رُوزنامةُ الأُسبوع
الإثنين
أطفال مستعربي ومسلمي المهاجر الأفرنجيَّة درجوا على العودة مع أهاليهم، ومن بينهم السُّودانيُّون، لقضاء عطلات الصَّيف في «أوطانهم الأصليَّة»، ثمَّ العودة لاستئناف حياتهم ضمن الشُّروط الاجتماعيَّة لـ «أوطانهم البديلة»، في أوربَّا، أو أمريكا، أو كندا، أو أستراليا، بخصائصها، ومعاييرها، وقوانينها المائزة، ثقافيَّاً، وأخلاقيَّاً، ومهنيَّاً. وهكذا، تكرُّ مسبحة الأصياف، وتتكرَّر الزَّورات القصار، لكنَّهنَّ لا ينقعن غلة الصَّادي، قط، لمعرفة حقيقيَّة، لا بالبلد، ولا بثقافة قومهم، ولا بلغتهم، مثلما قد تتكرَّر زورات الأقارب لهم، بالمقابل، في دِّيارهم الأفرنجيَّة، دون أن يكون بمستطاعهم أن ينقلوا إليهم في هذه «الأوطان البديلة» عُشر معشار معرفة «الأوطان الأصليَّة»!
وعلى قدر الفرح الذي يتملَّك أقارب «الأوطان الأصليَّة» بزورات أقارب «الأوطان البديلة»، فإن أكثر ما يثير قلقهم هو ما يلاحظون على أطفال هؤلاء الأخيرين من جهل باليسير من ثقافة قومهم، بل حتَّى باليسير من القراءة والكتابة في اللغة العربيَّة! أجيال بأكملها لم يُتح لها أيُّ قسط من هذه المعارف، شأن ما أتيح لأقرانهم في «الأوطان الأصليَّة»، بينما هم محض قطفات باكرة من عرب ومسلمين جُدُد، ستتلوها، غداً، قطفات وقطفات من بنين وبنات كطلع الورد النَّضيد، يضوع منهم عطر التَّعليم الحديث، واللغة الأجنبيَّة، وهما، دون شكٍّ، من مطلوبات العصر، لولا منقصة الجَّهل بأهمِّ مكوِّنات الهويَّة: لغة الوطن الأصلي وثقافته! وليس خافياً، بطبيعة الحال، التَّناقض الواضح بين هذه المنقصة وبين الهُويَّة التي تشكِّل اللغة والثَّقافة مدخلها الرَّئيس، فأنَّى لهم، إذن، أن يلامسوا، دَعْ أن يكتسبوا، أيَّ قدر منهما، وهم الذين لا حَلَبَ لهم، في معارفهما، ولا جَلَب، علماً بأنَّهم لو كانوا بدأوا، بجدِّيَّة، على هذا الطَّريق، لكانوا بلغوا المُرام، فحتَّى أكثر الأنهار بطئاً تبلغ المصبَّ في نهاية المطاف، على قول حكيم آسيوي؟!
إلى ذلك يزعج الأقارب عدم إبداء الآباء والأمَّهات القادمين من «الأوطان البديلة» أدنى قلق إزاء هذا الأمر، فلكأنَّهم قنعوا بما يجدون في «ألسنة» ذراريهم «الأفرنجيَّة» من معاوضة، أو ربَّما من مصدر للتَّباهي أمام الأضياف، لدى زوراتهم «الصَّيفيَّة»، دَعْ غير القليل من الإحساس بعدم خلوِّ الأمر من «قَدَر مسطور» تابع لما قبله من نازلات سياسيَّة واجتماعيَّة تتاليْن عليهم، فاضطررنهـم لهجـر «أوطانهم الأصليَّة» ذاتها، ليتشتَّت شملهم فـي أركان الدُّنيا، فما يكون الافتقار، إزاء ذلك، للِّسان العربي، أو للثَّقافة الاسلاميَّة، بينما هذا الافتقار نفسه لا يعدو أن يكون نازلة ثانويَّة لا يملكون إزاءها غير التَّسليم، وابتسامات الرِّضا تضـئ الوجوه، تأسِّـياً بإنشـاد الشَّـافعي رضي الله عنه «دَع الأيَّامَ تفعلُ ما تشاءُ/ وطِبْ نفساً إذا حكمَ القضاءُ»!
