الرجل الذي آمن بالمهدي The man who believed in the Mahdi محمد إبراهيم أبو سليم وكنوت س. فيكور
مقدمة: نُشِرَ هذا المقال في المجلد الثاني من مجلة أكاديمية دولية مخصصة لعرض ومناقشة ما ورد في المصادر التاريخية عن الحزام السوداني عنوانها Sudanic Africa، كانت تصدر سنوياً بين عامي 1990 و 2007م. ويتناول هذا المقال للمؤرخ السوداني المعروف محمد إبراهيم أبو سليم (1927 – 2004م) والمؤرخ النرويجي كنوت س. فيكور (1952 -) نسخة معدلة / محررة (edited version) لوثيقةً تاريخيةً عن المهدية كتبها يوسف أحمد محمد عوض السيد، عنوانها “هذه الأجوبة المسكتة”.
عمل محمد إبراهيم أبو سليم في مجالي التاريخ والوثائق منذ منتصف الخمسينيات، واستاذاً جامعيا لفترات مختلفة في جامعات الخرطوم وأم درمان الإسلامية وبيرقن بالنرويج. ويعمل كنوت س. فيكور أستاذاً في قسم الآثار والتاريخ والدراسات الثقافية بجامعة بيرقن، وله اهتمام خاص بتاريخ الإسلام في شمال أفريقيا. وناقش كاتبا المقال في البداية تاريخ تلك الوثيقة وقَوَّمَاها، ثم أوردا نصها المكتوب باللغة العربية، وقدما في نهاية المقال ترجمةً انجليزية لها (قام بمراجعة لغتها المؤرخ البريطاني جون هونك). وقد قمت هنا باختصار مقدمة المؤرخين، وأوردت الوثيقة العربية نفسها كاملةً، كما هي دون تعديل. والجدير بالذكر أن هذه الوثيقة موجودة في نسختين (بينهما بعض الاختلافات اللغوية اليسيرة). فهنالك النسخة التي وُجدت في أوراق السيد / على محمد أحمد المهدي (ولعلها هي النسخة التي اعتمدها الكاتبان)؛ وهناك نسخة أخرى قُدمت للمرحوم الصادق المهدي من بعض زعماء الفادنية، وهي محفوظة بدار الوثائق القومية بالخرطوم. وقد أشار الكاتبان لتلك الفروقات اليسيرة بين الوثيقتين في هوامش المقال. أخيراً، يمكن النظر – من باب المقارنة – إلى ما جاء في الخطبة الثانية للسيد الصادق المهدي، رحمه الله، (في 24 مايو 2020م) من حديث حول رؤيته للمهدية، حيث قال: “لقد أطلعت على كل كتابات الامام المهدي وأعلنت ان دعوته لا تتعلق بشخص غاب وسيعود، ولا بآخر الزمان، إنما تتعلق بوظيفة إحياء الدين …” https://bit.ly/3SvmWX0 المترجم
ذكر الكاتبان أن وثيقة “هذه الأجوبة المسكتة” تتضمن دفاعاً عن مهدي السودان، قام بكتابتها أحد أتباعه، واسمه يوسف أحمد عوض السيد. ومن المفترض أن تتضمن الوثيقة نص ما دار من حوار بين كاتب الوثيقة ورجل مغربي آمن بالمهدي اسمه أحمد بن عبد الله الفاسي في عام 1306هـ (الموافق لعام 1888 -1889م)، أي بعد مرور أربعة أعوام على وفاة المهدي، وفي غضون سنوات حكم خليفته عبد الله. وتضمن ذلك الحوار بعض الانتقادات والتحفظات التي كان يوجهها الرجل السوداني على لسان خصوم ومنتقدي المهدي للرجل المغربي، الذي تولى الرد عليها. وبهذا، فإن أحمد بن عبد الله الفاسي هنا هو “الرجل الذي آمن (بدعوة) المهدي من غير أن يراه”.
