تحت ظلال النخيل في عبري جلست أتحاور مع طفل من أطفال عبري تقريبا في السابعة من عمره . كلما أسأله سؤالا باللغة النوبية يعطيني الإجابة بلغة عربية ممزوجة بنكهة اللغة النوبية.
اعترضت عليه وقلت لماذا لا تتحدث معي بالنوبية قال لي هذا الطفل الصغير ( انا ما بنكلم رطانة) قالها هكذا وبنفس المفردات. أصابني الذهول بهذا الرد المفاجىء !!!!
وللاسف الشديد تكرر ذات المشهد مع عدد من الأطفال في نفس العمر والانكى والأمر من ذلك أنني اكتشفت أن هؤلاء الأطفال يعتقدون أن التحدث بالنوبية نوع من التخلف !!! حتى إن أحدهم عندما كررت عليه الطلب أن يتحدث معي بالنوبية قال لي بالحرف الواحد ( ليه نكلم رطانه انت قايلني من ……. ) وذكر اسم قرية نوبية لا داع لذكرها ووهو يعتقد أن أطفال تلك القرية التي ذكر اسمها متخلفون، ولا يستطيعون الحديث إلا بالنوبية !!! .
وحقيقة اكتشفت أننا في مصيبة حقيقية وأننا على وشك الزوال عندما يعتقد اطفالنا أن التحدث بالنوبية نوع من أنواع التخلف والمعروف أن اي أمة فشلت في الحفاظ على لغتها الخاصة فإنهم معرضون بلا أدنى شك إلى فقدان هويتهم.
علينا أن نسأل أنفسنا بكل جدية: كيف وصلنا إلى هذا المستوى المخيف؟ أن ينكر أطفالنا وهم ركيزة مستقبلنا لغتهم الأساسية و يرونها نوعاً من أنواع التخلف، ويصرون على أن تكون لغة التواصل بينهم كأطفال داخل البيوت هي اللغة العربية حتى لو كان حديثهم بالعربية بلسان أعجمي.
كنا إلى وقت قريب نعتقد أن أطفال النوبة الذين تربوا في مدن بعيدة من المنطقة النوبية، ونتيجة لتواصلهم في المدارس والشارع باللغة العربية، لم يتمكنوا من تعلم النوبية، هؤلاء يمكن أن نعذرهم ( إلى حد ما)، فما بال أطفالنا الذين ولدوا وتربوا في دلقو وصاي وصلب وعبري وصاي وحميد ومشكيلة وارقين… الخ لماذا تركوا النوبية، وتشبثوا باللغة العربية؟
نعم اللغة العربية هي لغة الدولة ولغة التواصل بين جميع السودانيين، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن ننسى لغتنا الأساسية، وهي النوبية، التي نعتز به.
أعتقد أن المسؤولية الأساسية في الحفاظ على هذه اللغة الجميلة هي في الأساس تعتمد على الأسر النوبية داخل البيوت. عليهم التحدث مع أطفالهم بالنوبية لأن اللغة هي في الأساس تعتمد على الممارسة اليومية داخل البيوت وفي الأحياء والأسواق . معاهد تعليم النوبية مهما كانت لن تكون بديلا عن الأسرة النوبية.
أتمنى من المهتمين في هذا الشأن أن يتدارسو ويتداركوا هذا الأمر المهم والحيوي نحن مواجهون باندثار لغتنا الجميلة خلال سنوات قليلة جداً وأقل مما يتخيله أفضل المتفائلون منكم.
أتمنى أن يصل صوتي إلى كل منظمات المجتمع النوبي وكل التنظيمات النوبية السياسية وغير السياسية أن يعطوا هذا الأمر ما يستحقه من اهتمام … حافظوا على اللغة النوبية قبل أن تموت وتندثر ويذهب ريحنا.
وكان الله في عوننا
رمزي المصري