على أن أغلب مَن لم يركنوا لمثل هذه التِّلقائيَّة، استناداً إلى حكمة التَّوجيه النَّبوي الشَّريف «أعقلها وتوكَّل»، ألفوا أنفسهم مفتقرين، للأسف، إلى آليَّات التَّدبير الجَّماعيَّة على هذا الصَّعيد، مِمَّا أسلمهم للسَّير، كالمُنوَّمين مغناطيسيَّاً، على طريق شائك الخطأ، بل شائك الخطر! ويكفي، كي تدرك شيئاً من هذين، أن تتذكَّر كم مرَّة سألت، وكم مرَّة تلقيت الإجابة، بأنه ليست ثمَّة مشكلة في الأمر، فقد أنشأ جماعة من «الإخوة الباكستانيِّين!» مدرسة «قرآنيَّة» لأولاد المسلمين المهاجرين، تماماً كما تُفتتح جزارات «الذَّبح الحلال» في بعض العواصم الغربيَّة، وقد تمَّ إلحاق الأولاد بها! يقولونها ببساطة، لكأنَّ أقصى مشكلة هي، فحسب، توفير المصروفات لمدرسة أولئك الأشياخ الآسيويِّين ذوي اللحى السِّجَّاديَّة، بينما قد لا يعلم أكثر الآباء والأمهات أن شيخاً من هؤلاء اسمه أبو الأعلى المودودي كان قد أسَّس، منذ ما يربو على نصف قرن، بلحية وفقه مشابهين، ما عُرف بـ «الجَّماعة الإسلاميَّة» في لاهور، بزعم إجراء «إصلاح» دينيٍّ شامل، فكان أن لعب، خلال الخمسينات والسِّتِّينات، في عقل من كان مشروع مفكر وأديب مرموق كسيِّد قطب، ومن ثمَّ في عقول كتلة معتبرة من جماعة «الأخوان المسلمون»، بل وعقول أجيال بأكملها، على طريق التَّرويج لنفس الفكر الخوارجي الذي ما انفكَّ، منذ مواجهة «صفِّين» بين علي ومعاوية، وخدعة التَّحكيم بين أبي موسى وابن العاص، وانقلاب الخلافة الرَّاشدة إلى ملك عضود، يرفع المصاحف على أسنَّة الرِّماح مدَّعـياً الجِّهـاد لأجل أن تكـون «الحاكميَّة» لله وحده، بينما يضمر تجيير الأمر لبشر من لحم وعظم يقوم مقام الحقِّ، عزَّ وجلَّ، في تطبيق هذه «الحاكميَّة»، وهنا مربط الفرس، وبيت القصيد، وكلمة الحقِّ التي أريد بها باطل، على قول الكرَّار رضي الله عنه.
تأثير المودودي السَّالب على سيِّد قطب تمظهر في اعتزال المجتمع، من أوَّل تكفيره، مروراً بشنِّ الحرب حتَّى على رؤى ابن سينا، وابن رشد، والفارابي، واتِّهامهم بالتَّخليط بين الإسلام والفلسفة الإغريقيَّة، وانتهاءً بتدشين «السَّلفيَّة الجِّهاديَّة» التي أفرزت «طالبان»، و«القاعدة»، و«الحوثيِّين»، و«داعش»، و«الشَّباب»، و«التَّكفير والهجرة»، و«جيش النُّصرة»، و«بوكو حرام»، مِمَّا تعجُّ به شرائح الفيديو المتاحة حتى للأطفال، والتي تُذبح فيها الفرائس، أو تحرق حيَّة، بدم ثلجي، لا لشيء سوى السَّعي بالدِّين لاحتياز الدُّنيا، والتوسُّل لذلك بتكفير جموع المسلمين وأنظمتهم، بلا استثناء! هؤلاء خلفاء المودودي وقطب، فتأمَّل أيَّ نوع من القيم الدِّينيَّة يمكن أن يبذروا في ألباب زغاليل ما تنفكُّ تحيِّرها هويَّة غائمة لأوطان انطمست في الذَّاكرة، وضاعت حتَّى مفردات لغتها، في مَهاجرَ ﻻ سعة فيها حتَّى لزنوج تُحسب عُشرتهم معها بقرون، لا ببضع سنوات!
الثُّلاثاء
نعى النَّاعي، خلال الأيَّام الماضية، نجمين سودانيَّين، بل أم درمانيَّين، على وجه الخصوص، قلَّ أن يجود الزَّمان بمثلهما: سبت دودو وسعديَّة الصَّلحي.
