كانت بندقيته دوماً إلى جانبه. وفي العادة ألقي عليه التحية وأدلف إلى دار الصحيفة الخرطومية التي كنت أكتب بها عموداً يومياً. ليس بيننا حديث سوى التحية، فمهمته كانت حراسة المقر، ومهمتي كانت تسليم العمود إلى سكرتارية التحرير.
على غير العادة بادرته ذلك اليوم بسؤال عابر: هل تعلم بأنني لم ألمس بندقية أو أي سلاح ناري طوال حياتي؟
أجاب ببديهة حاضرة:
بندقيتي قد تقتل شخصاً أو شخصين يا أستاذ، لكن أقلامكم قد تقتل العشرات أو المئات أو الآلاف !!
يا لها من إجابة صاعقة !
درس بليغ في بضع كلمات، والدروس قد نعلم فحواها، لكن شتان بين العلم بالشيء وبين اتخاذه سلوكاً مؤثراً في الحياة.
أسوأ كابوس أن يكون الشخص معولاً هداماً في مجتمعه. أن يتجاوز الاختلاف؛ الذي هو من سنن الكون، ليجعله بوابة لنفخ الفتن والكراهية.
ما يرد إلينا عبر الأسافير من خطابات الاجتزاز، والدعس، والاستئصال التي تنفخ في نيران القبيلة والعرق .. هو سلاح محرّم، هكذا ينبغي، فإن لم يكن من سبب لهذا التحريم غير أنه يفترس الجميع بلا استثناء .. ففي ذلك الكفاية.
ما هذا الذي يحيق بالوطن وإنسانه المتسامح وأرضه الطيبة؟ هل هي المؤامرة؟ أم هو التغابي عن مصالح الوطن العليا وضرورة تماسكه، أم هو سعي لترسيخ واقع سياسي مرير يجثم في الصدور، وتقوية أوتاده ؟!
كل خطابات الكراهية التي تعبر إلى حساباتي في الواتساب وغيره لا تسافر مني إلى أحد من أصدقائي .. بل أتولى وأدها في مكانها .. لأنها لا تشبهنا .. ولا تشبه إنساننا، ولا تشبه وطننا الذي نحلم به.
وكل الأقلام والحناجر التي تنعق بالكراهية، سواء من نافذة الجهوية، أو من نافذة العرق والعقائد .. هي فيروسات ستعود إلى مطلقيها يوماً ما وهم في غيّهم سادرون!
الوطن أمانة .. اختلفوا على الوسائل في تحقيق رفاهيته وتجاوز احتقاناته .. لكن لا تحفزوا البراكين العملاقة على الانفجار.
…..
شكرا يا حارس الصحيفة.. فما أرحم بندقيتك قياسا بنووي الكراهية والفتن!