أقرب إلى القلب :
أجل.. لكلٍّ منّا من إسـمه نصيب. .
حمل أشـقاؤه أسـماءَ الخلفاء الرّاشدين ، الأكبر حمل إسم الخليقة الأول أبوبكر ، معلم نابه ورائد من رواد الرواية السودانية، إسمه أبوبكر خالد مضوي، أما شقيقه الأصغر عثمان خالد مضوي فحمل اسم الخليفة الرابع عثمان، وهو محام وقانوني وسياسي ضليع. أما من حمل اسم الخليفة الثاني فهو المربّي عمر خالد مضوي الذي رحل أواخر سبتمبر 2022 ، وبعد سنوات من رحيل شـقيقيه المذكورين ، لهم جميعا الرحمة والمغفرة. رحلوا جميعهم وقد تركوا وراءهم إرثاً مذكوراً، كلاً في مجاله وتخصصه. .
قبل أسابيع من وفاة المربي عمر خالد مضوي ، وفي تنقيبي عن بعض رسائل قديمة أحتفظ بها في حاسوبي ، صادفتُ صورة من رسالة من صديقي مصطفى مدثر أبوالقاسم ، وهو صيدلي كبير، وأديب تشق له الثلوج في مهجره البعيد في كندا، وتزيّن له ساحات الابداع عندنا في السودان. بعث صديقي مصطفى رسالته تلك، لشقيقي المهندس الأديب عبدالله الشقليني، ويلقبونه “بيكاسو” لشـغفه بالرّسـم وهو المعماري الضليع. حدّث مصطفى في رسالته طرفاً من ذكرياته في ذلك الزّمان ، وأسهب في ذكرما حفظت ذاكرته عن صداقتنا معا، فأفض يذكر أخي الأصغر، بما شهد عن اجتراحاتنا ونحن في تلك السن الباكرة، في مدرسة كان ناظرها المربّي المُعلّم عمر خالد مضوي ومعه ثلة من الأساتذة الكبار في تلك المدرسة وعن نشاطنا أنا ومصطفى في إدارة الجمعية الأدبية في تلك المدرسة، برعاية المربّي عمر خالدمضوي. .
أدهشني مصطقى بذاكرة حاضرة، فحكى عن فصلنا الدّراسي في مدرسة النهضة تلك والتي صارت الآن مقراً لفرع من مدارس كبيدة إلى الشرق من دار حزب الأمة . لم يغفل مصطفى عن ذكر أسـماء معلمينا في ذلك الزمان فحسب، بل طفق يذكّر بأسماء التلاميذ الذين كانوا معنا في الفصل ، في زمان أوائل ستينات القرن الماضي. إنها أكثر من سـتين عاماً يا هـذا. .! لمن يطالع ما أكتب هنا، له أن يفحص ما يرد فيخمِّن كم كانت أعمارنا أنا وصديقي مصطفى مدثر في عام 1960 و 1961. . !
لكن وأنا أطالع رسالة صديقي مصطفى، يفاجؤني القدر بعد يومين، برحيل المربى الفاضل النبيل عمر خالد، فتملكني حزنٌ طاغٍ . وقفتُ أنظر من وراء ناقذة الفصل في الجزء الجنوبي من المدرسة إلى مكتب الناظر عمر خالد مضوي ، لكنه لم يكن هناك. ألتفتُّ إلى جاري في الفصل مصطفى مدثر ، فلمحتُ دمعة على خديه ، وهو عصيّ الدّمع الذي أعرف. شهق من حزنه، ثمّ قال لي إنه أيضاً لا يرى الناظر في مكتبه. هل رحل. . ؟
لكن يا صديقي مصطفى قل لي : أهي ستين عاماً أم ستة أيام. .؟
هاتفتُ شقيقي عبدالله شقليني “بيكاسو”، المقيم في دولة الإمارات وأنبأته برحيل الناظر حبيبنا الذي خصّه مصطقى مدثر في رسالة قديمة بحكايتنا معه، ونحن صبيان دون الرابعة عشر من العمرـ فعزّاني وتذكّر تفاصيل ما كتب صديقي مصطفى مدثر له قبل سنوات.
مثل هذه الكتابة البهية التي حملت لئالي الذكريات من صديقي العزيز مصطفى مدثر، يحدّث فيها عن ناظر مدرسـتنا والمربّي الذي نعتز أنهُ ومن معه من كبار معلمينا، قـد أحسنوا صنعا ، وأكملوا تربية، فكنا عند رحيـله أول الباكين . أقتطف أدناه طرفا مما كتب مصطفى :
( . . كان في مدرسة النهضة بأم درمان عقداً فريداً من المعلمين الأفذاذ في تفانيهم في استكشاف المواهب وصقلها. ، الناظر عمر خالد مضوي، أستاذ الطاهر خالد، الفقيد عمر على أحمد (والد الشهير تروس بأمريكا)، أستاذ مدثر معلّم التاريخ، (ولا قرابة لي به)، وأستاذ جمال عيسى معلّم الرياضة والإنجليزي ومُحبّ وحاكي للأدب.