فعن 88 عاماً، قضى جلَّها ساطعاً في قلب المشهد الرِّياضي، من السَّلة، إلى السِّباحة، إلى الجُّمباز، وإلى كرة القدم التي برع فيها بالتَّحديد، ممارسة، وتدريباً، وإدارة، رحل الكابتن عيد دودو دمور، وهذا هو اسمه الأصلي، وسار عليه اسم «سبت» تذكاراً ليوم مولده بأم درمان لأب جنديٍّ بالجَّيش، وقد ورث عنه مهنته. لعب سبت، على مدى ثلث قرن، حارساً أسطوريَّاً لمرمى فريق الهلال منذ أوَّل انتمائه له عام 1953م، ثمَّ حارساً لمرمى الفريق القومي السُّوداني منذ العام 1956م، حيث ظلَّ أغنية حبٍّ لدى جماهير الملاعب، وأنشودة عشق على شفاهها، ونغمة شغف في هتافها الدَّاوي. ولا زلت أذكر كيف انشغل جمهور غفير عن انقلاب عبود، صباح 17 نوفمبر 1958م، بمرأى سبت جنديَّاً واقفاً «انتباه»، يسدُّ خدمة أمام بنك باركليز بالمحطَّة الوسطى بأم درمان! والعجيب أنه ظلَّ هدفاً للاعتقال عند كلِّ محاولة انقلابيَّة، الأمر الذي دفعه لأن ينتقل، في مرحلة متقدِّمة من عمره، ليعمل مدرِّباً لحرَّاس المرمى بالمملكة السُّعوديَّة، حيث اختير عميداً للجَّالية بالمنطقة الغربيَّة هناك.
أخيراً رحل «الحارس الأمين»، و«الصَّقر الأسود»، و«صقر قريش» في هدوء، ليوارى الثرى بالمملكة، وسط دعوات الملايين بأن يتغمَّده الله بواسع رحمته وغفرانه، وأن يجعل البركة في إبنه علاء الدِّين، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
أعقب رحيل «سبت» رحيل «سعديَّة»، سليلة آل الصَّلحي، وابنة البيت الأم درماني التي تشرَّبت علمه، وثقافته، وفقهه، وعشقه للوطن، وللخدمة الطَّوعيَّة. وهي، إلى ذلك، شقيقة التَّشكيلي العالمي إبراهيم، والموسيقار البارع عربي، ملحِّن أغنية عبد الدَّافع عثمان ومبارك المغربي الخالدة «مرَّت الأيَّام».
تخرَّجت الرَّاحلة من كليَّة الفنون الجَّميلة والتَّطبيقيَّة بالخرطوم، كما تلقَّت دراسات في هذا المجال بالقاهرة، وتخصَّصت في الفولكلور، لجهة تصميم الأزياء والدِّيكور، وكرَّست سنوات طوال من عمرها لأشغال الزِّينة، والأطعمة، والطُّقوس الاجتماعيَّة، في السُّودان بالذَّات، وما إلى ذلك.
وبين بيتهم القديم في «العبَّاسيَّة»، جنوب أم درمان، والبيت الذي ابتناه إبراهيم، وارتحلوا إليه في الجَّرَّافة، أقصى شمال المدينة، بقيت سعديَّة، حتَّى آخر يوم في حياتها، على ثقافة أهلها، جوداً أصيلاً، وكرماً فيَّاضاً، تستقبلك، هاشَّة باشَّة، بحميميَّة لا تعرف الرِّياء، يتهاطل من فمها ترحيب كقطع الحلوى، وبين يديها من المأكولات والمشروبات ما لا تكتفي بوضعه أمامك، وإنَّما تلاحقك بـ «حلايف» غاية في العاطفة الصَّادقة كي تتذوَّقه، ثمَّ تجلس إليك تؤانسك عن أصل «القرمصيص»، وعادة «قطع الرَّحط»، ونحاس الـ «حي ووب»، وقصَّتها مع سيف «المك نمر» المتعدِّد الشَّفرات، المعلَّق على جدار حجرة الاستقبال العتيقة، والذي استنقذته ذات نهار بالسُّوق الكبير، من بين براثن سائح كاد يقتنيه، في آخر لحظة، ليغادر به السُّودان!
رحم الله سعديَّة، وجعل الجَّنة مثواها، وبارك في ابنها الصَّلحي، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
الأربعاء
لم يدهشني القيادي الاسلاموي بالمؤتمر الشَّعبي أبو بكر عبد الرَّازق وهو يصرِّح بأنهم، في الانتخابات القادمة، سيرشِّحون البرهان لمنصب رئيس الجُّمهوريَّة، بـ «بدلة أفرنجيَّة»!
