المؤرخ ضرار صالح ضرار ملك للجميع وهو لم يمت لأن أعماله خلدّته فليس من مات واستراح بميت ولكن الميت ميت الأحياء، ولا نملك إلا أن نقول إنا لله وإنا إليه راجعون، وحياتك لا تعادلها حياة وموتك لا يعادله ممات شموخ في الحياة وفي الممات إلهي تلك احدى المكرمات.
كما عرفت ولد المؤرخ في مدينة سواكن العام 1922، ثم انتقل مع والده العام 1926 إلى مدينة بورتسودان وقضى فيها صباه الباكر وحفظ القرآن في خلوة شيخ يمني مما مكّنه من تجويد لغته العربية واستمر ببورتسودان حتى أكمل المرحلة المتوسطة بعدها انتقل للخرطوم لكلية غردون.
بالنسبة لأسرتنا الصغيرة، كان الفقيد ركناً أساسياً في الأسرة فكان الأخ الأكبر والأب الروحي والأستاذ والصديق، كان عطوفاً على كل أفراد أسرته وكان يجل ويحترم والديه بقناعة ورضاً ويجسّد قدوة في ذلك، فكان يقضي كل اجازاته معهم. وكانت له علاقة خاصة بوالدنا رحمهما الله فكانت لهما اهتمامات مشتركة ومناقشات منهجية طالما استمعت لها ولأن لضرار ابنه اسمها هند الآن تحمل درجة الدكتوراه في الهندسة، كان والدنا يناديه “أبا هند فلا تعجل علينا” عندما يحتد النقاش التاريخي بينهما. وكان ضرار يرى أن والده واحداً من أهم ثلاث شخصيات أدبية في القرن العشرين من الذين تلقوا فقط التعليم المتوسط ورغم ذلك ألفوا العديد من الكتب وهم عباس العقاد وبرنارد شو ومحمد صالح ضرار.
عندما كان المؤرخ ضرار في المدرسة الأولية التي دخلها قبل السن القانونية بكثير بعد أن ختم القرآن في الخلوة، كان متفوقاً ويكتب في الصحف السيارة ولا أنسى مقاله الذي بعنوان “رحلة إلى فلامنجو”. تفوقه الدراسي على أقرانه هذا زرع قناعة راسخة لدى والدتنا بأنه عندما يكبر سيتم اختياره رئيساً للوزراء وكانت تعامله على هذا الأساس ولا تناديه إلا باسم (السيد). وقد كان فعلاً سيداً
عند التحاقه بكلية غردون وكان من دفعته البروف عبدالله الطيب رحمه الله، كان مهتماً بالتاريخ ووجده مدير الكلية الإنجليزي في احدى الليالي في الفصل وحيداً ومعه مجموعة من كتب التاريخ يطالع فيها فما كان منه إلا أن نصحه بالاتجاه نحو دراسة التاريخ الشيء الذي حصل لاحقاً حيث ابتعث لجامعة اكسفورد العام 1951 وكان معه المهندس أحمد شبيكه رحمهما الله وكانا أول من درسا من بعثة حكومية سودانية في جامعة أكسفورد.
تخرّج الفقيد من كلية غردون العام 1940 وهو في الثامنة عشر من عمره، وكانت الحرب العالمية الثانية اندلعت في سبتمبر العام 1939م، فوعدت بريطانيا بأن الشعوب التي ستشارك معها في الحرب ستمنحها حق تقرير المصير، فتطوع المؤرخ ضرار هو وشقيقاه إدريس ونورالدين في قتال القوات الإيطالية التي احتلت العام 1941 مدينة كسلا وجنوب مدينة طوكر في طريقها لبورتسودان ثم بورسعيد للاستيلاء على قناة السويس ولكن الايطاليين لاقوا هزيمة نكراء في معركة كرن، خاصة من قوات الفرقة الشرقية في القضارف التي كانت مكونة من البني عامر والحباب والبلين والسبدرات وبقية القبائل الناطقة بلغة التجري وغنت لهم الفنانة عشه الفلاتية “يجوا عايدين بالمدرع والمكسيم”.