ولنا أن نفترض أن ذلك الحوار لم يكن حوراً قد حدث بالفعل، وأن ” أحمد بن عبد الله الفاسي” ليس شخصاً حقيقيا. وكل ما في الأمر أن تلك كانت وسيلة أو حيلة أدبية لمناقشة ودحض ما يثيره منكرو دعوة المهدية من انتقادات لها وشكوك فيها. وبذا فالحوار يشير إلى أحداث وقعت بعد زمن طويل (نسبياً) من الزمن الذي يُفْتَرَضُ أن الحوار قد تم فيه. فهناك حقيقة أن خلفاء المهدي الثلاثة لم يتعاقبوا على حكم البلاد بعد وفاته، وأن قبة المهدي قد هُدِمَتْ. ولا بد أن تلك الوثيقة كانت قد كُتِبَتْ بعد هزيمة الجيش الإنجليزي – المصري للمهدية في عام 1898م. وفي ذلك الوقت بدا أن الإيمان بالمهدية قد ضعف، وكان من المهم بالنسبة لحركة المهدية ولعائلة المهدي أن تجيب على الذين قالوا بأن ما حدث لم يكن ليحدث لو كان المهدي هو “المهدي المنتظر” حقاً. وربما تكون الإشارة لمولاي عبد الحافظ، سلطان فاس هي أحد الأدلة التي تقودنا لمعرفة تاريخ كتابة تلك الوثيقة. لقد كان عبد الحافظ بن حسن في سن السادسة وعشرين في عام 1888م. وكان حينها أميراً صغيرا يقيم في منطقة مراكش بجنوب المغرب، ولم يكن له نفوذ سياسي يُذْكَرُ. وبالتأكيد لم يكن هو سلطان فاس وهو في تلك السن، ولكنه صار سلطانا لها عام 1908م (بعد صراع حول الحكم مع أخيه السلطان عبد العزيز. المترجم). وبعد توقيع عبد الحافظ لمعاهدة حماية مع فرنسا تم عزله من الحكم في عام 1912م. ويبدو أن الوثيقة المذكورة كانت قد كُتِبَتْ في الأصل في غضون تلك السنوات (1908 – 1912م). وكاتب الوثيقة (يوسف أحمد محمد عوض السيد( من رجال الفادنية في الجزيرة. وكان ملازما للسيد عبد الرحمن المهدي، وكان يكتب عن تاريخ المهدية، وله أيضا أعمال أخرى منها “نشأة الحق الموافق، لهداية عبد الرحيم الصادق). وسعى عوض السيد في حواره المفترض مع الرجل الفاسي إلى تفنيد الانتقادات العديدة التي وجهت للدعوة المهدية بالسودان (وتفاصيل كل ذلك مذكورة في نص الوثيقة أدناه. المترجم)
هذه الأجوبة المسكتة لسيدي أحمد بن عبد الله الفاسي الذي آمن بالمهدي عليه السلام ولم يره بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم فأقول أنا العبد الفقير يوسف احمد محمد عوض أنه بفضل الله قد جمعتني الاوقات السعيدة سنة 1306 في المدينة المنورة برجل شريف من اهالي فاس اسمه احمد بن عبد الله. ولما عرفني اني من اهالي السودان قال لي هذا السيد الذي ظهر عندكم بالسودان هل هو المهدي المنتظر فقلت نعم فقال لي رايت كتاباته ودرر الفاظه عند مولاي عبد الحفيظ سلطان فاس وتلقاها بالقبول وترك الحرب مع الفراسنة في الدار البيضاء بالبندق وصار يحارب بالسيف والحربة مثل المهدي عليه السلام فقلت له راينا في بعض التاريخ ان كتابات المهدي عليه السلام لم تصل الى فاس فغضب وقال انا رايتها بعيني ثم قال لي توجهت لولد السنوسي بالبر ووصلته سنة 1304 وانا عنده بلغني انتقال المهدي عليه السلام وحضر رجل من وادي (وداي) أي برقو وقال لولد السنوسي ان خليفة المهدي الخليفة عبد الله ظالم فغضب ولد السنوسي غاية الغضب وبكى غاية البكى وقال كيف تقول في خليفة المهدي عليه السلام هذا القول واخرج من المجلس واهين فلما عرف صدق ايماني في المهدي عليه السلام قال لي يا يوسف صدقني ولا تصدق غيري ان ولد السنوسي مسلم للمهدي عليه السلام وقد رايت كتابة حضرة له من محمد توفيق باشا يقول له اذكر المودة التي كانت بين والدي إسماعيل باشا ووالدك