لم يدهشني، مِن جهة، لأنه قد لا يعرف، وقد لا يهمُّه أن يعرف:
(1) أن الجُّمهوريَّة البرلمانيَّة، بديموقراطيَّتها التَّعدُّديَّة، هي الأقرب إلى طابع السُّودانيِّين المتعدِّد المتنوِّع، من الجُّمهوريَّة الرِّئاسيَّة الأكثر تمثيلاً للشُّموليَّة؛
(2) وأن خيارنا الوطني قد استقرَّ، لهذا السَّبب، منذ فجر الاستقلال، على أن تطوُّر نظام الحكم في بلادنا ينبغي أن يمرَّ عبر الجُّمهوريَّة البرلمانيَّة، لا الرِّئاسيَّة؛
(3) وأن استعادة الجُّمهوريَّة البرلمانيَّة من بين فكَّي الشُّموليَّة الرِّئاسيَّة، ظلت تمثِّل، لهذا السَّبب، وعلى الدَّوام، القانون الأساسي للثَّورة السُّودانيَّة؛
(4) وأن أحد أهمِّ أهداف ثورة ديسمبر المجيدة، وبالتَّالي الانتخابات التي تعقبها، هو، لهذا السَّبب، استعادة الجُّمهوريَّة البرلمانيَّة، والدِّيموقراطيَّة البرلمانيَّة!
ثمَّ إنه لم يدهشني، مِن جهة أخرى، لأنه قد لا يعرف، وقد لا يهمُّه أن يعرف، أن أشياء كثيرة تميِّز الحاكم الدِّيموقراطي عن الحاكم الشُّمولي، لكن ليس مِن بينها .. «البدلة الأفرنجيَّة»!
الخميس
بالخميس 22 سبتمبر 2022م، استعرضت صحيفة «الشَّرق الأوسط» كتاب «حوارات القرن» للإعلامي السُّعودي محمد رضا نصر الله، والذي أصدره عن «المركز الأكاديمي للأبحاث»، في ثلاثة أجزاء، حاوياً حواراته الصَّحفيَّة، والتلفزيونيَّة، مع مائة وخمسين شخصيَّة من رواد الأدب والثَّقافة العرب والعالميِّين. وجاء في وصف استعراض الكتاب أنه «يتعدَّى الحوارات التَّقليديَّة، ليقدم سجالاً فكرياً عميقاً حول الكثير من القضايا، مع شخصيَّات مؤثِّرة في الثَّقافة والفكر والسِّياسة»، ومن أبرزهم: العميد، والحكيم، ومحفوظ، وفدوى، والقصيبي، والعروي، وتيزيني، والجَّواهري، والبردوني، والفيتوري، وأدونيس، والغزالي، والجابري، وأركون، وسعدي يوسف، وبنت الشاطئ، والطاهر وطار، وسعيد عقل، وعبد الرحمن بدوي، وغيرهم.
ويتناول الاستعراض الجَّهد المضني الذي بذله نصر الله في إقناع ضيوفه بهذه الحوارات، حيث تمنَّع بعضهم عنها، بل وطلب آخرون، كتوفيق الحكيم، مقابلاً ماليَّاً لها! ومن الاختراقات المهمَّة لنصر الله نجاحه في إقناع الفيلسوف عبد الرحمن بدوي بإجراء الحوار النادر الوحيد معه حتى رحيله! وكذلك إقناعه فدوى طوقان بالحوار معها، رغم ما عُرفت به من تمنع عنها!
