خطاب الكراهية اصطلاحاً يعني أي إساءة عبر أي شكل من أشكال التعبير بأي وسيلة ممكنة توجه إلى أي مجموعة من الناس على أساس الهوية.
وقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي لأي شخص إمكانية بث ما يريد من رسائل، ومن ثم، اكتساب قدرة التأثير في المتلقين لتلك الرسائل، ودفعهم إلى تبني وجهة نظره على ما فيها من تعريض بالآخرين، وانتقاص لهم، كما قد تؤدي رسائله إلى رسائل مضادة تحمل الإساءة إلى المرسل، وإلى من يتحدث بلسانهم، سواء كانت قبيلة، أم منطقة، أم فئة من الناس، على الرغم من أنه عند الإساءة لم يكن مفوضًا من أي من تلك الكيانات القبلية، أم الجهوية، أم الفئوية.
وهذا الاستغلال السيء لوسائل التواصل سواء أكانت وسائل إعلام مقروءة أم مرئية أم مسموعة من المفترض أن لها معايير تراعي قيم المجتمع، والقيم الإنسانية العليا، ومنها ضرورة احترام الآخرين، والنظر بإيجابية إلى التنوع، والاختلاف بين البشر، أم كانت وسائل تواصل اجتماعي مبذولة للجميع، ومع وجود معايير لها، إلا أن إمكانات التجاوز واسعة، إلى جانب أن الإطار القانوني المهترىء يتيح كثيرًا من التلاعب والمراوغة.
كانت هذه التوطئة مهمّة قبل أن ندلف إلى ما يمثله خطاب الكراهية في مجتمعنا السوداني اليوم من خطر داهم، وقد أصبح واقعًا نتنفسه، ويمارسه كثيرون منا من دون إدراك خطورته، وإمكان تحوله إلى فعل يهز أركان الوطن، بل يهدد وجوده وديمومته على وجه البسيطة.
المشكلة الرئيسة أن هناك مسؤولين، وعلى رأس السلطة يمارسون هذا الخطاب، ولا يدركون مآلاته السالبة، فهم حين يوجهون هذا الخطاب مستهدفين فئة من الناس، متهمين إياهم في شرفهم، ونزاهتهم، وأمانتهم، والتشكيك في انتمائهم الوطني، ورميهم بتبني أجندة جهات خارجية، وارتهانهم لها، مما يعني الخيانة الوطنية، التي لا عقوبة لها غير الإعدام، لا يفطنون إلى أنّ مثل هذا الخطاب يكون تلقيه على عدد من المستويات: المستوى الأول منها دعم اتجاهات المعادين لهذه الفئة، وهؤلاء يتلقفون هذا الخطاب بكل ما فيه من اتهامات شنيعة، وتداولها بكل السبل الممكنة، بل قد ينزلق بعضهم إلى ترجمة اتجاههم إلى عنف قد يأخذ أشكالاً متعددة، ويمكن أن تتسع دائرة العنف والعنف المضاد في أي لحظة، لنبحث عن الفاعل والفاعلين، وننسى من كان السبب.
لا يدرك المسؤول الذي يبث خطاب الكراهية وسط مرؤوسيه أنه يخلق جبهة في مواجهة جبهة أخرى، وهذا ما لمسناه في تشكل ما يسمى بالمكون العسكري والمكون المدني، وإيجاد تصوّر بأن هناك اصطفافًا عسكريّاً في مواجهة المدنيين، وخصوصًا أن رسائل من على السلطة كانت تتوجه إلى العسكريين في مناسباتهم أو في زيارات ميدانية تعدّ للخطابة، والحشد، وكان تفسير أي خطاب من مسؤول مدني في ظل حكومتي الدكتور عبدالله حمدوك، أو من محللين يدافعون عن مدنية الدولة يُفهم على أنه موجه ضد المؤسسة العسكرية، ولا يزال المدنيون يجتهدون في توضيح موقفهم من القوات المسلحة، وضرورة التفريق بينها وبين من هم في قيادتها.
