في الخامس من أكتوبر من كل عام يحتفل العالم بعيد المعلم (World Teachers’ Day)، ذلك يومٌ يمر عليَّ ثقيلاً ثُقل أثقالٍ تنوء بالعُصْبةِ أُولي القُوَّةٍ، عيد لا يتبادلون فيه التهاني، ولا يجود فيه أحد بالتبريكات، عيدٌ بلا طعمٍ مثل مجاملةٍ ثقيلة، هكذا خَبِرتُه طوال مشواري معلماً.
هو بصروف عُسراته مشغول، وفيض الهموم يُغرقه في لجة النسيان، يتذكرونه – إن حدث – يوماً في كل عام بوريقةً تحوي عبارات لا تلامس أوتار القلوب بشيء، عبارات مصنوعةٌ لا تتجاوز حد الإطار الذي حُبِسَت فيه، شحيحة غدائرها كالورود الصناعية، عباراتٌ تتكرر كل عامٍ وصداها لا يرتد، تحبسه الحوائط والجُدُر فهنا يتوقف حد السمع.
رغم ارتدادات الإدارة والوزارة عن لوازمه، فقد جُبِل المعلم على العطاء بلا حدٍ وللأعمار حَدُّ، ينفق وقت أسرته تحضيراً وتجويداً لينبت من بين يديه العارفون، هم أعمدة النماء وسواعد البناء ليستظل بهم سودانٌ نشتهيه من هواجر بعض بنيه، لا يغيض ما في يده الممدودة من علم بلا مَنٍ ولا أذى، ويسعد قلبه حينما تلامسها كف سائل فيجد في راحتها ما يشبع نهمه وترتوي بها أرواحاً تواقة، لكن حصادهم من الدنيا لا يتجاوز محبةً لا تخطئها قلوبهم والبِشْرُ يكسو وجوه طلابهم عند لقياهم كل صباح، ذلك حقاً يكفيهم، بل هو ما يشدُ أوتادهم ويعَمِّقُ غرسها في مهنة التعليم.
عدا هذه الوجوه الباسمة، فهو منسي ومُتعبٌ من أحلامٍ بالإنصاف تراوده ولا تأتي، لا يطرقون أبواباً مؤصدة في وجوههم ولا يستجدون من به صمم، يمضون في كرامةٍ وعزة والفئران تحدث بعضها أنْ اجتنبوا بيوت هؤلاء، فرواتبهم لا تسمن ولا تغني من مساغب الحياة المتجددة، فمتحورات الحياة أحياناً أشد فتكاً من متحورات أمراض هذا العصر، يُجمِّلهم الصبر والشموخ، فهم يموتون مثل أشجار النخيل وهم واقفون، وأصابعهم لا تشير إلا إلى دروبٍ واجب اتباعها، تهدي السبيل ولا يضل تابعيها.
تؤلمهم فذلكات أولئك الذين يفتون بغير علمٍ، ويقذفون على وجوههم أفعال الوجوب وهم يُفَصِّلون على أهوائهم ما يجب أن يدرسه ابناؤهم ويملون عليهم الطريقة المُثلى كما يرونها، كأنهم خَبِروا خبايا المناهج وعرفوا مقاصدها، وإن حاججهم أحد تكون ذريعتهم أنهم قد مروا بعتبات التعلم من قبل، وهكذا لُقِنوا مبادئ العلوم.
ما أدركوا أن متغيراتٍ كثيرة عصفت بطرق التدريس البالية وحلت محلها ما يناسب عصرنا هذا، بجانب ذلك فإن احتياجات الطلاب قد تفرض على المعلم التركيز على جوانب معينة بعد تشخيص دقيق حتى يرفئ ثقوباً لا يستقيم الأمر بها قبل أن ينتقل خطوة إلى الأمام، تلك خبايا لا يدركها إلا أهلها.
كثيراً ما يشق عليهم شغف الإدارات بنثرها ما يضنيهم عليهم جميعاً بدون تمييز كلما كبا أحدهم، لا يحفلون إن أنهك ذلك أرواحهم أو أعثر خطاهم التي لا يوقفها حشف القول، تواقين إلى لُطفٍ وبعض الثناء، ذلك عطرٌ قليلاً ما يضوع حولهم.
لكنهم باقون ودروبهم الواسعة يُجمِّلُها المتعلمون، رياحيناً تضمخ قادم الأيام وترصف دروب الغد الزاهر، لا نريد تكريماً بل شيئاً من التقدير والاحترام، لا نريد تكريماً بل عيشاً كريماً لا يحوجنا لطرق أبواب الدخول الإضافية، نريد ما يسد الرمق ويكفي الحاجات حتى يزيد العطاء داخل الفصول، كل عام ومعلمي بلادي أكثر عطاءً ولهم كل الوفاء.