وجاء في الاستعراض، أيضاً، أن نصر الله لم يكتف بالحوارات، وإنَّما جدَّ في الكشف عن الأسرار، وطرح القضايا، فقد قاده البحث، مثلاً، في أرفف مكتبة السَّيَّاب، إلى التَّنقيب عن سيرة الشَّاعر العراقي البارز. يقول إنه كان، ليلتها، في دار السَّيَّّاب بالبصرة، فالتقى بفلَّاحين من أهله وجيرانه، كما التقى بصهره فؤاد عبد الجَّليل، وببنتيه غيداء وآلاء من زوجته إقبال. وكان قبلها قد اكتشف، من خلال قراءته لكتاب (تاريخ الأقطار العربيَّة الحديث) للمستعرب الروسي لوتسكي، الصَّادر عن «دار التَّقدُّم، 1971م»، أن أسرة السَّيَّاب كانت ذات ماضٍ إقطاعي، إن لم يكن بكامل دلالات المصطلح الماركسي، فلأنها، على الأقل، قد مارست امتلاك الأراضي الزِّراعيَّة! ويواصل نصر الله قائلاً: «تساءلتُ: ألهذا يستعيد السَّيَّاب لاوعيه التَّاريخي هذا في ديوانه (منزل الأقنان)؟! فقد وجدتُ بيت أسرة السَّيَّاب في جيكور فسيح الباحة، كبير المساحة، بدا متهاوياً بأطلال مجدٍ غابر، وأصبح الشُّعراء من زوَّار مهرجانات بغداد يقفون عليه، مثلما كان شعراء الجَّاهليَّة يقفون على الأطلال، ويتأمَّلون في (شباك وفيقة) إحدى ملهمات الشَّاعر، ويا لهنّ من ملهمات»! ويضيف نصر الله: «لم تتردَّد الشَّاعرة العراقيَّة لميعة عباس عمارة، حين التقيتها في أبوظبي سنة 1996م، في الحديث معي عن افْتِتَان السَّيَّاب بجمالها، وهما على مقاعد الدَّرس الجَّامعي، بمعهد دار المعلمين العالية ببغداد، منتصف أربعينات القرن المنصرم»!
الجُّمعة
حقَّاً «مَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوْتْ». على أن أسرة الرَّاحل العزيز عبد الكريم الكابلي اتَّخذت، مؤخَّراً، أطيب قرار كان النَّاس، أصلاً، ينتظرون منها أن تتَّخذه منذ البداية، وهو إعادة تشييع جثمانه الطَّاهر ليدفن في السُّودان، وطنه الذي ظلَّ يوقِّر اسمه، ويتغنَّى بأمجاده، ويرفع له ذكراً في العالمين. وبذا أبدت الأسرة الكريمة وفاءً نادراً له، وللجماهير الغفيرة التي لطالما ارتوت من فنِّه الرَّاقي، وثقافته العميقة، فمكَّنتها، في الثَّالث والعشرين من سبتمبر 2022م، من تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير، هنا في السُّودان، بعد مرور قرابة العام على رحيله في الثَّالث من ديسمبر 2021م، بولاية ميتشيغان الأميركيَّة، عن عمر ناهز الـ 90 عاما، سلخ ثلثاه في ترقية موسيقى وثقافة بلاده، فارتاحت روحه، حيث تلك كانت وصيَّته التي أحسن ابنه عبد العزيز الإشراف على تنفيذها، رغم كلِّ تلك الأشهر المتطاولة!
السَّبت
ثمَّة مِن النَّاس مَن إذا حدَّثتَه عن «العصيان المدني»، لاعتبرك جئته بكَذِبٍ سُمَّاقٍ، وباطلٍ حَنْبَريت! فإلى هؤلاء، بالذَّات، نهدي الخبر التَّالي: «شكا مزارعو الجَّزيرة والمناقل من فرض وزارة الماليَّة الانقلابيَّة ضريبة على المحاصيل بواقع 6 ألف جنيه للفدَّان، وأعلنوا عن (رفضهم سدادها!)، ذلك أنه بدلاً من دعمهم بالتَّقاوي، والفوسفات، والسَّماد، بعد خروجهم من دائرة الانتاج للموسم الصَّيفي، يتمُّ التَّضييق عليهم بفرض ضريبة تفوق طاقتهم المحدودة، لا سيَّما وأن المشروع تعرَّض لكوارث السِّيول، والأمطار، ونفوق المواشي، وفقدان الأرواح والممتلكات، فلا يُعقل أن تُفرض عليهم، في مثل هذه الظُّروف، ضرائب إضافيَّة»!
إنتهى الخبر .. فهل، يا ترى، فَهِمَ القِطُّ الكلام؟!
الأحد
ذات جلسة للجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة كان المتحدِّث من آيرلندا. وكان المترجم بين الإنجليزيَّة والدَّنماركيَّة متغيِّباً لمرضه، فاضطروا للاستعانة بالمترجم اليوناني ليسدَّ الفراغ. وعلى طريقة الأسلوب الشَّاعري في الخطابة الآيرلنديَّة، استشهد المتحدِّث بالعبارة الإنجليزيَّة الشَّائعة The spirit is willing, but the flesh is weak ــ وترجمتها أن «الرُّوح راغبة، ولكن الجِّسم ضعيف»، فإذا بالمترجم، في واحدة من مِحَنِه، يترجمها للوفد الدَّنماركي: «الويسكي لا بأس به، ولكن اللحم رديء»!
kgizouli@gmail.com