العديد من كتاب المقالات والمساهمين في الحوارات والندوات واللقاءات ومنابر النقاش المختلفة، ومن ضمنهم شخصي، يشيرون في كتاباتهم ومساهماتهم إلى وجود علاقة وثيقة ما بين الأزمة الراهنة في البلاد والمتفاقمة بعد إنقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وكل من مفهومي «الأزمة الوطنية العامة في السودان» و«المؤتمر القومي الدستوري». فما هو معنى وجوهر هذين المفهومين، وما هي كُنه وطبيعة تلك العلاقة الوثيقة التي تربطهما بالأزمة الراهنة في البلاد؟
سؤال وصلني من إحدى مجموعات الشباب في مدينة أمدرمان، تفاعلت معه في رسالة مطولة بعثت بها إلى المجموعة، ورأيت أيضا أن ألخص مضمون إجابتي في مقال اليوم ومقال الأسبوع القادم، علما بأني تناولت بعض زوايا هذا الموضوع في مقالات سابقة تعود إلى العام 2020.
وفي معنى وجوهر مفهوم «الأزمة الوطنية العامة في السودان» نقول: منذ نيله الاستقلال السياسي وحتى اليوم، يعاني السودان من دوامة الصراعات والأزمات التي تركت بصماتها العميقة في جميع مجالات الحياة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية.
هذه الصراعات والأزمات تجلت في تفاقم واستدامة الحرب الأهلية، سيطرة أنظمة الاستبداد والطغيان وما تتسم به من انتهاكات لحقوق الإنسان، عدم الاستقرار السياسي مع تعاقب الانتفاضات الشعبية والانقلابات العسكرية، معاناة الاقتصاد وتعثر برامج التنمية حتى أصبح المواطن السوداني يشكو الفقر والفاقة والافتقار إلى المعينات والخدمات الأساسية والضرورية للحياة كخدمات الصحة والتعليم وتوفر مياه الشرب الصالحة للإنسان والحيوان مما أدى إلى تفشي المجاعات والوبائيات الفتاكة.
واليوم، تُعبر هذه الأزمات عن نفسها في علو خطاب العنصرية والكراهية، وفي تسارع خُطى البلاد إلى حالة اللادولة، وفي الحضور القوي لاحتمال تفكك الدولة، والذي بدأ فعليا بانفصال جنوب السودان في التاسع من يوليو/تموز 2011، واحتمال بروز دعوات أخرى تطالب بتقرير المصير أو الانفصال في مناطق الحرب الأهلية الدائرة الآن في دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان. كما تجلت في إعاقة نمو واتساع القوى الحديثة في المجتمع، القوى التي يفترض أن تبني المستقبل، وفي ترييف المدينة التي خبا بريقها كمركز إشعاع ثقافي وسياسي، وفي ظهور شكل جديد من الاستلاب والاغتراب ليس تجاه مؤسسات الدولة فحسب، وانما تجاه الكيان السوداني ذاته، وفي إنهاك مؤسسات المجتمع المدني، بما فيها الأحزاب، وفقدان الثقة فيها، ليتراجع المواطن إلى رحاب القبيلة والعشيرة بحثا عن الأمن والأمان، وما يحمله ذلك في طياته من نذر تصدع وتفتت الكيان السوداني.