اشتراكه في الحرب العالمية الثانية لمنح السودان استقلاله بالاضافة إلى أحاديث أستاذه الزعيم الأزهري معه نمّت فيه المشاعر القومية الوطنية فقرر كتابة تاريخ السودان الوطني لدحض أكاذيب المؤرخين الاستعماريين وبعث الثقة وحب الوطن في الشباب والطلاب السودانيين. كما دفعه هذا لتدريس التربية الوطنية كأستاذ أساسي ووحيد لها في المدارس التي عمل بها حيث لم يكن هناك مقرر للتربية الوطنية. كذلك كان يكتب قصصاً قصيرة للأطفال في مجلة الصبيان لتثقيف الأطفال بتراثهم وتاريخهم. وعندما عمل في الرياض واصل تدريسه التاريخ لأطفال وشباب الجالية السودانية لربطهم بوطنهم.
عمل في بخت الرضا وشارك في حملة محو الأمية لمحاربة الجهل، كذلك كان هو أول من طبّق اختبار الذكاء في المدارس الثانوية العام 1948م، حيث كان للمبرزين في الاختبار مستقبل زاهر في الحياة الأكاديمية والعلمية.
اكتشف باكراً الميناء الذي هاجر له المسلمون الأوائل وهو في السودان وليس الحبشة التي ليس لها ساحل وأيده في هذا كل من البروفيسور عبدالله الطيب والبروفيسور الشيخ حسن الفاتح قريب الله.
عند استقلال السودان قاوم تسميته بهذا الاسم وطالب بتسميته باسمه التاريخي وهو اثيوبيا إلا أن السياسيين أخذوا وقتاً طويلا في الجدل حتى سمع بذلك الإمبراطور هيلاسلاسي فاختطف اسم إثيوبيا. كما ذكر البروف عبدالله الطيب.
قام بمراجعة معظم مؤلفات والده وطبعها ونشرها دون أن يكون فيها ولا خطأ إملائي أو نحوي واحد. والآن تنتظر مؤلفاته هو لمن يقوم بمثل ما قام به لمؤلفات والده.
عند نقله لمدرسة عطبره الثانوية كان يدرّس متطوعاً في مدرسة كمبوني عطبره حيث تعرف على زوجته السيدة حميده عبداللطيف وأقترن بها وأصبحت رفيقة حياته وكانت تساعده في كتاباته حيث يمليها مؤلفاته مثل كتابي العرب والحجاج بن يوسف ومن ثم يقوم بطباعتها ونشرها.
إلى جانب اهتماماته الأكاديمية كانت له هوايات عديدة. فقد أسس فريق كرة للقدم في مدينة بورتسودان باسم النادي الأهلي هو وإخوته الثلاثة. كذلك كان يجيد العزف على الصفارة والعود. ويجيد لعبة التنس والرسم والسباحة ويدرب تلاميذه على الجمباز الذي تعلمه من أستاذه في كلية غردون.
كان لطيف المعشر يداعب تلاميذه ويقول لهم مثلاً في قصيدة يا كناراً قد تغنى في القفار “في حقول القطن زاهي الأخ ضرار” بدلاً عن الإخضرار. وعندما كان في كلية غردون، وكان والده آنذاك نباتياً وله فلسفة وقصائد في ذلك المنهج، كان الأستاذ كلما يلاقيه ينشد له بيت شعر والده الذي يقول فيه: “كُل النبات الغض إلا الترمس ولأكليه الفضل دون الأنفس”.
في آخر أيامه في وزارة التربية وجد مضايقات من وزير رفض انتدابه لليونسكو ثم قام نافذان بتغيير كتبه المقررة في المدارس دون سبب مبرر. اضطر أمام هذا الجو غير الملائم للعمل أن يختار التقاعد الاختياري وهاجر من وطنه مجبراً. اللهم أخرجني من هذه البلدة الظالم حكمها.
من مؤلفاته: اثنين من دواوين الشعر هما ضياء وضباب ولذيذ كل ما كان، واشتهر بقصيدته، يا كناراً قد تغنى بالقفار، ومن كتبه للأطفال: الصرف قرب وزي الزفت والسلطان تيراب وهو أو من كتب عن تاريخ دارفور، أما مؤلفاته الأخرى فهي تاريخ العرب، الحجاج ابن يوسف، هل كان عنترة سودانياً، تاريخ السودان الحديث، تاريخ هجرة القبائل العربية لوادي النيل مصر والسودان، ومؤلفات أخرى تنتظر النشر بإذن الله. رحم الله معلم الأجيال وجعل علمه نافعاً وتقبله قبولاً حسناً.