4 يناير 2022
(ناشدت طويلاً أن يستعلى من هم في صف الثورة ما يزالون على تصارخ الثورة المضادة أن هلموا جميعاً يا أبناء وبنات السودان إلى كلمة سواء فالوطن على حرف جرف هار (بهذه الصيغة أي in a ditch بلغة الخواجات). ولا أريد لهم أن يستعلوا على الدعوة لأنها كذباً كاذب بل لأنها، للأسف، حقيقة بليغة. أردت بالاستعلاء عليها هنا أن نسدد النظر فيمن ساقنا أخنق فطس لعقود في طريق هذا الحرف للجرف الهار لا للتظاهر معهم عن مأزق الوطن الذي نأتي إليه عرجاً ومكاسير لاستنقاذ الوطن من السقوط من هذا الجرف الهار.
وكنت كتبت هذه الكلمة إثر استقالة حمدوك حين صار للتداعي لاستنقاذ الوطن بالحمية الوطنية المجردة سوق وعرابون وأوصياء.
من فساد الرأي تحويل استقالة السيد حمدوك إلى أمرين. الأمر هو جعلها فراش بكاء نبكي حظنا في السودان العاثر، أو إلى سانحة أخرى إلى إرهاب قوي الثورة والتغيير التاريخية في السودان لتقبل صاغرة بما تمليه عليها قوى الثورة المضادة من سدة انقلابها في ٢٥ أكتوبر. وهو إرهاب بالإرعاب من “المنعطف الخطير الذي يهدد بقاء الوطن” مما يستدعي “تنحية الخلافات جانباً” والتداعي إلى كلمة سواء لا تستثني أحدا. وليست هذه الكلمة السواء عندهم غير أن نبصم على وثيقة استسلامنا.
لا أعرف وقتاً لم نبك حظ السودان العاثر. لم تتلبن لبنان حتى تَطيرنا من مصائره على السودان. ولم تتصومل الصومال حتى خشينا من شرورها على السودان. لا جديد. والذين يرغون ويزبدون شفقة بتفكك السودان هم من لم يألوا جهداً في التخلص من ثلثه لكي يخلو لهم الوطن الخالي من كدر التنوع، أي بلا دغمسة. وهم من جيشوا بقوانين الإدارة الأهلية أمراء البادية العرب على الزرقة من غير أن يطرف لهم جفن. وهم من اصطنع الجيوش الأسرية والقبائلية فكسروا سلسلة القيادة في القوات المسلحة. وكان مما زكى الجيش للحكم في مثل بلدنا عند فقهاء السياسية في السبعينات أنه القوة الحديثة الممركزة المبثوثة في أرجاء القطر لا تجاريها أخرى من مؤسسات الدولة. فصار فينا جيشان واحد في قبايلو والتاني معايا.
السياسة هي العيش مع النقائض التي هي “التدافع” القرآنية التي راجت مؤخراً. وقوى الثورة المضادة التي ترعبنا من عواقب الصراع هي التي خاضت بحره ضد الثورة حتى التكة وبان كوكها : ما ونت وبغير رحمة. واتفق لها حين تهيأ له أنها انتصرت على الثورة أن تستشأم الصراع في إشفاق لزج على سلامة وطن لا تزال تعتقد أنها وحدها الوصية عليه. وهذا قريب من قول رأسمالي بعد انهيار المنظومة الاشتراكية: “من قال إننا لا نؤمن بالصراع الطبقي؟ إننا لم نؤمن به فحسب، بل خضناه وانتصرنا”.
ليست المخافة على سلامة الوطن من قوى الثورة كما تذيع الثورة المضادة. فلم تكن الثورة على مسرح السياسة كما هي اليوم حين خرج الجنوب وكاودا ومواضع في جبل مرة من بيضة السودان. كان علينا، وهذه المواضع تُتَخطف عن الوطن، نظام الإنقاذ الذي طالع كل داع إلى المواطنة إلى الخلاء، ولم يحسن المطالعة. وخرج عليه هؤلاء المنادون بالمواطنة يعاتبونه بالسلاح ولم يحسنوا أيضاً.
