرين عاما. وهذا اللقب “صقر افريقيا” يفصح عن سره حينما يكون حامله رياضيا يلعب حارسا للمرمى، انه الكابتن النجم سبِت دُودُو، رحل بالأمس عن الدنيا عن نيف وتسعين عاما في مدينة جدة التي أعطاها نصف عمره.
٢- كان سبت دودو نجما كبيرا تملأ صوره الصحف وتباع في الاكشاك كبطاقات بريدية (اه والله) حتى بعد اعتزاله، تارة وهو يحمل الكرة وأخرى مع كؤوس الدوري لناديه “هلال امدرمان” ومن تلك بعض الصورة المرفقة في هذا البوست. شاهدته في مدينة جدة، السعودية، مطلع الثمانينات وأنا في عهدة جامعتها شهورا قليلة. كان وقتها يعمل مدربا لحراس مرمى النادي الاهلي الجداوي واستمر معه بعد ذلك زمنا طويلا لم يغادره حتى تقاعد وبقي هناك إلى جواره وفي مدينته.
٣- كنت أجد نفسي احيانا في تمارين محضورة لكرة القدم يشارك فيها عدد عديد من الجالية السودانية في ملعب ترابي مسور وسط المدينة يقع خلف مبنى كان -وربما لم يزل- فرعا لوزرة الخارجية السعودية في المدينة-الميناء جدة. لم يكن سبت يشارك في تلك التمارين كلاعب مخضرم ولكنه كان يحضرها ويألفها ويمازح معارفه فيها وهو يرتدي زيه المفضل، قميص نصف كم فضفاض هادئ اللون وبنطلون من اي لون ويداعب مفتاح سيارته دائما في يده.
٣- كنت احيانا اكون قريبا من كنبته ولفتني قياس قدمه، لحظت انه قدم يتخطى المألوف في حجمه، لذلك كان لا يستره وهو في جدة آنئذ سوى بحذاء “المركوب” السوداني الذي (يُقطع) لأجله بشكل خاص ويرسله له صديقه الصانع في أمدرمان كما قال، إذ لا تحفل محلات الاحذية الرياضية او غير الرياضية بقياس يناسب قدم الكابتن، هكذا حدثنا.
٤- غادرت السعودية الى بلاد اخرى ولكني لم انقطع عن السودان عاما ولا عن متابعة شؤون الرياضة التي أحببناها ولها عملنا شرخا من عمرنا في السبعينات ونحن بعد طلابا، ولاحظت غيابا تاما لسبت دودو عن مجتمعه العاصمي وعن ناديه الاثير “الهلال” وعن نشاط الكرة في السودان وعن الاعلام الرياضي السوداني وعن حراسة المرمى وما يمكن ان يقدمه لها ولاجيالها، سجل سبت دودو هذا الغياب عن كل هذه الدوائر والمحافل وهو تلك الشخصية الودودة الهادئة المحبوبة التي تعرفها مدينة جدة وأصبح واحدا من اعزة سكانها.
٥- ساد هذا الغياب من الكابتن وهناك من عاشوا نجوميته اطفالا وصبية وشيبا وشبابا على ألسنة المذيعين وتعليقات الصحف وحتى اعلاناتها، ولكن ظل السؤال سؤالا بلا إجابة كلما أتت على الخاطر ذكرى الرجل: لماذا انقطع هذا النجم العملاق المحبوب عن بلد شهد نجوميته وهو يعيش قريبا منه في بلدة مثل جدة، تعتبر قريبة بكل مقياس؟
٧- في نحو العام ٢٠٠٧ كنت والأخ عماد الدين عباس (جنابو) في ضيافة الكابتن امين زكي، خليفة سبت دودو في كابتنية نادي الهلال والمنتخب الوطني معا، وذلك بداره في مدينة عجمان بالامارات والتي عمل فيها أمين قبلذاك مدربا محترفا للكرة في ناديها الاول “عجمان”. كان كابتن امين زكي من المغرمين ب”أعمال” الباذنجان وله فيه فنون ونظريات وأحاديث علماء ، فأكرمنا بواحد من تفانينه اذ لم تكن عائلته في معيته حينها.
٨- كان المرحوم كابتن امين زكي (اشهر “ثيرباك” في عصره السوداني ومن جيل كابتن سبت) شخص يجيد الحديث والرواية بشكل أمدرماني محبب لا يخلو من القفشات والضحك على اي شي فضلا عن غرمه بالمحاكاة وحبه للطرب وفضلا كذلك عن انه يتمتع بصوت اذاعي متميز او “تينوري” كما وصفه بروفيسور محمد عبد الله الريح في منشور له مؤخرا وقال انه كان يؤهله لأن يصبح مذيعا.
٩- بعد أن فرغنا من مرحلة “سَلَطة الأسود” من صنع كابتن امين ودلفنا إلى مرحلة الشاي تذكرنا كابتن سبت دودو وخطر لي ان اسأل صديقه عنه، فسألته “ليه سبت ما بيجي السودان يا كوتش؟” رد علي بسؤال “انت ما عارف مشكلة سبت دودو؟”، قلت “لا”، “طيب اقعد اقعد اوريك”.
١٠- روى لي كابتن امين زكي رواية غريبة ومؤسفة مر بها سبت دودو في السودان وأدت إلى إنهاء خدمته العسكرية ضابطا في الجيش بعد اعتزاله الكرة بسنوات قليلة وهو في قمة عطاءه إثر واقعة لم يتحسبها ودَفعته من بعد للاغتراب الطويل مع أسرته في السعودية وشكلت له حاجزا نفسيا تجاه الحياة “الطبيعية” في السودان. بعد وفاته بحثت في مناعي الرجل من عارفيه عن ذكر لما افادني به كابتن امين ولم أجد له اثرا، فرأيت أن أذكره هنا لمن يهتم او يعتبر بالتاريخ، فما القصة التي اغضبت سبت ولم تخلو من جانب سياسي لعين؟
غدا نواصل. رحمة الله على الرجلين الموهوبين.