محمد السنوسي وذكر له بناءه له الجامع بجدة وغير ذلك من الانعامات عليه وقال كيف تعاونوا علينا هذا الرجل الذي ظهر بالسودان بارسالك له رايات وجيش كما بلغنا فكتب له جوابا مختصرا ان من معه جبرايل وعزرائيل لا يحتاج الى عون امثالنا فقلت له استاذنك يا سيدي في سؤالات فقال سل فقلت له راينا قي بعض الاحاديث ان المهدي عليه السلام يبايع بين الركن والمقام فقال لي على البديهة ان بيعته بين الركن والمقام بيعة خاصة بالخواص فان جميع الدنيا خطوة عند الأولياء وكل ما يقع في الوجود لا يعقد الا في مكة محل الغوث فيكون بايع الخواص من اهل الله في ذلك المكان واما بيعته العامة ففي المغرب فقلت له راينا في بعض الكتب ان المهدي يملك الأرض فقال لي اي بعض الأرض من اطلاق الكل على الجزء قال تعالى وكذلك مكنا ليوسف في الأرض أي ارض مصر وقال تعالى واورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها أي بنوا اسرايل ومعلوم انهم لم يملكوا الا مصر والشام قال ومما يؤيد هذا القول ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب على قوله تعالى وان كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها الاية وكثير في التنزيل ذكر الأرض والمراد مكان مخصوص منها كقوله تعالى او ينفوا من الأرض أي من مواضعهم وقوله تعالى فلن أبرح الأرض يعني الأرض التي قصدها لطلب الميرة فقلت له بلغنا من غير تحقيق ان المهدي عليه السلام قال اصلى في جميع المساجد فقال هذه لا اشكال فيها أصلا فان من لم يكن في مقامه عليه السلام يتصور بصور متعددة ويصلي حيث أراد كما ذكر ذلك سيدي عبد الوهاب الشعراني في طبقاته في مناقب سيدي عبد القادر الدشطوطي ثم قلت له ان بعض العلماء الذين في قلوبهم مرض يقولون لنا ان المهدي المنتظر يظهر من المغرب الأقصى وابا التي ظهر بها الامام ليست من الأقصى فقال لفظ الأقصى أي البعيد يطلق على مسافة ثلاثين يوما او أربعين يوما بالسير المعتاد قال تعالى سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الي المسجد الأقصى وبينهما مسافة ثلاثين او أربعين يوما فهذا الحديث الذاكر ان المهدي يظهر من المغرب الأقصى فان تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فان من المدينة الي أبا تزيد على هذا المقدار وان تكلم به في مكة فان من مكة الي أبا تزيد على هذا المقدار وعلى كل حال فهو مغرب اقصى ظهر به طبقا للاحاديث وانما من لم يجعل الله له نورا فما له من نور فقلت له خلفاء المهدي ثلاثة فاين الرابع فقال اربعة ورابعهم واد السنوسي فان كان حضر هكذا الذي نقص ذلك فان المراد من خلفاء المهدي عليه السلام لكمال وراثته لجده صلى الله عليه وسلم وليس المراد انهم يحكمون فان الخليفتين الاثنين الخليفة علي ود حلو والخليفة محمد شريف حامد لم يحكما مع الخليفة عبد الله كما هو معلوم كما قال سيدي محي الدين بن العربي في الفتوحات وهم على اقدام من الصحابة ما عاهدوا الله عليه الخ فقلت له ان بعض المنكرين يقولون لنا قبة المهدي تكسرت وتهدمت فقال لي دعني من كلام المنكرين الجاهلين فان اهالي السودان اتتهم نعمة فلم يعرفوا قدرها ولم يودوا شكرها فازالها الله منهم فان بختنصر لما خرب بيت المقدس وحرق التوراه وهدم قبة سيدنا إبراهيم الخليل فان الطين اذا تهدم لم يتهدم مجد المهدي عليه السلام وما منحه للناس من الشجاعة والتوحيد وارشاد العبيد الى طاعة الرب المجيد وما ادخله فيهم من رتبة