كان جمال وكوكبة أخرى فيها شخصي الضعيف، ممّن استيقظ فيهم الأدب باكرا. بل كان هناك بحقٍّ ، أفذاذ من التلاميذ، أمثال بدوي وكان يسكن الركابية، ومامون محمد احمد سليمان “شقيق الساسة المعروفين”، ومامون حامد عبدالرحمن، شقيق الفنان “بدر الدين حامد” وكان هناك عبدالحليم جاويش “شقيق الصحفي الراحل توفيق جاويش” ومتأدّب على يديه، وهاشم الخير ، نجل السينمائي الطليعي “الخير هاشم”، وأسماء أخرى سقطتْ من ذاكرة بلغت من الهشاشة ما يجعلني استعيض عن التذكّر بالتخيّل، وهو أرحم، ولي فيه دربة. . !ّ
كان الأساتذة بالحق معجبين بما فعَـلتْ أيديهم. فيستمعون لجمال وهو يقرأ بصوته الحييّ، أو لبـدوي بصوته الأجشّ، بآذانٍ رضيّة. كان جمال صاحب موضوع في كلّ جمعية أدبية، وكانت تقام في عصرية يوم من أيام الأسبوع. لكننا : جمال وبدوي وشخصي كنا نفجّـر أسـئلتنا في اللغة والأدب ما هو خارج المقرّر، وكان يطرب لذلك بشكلٍ خاص الأستاذ عمر على أحمد، وقد كان حفـياً بالأدب، رغم تخصّصه لاحقاً في المحاماة. وكذلك حرص الأستاذ الطاهر خالد على تحفيظنا القرآن والعبادات، وكان مدقـقاً في اللغة والمخارج، تماماً كما كان الناظر عمر خالد مضوي حريصاً على سلامة نطق الإنجليزية ، وإلا فإنَّ مفتاح مكتبه ومفتاح عربته جاهزان لـ “كـع” على ظاهر اليد. وممّا أذكر لهذا الأسـتاذ المُربي ، إنه طلب من أحدالتلاميذ نطق كلمة، نطق نفسها بالإنجليزية ، فقال هذا “بروناونسيشن”، فانبرى له أستاذ عمـر خالد، رافعاً حنكه إلى أعلى وملصقاً لسانه على سقف فيه من الداخل ، ليخرج النطق كما لو كان صوتاً أنفياً ، وقالها : “بروننسيشن”، نن، نن، مش “بروناونسيشن”… ثم اسـتخدم المفتاح: “كــع”. . وهذه أشـياء لا تنسى وتشير بوضوح وثقة لأيّ نوعٍ من المعلمين جاد بهم ذلـك الزمان.
وبدوي الذي أشرت إليه ولا أعلم أين هو الآن، وعساه بخير. كان عندما يأذن لنا أستاذ عمر بنقاشٍ عام في الأدب، يبدأ بنقـد لقصص نجيب محفوظ ، أو كتب العقاد. أتحدّث هنا عن أولاد في الصفِّ الرّابع في المرحلة الوسطي، أي في سن اربع عشرة أو أدنى. . )
رحم الله المعلّم المربِّي عمر خالد مضوي . ها نحن ساعة رحيله الفاجع، نستذكر كيف ربّى وكيـف علّم ، في مدرسة النهضة الوسطى بأم درمان ، قبل قرابة سـتين عاما ، ونحن نخطو إلى سبعيناتنا فتدمع أعـيننا، أنا وبعض من كانوا معي في ذلك الفصل القـــديم في المرحلة الوسطى بمدرسة النهضة: معي اللواء المتقاعد هاشم الخير هاشم في الولايات المتحدة، واللواء متقاعد عبدالحليـم صالح جاويش في كندا، والأستاذ مأمون حامد عبدالرحمن نائب المدير العام السابق لبنك المال بالخرطوم، والدكتور الصيدلي والأديب المبدع مصطفى مدثر في كندا، وأنا السفير المتقاعد من وزارة الخارجية، المقيم في أم درمان، وقد أقعدتني علة عن المشاركة في تشييع الفقيد، فضاعفت من حزني الطاغي.
العزاء موصول لأسرة الفقيد الصغيرة والكبيرة ، وقد كاد معلمنا بالفعل أن يكون رسولا. . وله من إسمه أكثر من نصيب، تقبله الله مع الصديقين والشهداء.
الخرطوم – 2 أكتوبر 2022م
jamalim@yahoo.com
الموضوع باسم الزميل جمال محمد ابراهيم والصورة صورتى انا صلاح محمد احمد لذا وجب التنبيه …. مع احترامى وتقديرى ابقى
شكراً للتنبيه، لكما محبتنا