ويُلاحظ أنّ قضية الهامش والمركز التي كانت سببًا أو مسوغًا للتمرد توسعت، وجرت صياغتها في خطاب كراهية ممنهج لا ضد الخرطوم التي كانت للمتمردين مركز الثقل الممارس للتهميش، وإنما ضد كل الشمال الذي يشمل كل السودان ما عدا الغرب، وأصبح ذلك الحديث الممجوج عن الشريط النيلي، وعن أولاد البحر الذين في ظن بعضهم سبب كل بلاء في السودان شائعًا، إلى حدِ أن أصبح هاجسًا يؤرق الحادبين على الوطن.
وعلى الرغم من أن أصحاب هذا الخطاب أقلية، إلا أن صوتهم العالي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعدم مراعاتهم أي قيم في صوغ خطابهم، أصبح مستفزًا لكثيرين، ومن بينهم العقلاء من أهلهم وهم الأكثرية، حتى فقد بعضهم المنطق، وأصبحوا يتبنون خطابًا مضادًا، فيه ممارسة للفوقية، وازدراء بتعميم مخل، وهذا ما يسمم الأجواء، وينبىء بعواقب وخيمة، لا منجى لأحد من آثارها السيئة.
ويصرُّ بعض من يتصوّرون أنفسهم أسياد البلد على مزاعم عراقة الأصل والانتماء، كما لو كان غيرهم طارئًا على البلد، بل يطالبون بطرد من يرونهم دخلاء، ويدعون إلى إقامة مناطق عازلة، كتلك التي كانت في زمن الاستعمار، ومثل هذا الخطاب الإقصائي لا يولّد الكراهية فحسب، بل تؤدي إلى ردّات فعل لا يحمد عقباها.
إن لجم كل من تسوله له نفسه بث الكراهية بين أبناء الشعب السوداني واجب وطني، وأصبح اتخاذ موقف مبدئي من خطاب الكراهية ملزمًا للإعلام، الذي عليه أن يكون اليوم منصة للتنوير وبث الوعي، وتأكيد المشتركات الوطنية، والاصطفاف حول قيم التعايش السلمي، والتسامح، والتعاضد، التي تميّز السودانيين، حتى غدوا مضربًا للمثل في كل العالم.
إن نشر خطاب الكراهية في مجتمع مأزوم تشتعل فيه النزاعات القبلية لأتفه يمثّل خطرًا داهمًا، لأنه تمهيد لتحويل الكلمات إلى فعل هدام يستهدف الآخر، وتصبح المعادلة “يا أنا.. يا هو”، بمعنى استحالة العيش معًا، وهذا الواقع ما هو إلا نتيجة لسياسات النظام البائد، الذي رهن وجوده بإحداث قطيعة بين مكوّنات الشعب السوداني، بممارسة قميئة لسياسة “فرق تسد” الاستعمارية، إلا أن استمرار هذه الفئة من دون مواجهة يعني تقاعسًا، ودفنًا للرؤوس في الرمال.
إن صحيفة “التحرير” استشعارًا لما يمثله خطاب الكراهية من تهديد لبقاء الوطن تتبنى حملة وطنية لمواجهة هذا الخطاب بكل السبل والوسائل الممكنة، من خلال الجهات ذات المسؤولية في هذا الأمر الجلل، ومن أهمها: وسائل الإعلام، ومؤسسات التعليم، والنقابات المهنية، والإدارات الأهلية الواعية، والمؤسسات الدينية، والثقافية، والاجتماعية، والرياضية، التي عليها أن تضطلع بمسؤولياتها وواجباتها، لإيجاد اصطفاف ينتظم أرجاء البلاد لمواجهة هذا الخطاب الذي يناقض قيم المجتمع السوداني القائم على التعايش السلمي والتكافل الاجتماعي، وهو الذي يستظل الجميع، ويذيب الفوارق، بل يحتضن كل من لاذ به، ولجأ إليه من غير أبناء الوطن من كل أنحاء المعمورة بكل أريحية وترحاب.
نثق أن حملة “التحرير” ستجد التجاوب والتفاعل من كل الحادبين من أبناء الوطن، ومن كل محب للسودان، وحريص على وحدته، ومتانة لحمته الوطنية، حتى يستطيع مواجهة كل التحديات والمؤامرات التي تستهدف وجوده.