من أشفق على مصائر الوطن من الثورة غاب عنه أن الثورة هي التي ما تزال برؤيتها منذ أكتوبر 1964 للسودان المدني الديمقراطي هي كاب البلد أي عروة الوطن الوثقى. فلن تجد حادثة سودانية ينتظم فيها السودانيون قاطبة عن استحقاق، بعد الهلال والمريخ ربما، مثل الثورة. فحين خرج القبائليون يترسون طريق بورتسودان- الخرطوم كانت بورتسودان نفسها عضواً كامل الدسم في الثورة. وحين كان قادة الحركات الدارفورية المسلحة يترسون القصر الجمهوري في حلف للثورة المضادة كان فؤاد الفاشر ونيالا وزالنجي وعقلها معلقين بالثورة. بل كان اعتصام القيادة ملتقى طرق الوطن تفد إليه أفواج السودانيين من كل فج حجة وعمرة.
الأمة في قول الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان هي إرادة للعيش معاً. والثورة في السودان هي الإرادة الوحيدة التي فينا لعيش السودانيين في أمة. وهي بهذه الصفة مما يسميه علماء السياسة الطاقة التي تتنادى بها الأمة إلى مركز “centripetal” في حين أن الحكومة فينا، وقوى الثورة المضادة التي سادت فيها، هي الطاقة المنفرة من المركز .“centrifugal”. ووجدت أفضل تقريب في اللغة العربية للمفهومين في فقه الوضوء للصلاة. فالطاقة الأولى هي الاستنشاق أي جذب الماء بالنفس إلى باطن الأنف بينما الطاقة الثانية هي الاستنثار وهي إخراج الماء من باطن الأنف ليرشح حيث شاء.
تنذرنا الثورة المضادة بأن علينا أن نقتدي بهم في “الشفقة” على وطن يتشقق. وهذا مكاء وتصدية كما تقدم. فهو مجرد إملاء لشروطهم لاستسلامنا. وواقع الأمر أن بلادنا في مخاض وعر للتغيير بالثورة. وتسوق مثل هذه الفترات التاريخية إلى فوضى كبيرة واضطراب في اليقين لتعايش القديم والجديد جنباً إلى جنب من غير أن ينجح أحدهما في فرض نفسه على الآخر بعد. وقريب من هذا الوصف قول قرامشي، الماركسي الإيطالي، إن العالم القديم يموت ويصارع العالم الجديد مثل الثورة الذي يولد. ويضيف قرامشي أن مثل هذا البرزخ هو زمان البشعين أمثال التوم هجو. فما تُلَوح به الثورة المضادة من مظاهر لذلك الاضطراب، الذي صنعت أكثره تخريباً، من طبائع الأشياء.
يريدون أن يخرسوا المستقبل فينا بترويعنا بذائعة الوطن الذي سيذهب أدراج الرياح إن لم نأت إلى حفل انقلابهم على الثورة. فمبالغتهم في نواحي فشلنا في الحكم (جدلاً) هي لإخذائنا فنرفع الراية البيضاء في حين أن حسن فهمنا لها، كما قالت فنانة تشكيلية أمريكية، هو وحده الذي سيأخذنا إلى الأمكنة غير المعتمة التي تصهل فيها مغامرة الاكتشاف.
لسنا طرفاً في هذا الفراش على الوطن الذي قالوا إن رياح الخلاف ستذروه. فالخلاف حق يا هؤلاء. ولم تتركوا فرضاً ناقصاً في إدارته بقوة ونذالة ومذابح وانقلاب على العهد. وهو خلاف الثورة فيه هي قوى الاستنشاق في حين هم لا غيرهم قوى الاستنثار. وستكون كلمة السواء في الوطن بشروطنا لأن بها وحدها يستنشق الوطن عطر المدنية والديمقراطية. لن تخرسوا فينا المستقبل بنبوءاتكم المفبركة.
IbrahimA@missouri.edu