الشهادة التي هي فوق كل رتبة من رتب الصالحين كما قال تعالى مع الذين انعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين كما ان سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يتهدم الثناء عليه على لسان الآخرين الى يوم القيامة وكل الملل تحبه وتنتسب اليه وكفاه فخرا قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ثم اوحيا (أَوْحَيْنَا) اليك ان اتبع ملة إبراهيم حنيفا الى آخره ثم قال وقد أشار تعالى الى الواقعتين التي حصلتا على بني اسرايل بقوله وقضينا على بني اسرايل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلون علوا كبيرا فاذا جاء وعد أولهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى باس شديد ثم قال فاذا جاء وعد الاخرة ليسئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا فقلت له راينا في بعض الاحاديث ان المهدي يصلي اماما بعيسى فهل هذا الحديث صحيح ام لا فقال رايت في بعض الاحاديث ان غير المهدي عليه السلام من هذه الامة المحمدية من يصلى اماما بعيسى فيكون ناسخا لذلك الحديث او يكون يصلى به كما قال سيدي عبد الوهاب الشعراني في المنن صليت اماما بعيسى والهمت انه هو فانه مذكور في كتاب مشارق الأنوار ان عيسى نزل في حياة امه فلا مانع من تعدد نزوله ثم قلت له ان بعض العلماء المجادلين لنا بالباطل يقولون لنا ما تقولون في هذا الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم اذا ظهر المهدي نادى فوق عمامته ملك هذا خليفة الله فاتبعوه وقالوا عند ظهوره لم يحصل هذا النداء في القلوب أي قلوب السعداء فانه من المعلوم ان الملك لا ترى ذاته ولا يسمع صوته الا معجزة لنبي أو كرامة لولي والمهدي عليه السلام اتبعوه اغلب الخلق لما ظهر لا رغبة في مال كان عنده ولا خوفا من سطوته لانه من المعلوم ان الحكومة في ذلك في ذلك الوقت اقوى منه سطوة فلم يخافوا سطوتها واتبعوه بل [ما] هو الا تباعا لنداء الملك حتى باعوا ارواحهم معه ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من انفسهم قال تعالى ما الفت بين قلوبهم ولكن الله الف بينهم انه عزيز حكيم وفي الحديث اذا احب الله عبدا نادى جبريل في السماء ان الله يحب فلانا فاحبوه فيحبه اهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض فيحبه قلوب السعداء فقلت له العلماء قالوا لنا ما تقولون في تفسير هذا الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم تتنعم امتى في زمن المهدي نعمة لم يتنعموا مثلها حتى تتمنى الأموات الحياة لما يرون لاهل الأرض من خير فقال الخير هو الشهادة وليس المراد ما فهموه انه كثرة الاكل والشرب والتنعم الذي جاء به المهدي عليه السلام ينهي عنه ويحبب الجوع وغيره تبعا لجده صلى الله عليه وسلم واصحابه كما هو معلوم ورايت في فتاوى الشيخ محمد عليش رحمه الله في باب الجهاد في الجزء الأول نمرة 331 فما من ميت يتمنى العودة الى الدنيا الا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة من ذي العرش المجيد فيطلبها ليزداد من الكرامة ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث في الشهداء في كتاب الموطا للامام مالك رضي الله عنه لوددت اني اقاتل في سبيل الله فاقتل ثم احيا فاقتل ثم احيا فاقتل هذا والسلام سنة 1359هـ / والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. انتهى رسمه يوم 12 من جمادى الثاني سنة 1355