هذه الأزمات والصراعات، وبكل تجلياتها المذكورة أعلاه، ليست هي مجرد صراعات على السلطة بين المعارضة والحكومة، أو مجرد معارك بين الحكومة المركزية والمتمردين عليها، وأصلا سنكون من الواهمين إذا توقعنا أن تختفي بمجرد وقف القتال وإخماد نيران الحروب الأهلية، أو بمجرد توقيع القوى المتصارعة على ميثاق أو معاهدة سلام ما، أو بمجرد الانتفاضة والاطاحة بالديكتاتورية. أما جوهر وجذور هذه الأزمات والصراعات، ففي اعتقادي، يكمن في عدم حسم القضايا المصيرية التأسيسية لبناء دولة ما بعد الاستقلال، الدولة السودانية الوطنية الحداثية. أما عدم الحسم هذا، فناتج من فشل السودانيين، وتحديدا النخب، في التوافق على إجابات لأسئلة التأسيس هذه، والتي تشمل:
ما هو شكل الحكم الملائم والذي يحقق مشاركة عادلة في السلطة بين مختلف مكونات السودان القومية والعرقية والتشكيلات الوطنية؟ كيف نحافظ على قومية مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية؟ ما هي الممارسة الديمقراطية الملائمة لنا والتي تجمع بين القيم الكونية للديمقراطية والسمات الخاصة لواقعنا الاجتماعي؟ كيف نؤسس لإصلاح النظام السياسي، بما في ذلك الأحزاب، التوافق على نظام انتخابي، الممارسة البرلمانية، دور كل من النقابات والمجتمع المدني والمؤسسة العسكرية، التوافق على دستور دائم..الخ، بما يضمن كسر الحلقة الشريرة، أي إنهاء متوالية الانقلابات والإنتفاضات والنظام الديمقراطي الضعيف فالإنقلاب عليه؟
كيف يتم التوزيع المنصف للثروة والموارد بين مختلف مكونات السودان القومية والعرقية، بمعنى كيف نتعامل مع موارد البلاد وخطط التنمية بما يزيل الظلم والاجحاف والإهمال عن المناطق المتدنية تنمويا، مع إعطاء أسبقية لمناطق التوتر العرقي والقومي والاجتماعي، وذلك في إطار المشروع الاقتصادي العلمي الذي يراعي عدم تدهور مواقع إنتاج الفائض الاقتصادي وعدم استنزاف مركز ومصدر الخبرة العلمية؟
إن التوزيع غير العادل للثروة، والصراع على الموارد، يعتبران من بين الأسباب الرئيسية للحرب الأهلية في السودان.
كيف يتم التوافق حول العلاقة بين الدين والدولة، والتي حتى الحظة يحتدم السجال حولها، علما بأنها من القضايا التي لا يمكن أن تحسم وفق منطق خضوع الأقلية لإرادة الأغلبية، وهي أيضا أحد أسباب الحرب الأهلية في البلاد؟
ما هو جوهر الهوية السودانية؟ هل هي هوية عربية أم أفريقية أم سودانوية؟ ولقد تجلت مسألة الهوية في الصراع حول اللغة والثقافة والتعليم والإعلام…الخ.
هذه هي أسئلة التأسيس التي تشكل لب القضايا الدستورية والهيكلية المؤسسة لدولة ما بعد الاستقلال. وهي أسئلة ظلت، منذ فجر الاستقلال وحتى اليوم، حيرة بدون إجابات، أو بإجابات مبتسرة أو خاطئة. وحالة الفشل في تقديم الإجابات المتماسكة والمتوافق عليها هذه هو ما نعنيه بالأزمة الوطنية العامة في السودان. وهي ليست بأزمة سطحية أو عابرة أو مؤقتة، وإنما هي عميقة وشاملة ومزمنة، صحيح تمتد جذورها إلى فجر الاستقلال، لكنها تفاقمت وتعقدت بالمعالجات القاصرة والخاطئة علي أيدي القوي الاجتماعية التي شكلت الأنظمة المدنية والعسكرية التي تعاقبت علي حكم السودان طيلة الفترة التي أعقبت الاستقلال وحتى يومنا هذا. وفي هذا السياق، فإن إنقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وما أفرزه من واقع مأزوم يسعى للارتداد بالثورة، يدخل ضمن تجليات هذه الأزمة الوطنية العامة وتجليات الحلقة الشريرة، ويحقق تلك العلاقة الوثيقة المشار إليها أعلاه، وهو ما سنواصل الحديث عنه في مقالنا القادم.
نقلا عن القدس العربي