قطعت عودة محمد طاهر إيلا، آخر رئيس للوزراء في نظام الإنقاذ قبل الثورة، في الأول من أكتوبر الجاري، قول كل خطيب عن “إلا المؤتمر الوطني” في خطاب انقلاب 25 أكتوبر 2021 وأنصاره.. فعاد إيلا بعد إقامة بمصر بعد سقوط نظامه في 11 إبريل 2019 وسط حفاوة غزيرة في إقليمه بشرق السودان شقت عنان السماء. واستبشر أنصار المؤتمر الوطني برجوعه استبشاراً أحصوا كل غائب منهم في العالم بعد الثورة وانتظروا عودته.
وكانت عودة إيلا للسودان بمثابة رأس جبل الجليد لجملة إجراءات وقرارات وممارسات استعاد بها طاقم حزب المؤتمر الوطني المحلول مواقعه في مؤسسة الدولة. فتكفل القضاء مثلاً بإلغاء كل قرارات لجنة تفكيك تمكين نظام التاسع والثمانين (الإنقاذ) الثورية بجرة قلم وصفها أحدهم ب”المسح بالاستيكة”. وربما لم تلغ النيابة العامة بعد أمر القبض الصادر بحق إيلا من الحكومة الانتقالية.
ولم تخل ممارسة استعادة النظام القديم من ضروب من العنف مباشراً وغير مباشر. فعطلت النيابة موقعا لصحيفة “السوداني” على الإنترنت. وصار استدعاء النيابة لأعضاء من لجنة التمكين للتحقيق في فسادهم هم ذاتهم خبراً معتاداً. ووصف أحدهم النيابة فيما تقوم به بأنها “أنشط خلايا نظام المؤتمر الوطني”. ويقع العنف المباشر عادة من رجال يوصفون ب”الملثمين” أو “لابسي الكدمول” والأخير ما اشتهر به مسلحو حركات دارفور المسلحة. فأعتدت جماعة من الملثمين على نقابة المحامين بالعصي والسيخ خلال جلسات مناقشة دستورهم الانتقالي. واعتدت جماعة منهم على بيت وجدي صالح الذي أحتج على انصراف النيابة العامة عن شكواه لهم بالتحقيق في الواقعة. بل نشر الحزب الشيوعي بياناً عن تتبع بعضهم لسكرتيرهم العام مختار الخطيب. ويلقى شباب الثورة الأمرين منهم. فتقوم جماعات من هؤلاء الملثمين باعتقالهم أو حلق شعورهم الجثلة على قارعة الطريق أدبة لهم. في حين يراجع القضاء أحكام إعدام صدرت بحق عناصر في الأمن لقتلهم شهداء ثورة ديسمبر فيلطفها للسجن والدية.
أما جبهة الثورة فتلقى استعادة النظام القديم على هوان سياسي عظيم من جهتين مفاهيمية وتنظيمية. فمن جهة المفهوم تجد من يرد فشل حكومتهم الانتقالية إلى علل في أدائهم. فتبدو لهم عودة النظام القديم كعقوبة لهم لا معدى منها. فيذكر كل فريق منهم أخطاء فيما يشبه تجديد للخلافات التي ضربتهم خلال الفترة الانتقالية. فتجد الحزب الشيوعي يقول مثلاً إنه شريك في أزمة الحكومة الانتقالية، ولكن شراكته انتهت بعد أن خرج على رفاقه في الحرية والتغيير واعتزلهم. ويرد بعضهم الأزمة إلى يوم توقيعهم اتفاق الشراكة مع المجلس العسكري لإدارة الفترة الانتقالية. أو تجد من يقول بأن سبب الأزمة هو في تسليم الحكم لأحزاب الحرية والتغيير. ويخرج المرء بانطباع بأن هؤلاء الثوريين قد اعتقدوا أنهم إذا “لعبوها صاح خلال” الفترة الانتقالية لما كان بوسع النظام القديم أن يجد موطئ قدم بعد الإطاحة به. وهي عقيدة قل أن صدقت في السياسة. وكما في السفن في قول أحدهم. فمن صنعها يعرف أنها ربما غرقت في يوم ما. واستعادة النظم القديمة لسلطانها بعد ثورة أمر معلوم. وعلى كل فليس من طريقة رشيقة لتخسر ثورة.
أما هوان صف الثورة من جهة التنظيم فيتمثل في أنهم صاروا طوائف “سلام الله ما بينها” كما نقول في السودان. فأمس القريب فقط أعلنت لجان المقاومة، خافق الثورة ما تزال، حلها للحرية والتغيير المركزي من جانب واحد. لم تفعل ذلك بقول صريح بالطبع، ولكنها دعت أحزابه فرادى لمناسبة توقيع ميثاق سلطة الشعب الذي تواثقت عليه لجان المقاومة في الخرطوم وغيرها من المناطق. وساء المركزي هذا الغض من شأنه فأعتذر نيابة عن مكوناته عن حضور المناسبة. وقال إنهم سبق واحتجوا على الحزب الشيوعي الذي رفض صريحاً أن يتعامل مع هذه المكونات فرادى لا معها ككيان يشكل جبهة سياسة عريضة. وقال المركزي إنه يتمسك بالتعامل معه ككتلة واحدة. ومتى لم يشأ أحد أن يتعامل معهم كما هم فهذا عدم اعتراف غير مبطن بهم كتحالف سياسي مشروع.
عودة النظم القديمة بعد الثورة عليها معلومة. فعادت أسرة ستيوارت لحكم إنجلترا بعد اقصائها منه لإحدى عشر سنة بثورة أوليفر كرومل وابنه رتشارد. كما عادت أسرة البوربون للحكم في 1814. وبقيت الملكية في إنجلترا إلى يوم الناس هذا لأن الاستيوارت تصالحوا مع حقائق جدت قبل طردهم ومنذها. فتواضعوا على ملكية دستورية جنينية أعطت البرلمان حق فرض الضرائب وجمعها والتصرف فيها دون الحقوق الأخرى التي صبر البرلمان على نيلها بالزمن. أما الملكية في فرنسا فذهبت أدراج الرياح لأن الملك تشارلس العاشر انقلب على اعتدال والده وطلب استعادة النظام القديم السابق للثورة الفرنسية في 1789 بحذافيره. فأطاحت به ثورة أخرى في 1830 ثأرت بها ليبرالية الثورة الفرنسية لنفسها منه. ولهذا قيل إن البوربون لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شئيا.
سيكون عارض النظام القديم في السودان، إذا ثبتت استعادته، أنه لم يقض خارج الحكم سوى سنوات ثلاث غير كافية للتعلم أو النسيان، أو أنه لم يتفق له طوعاً التعلم والنسيان. ولهم الخيار مع ذلك أن يكونوا الاستيورات فيمكث في الأرض معدلاً أو البوربون فتذروه الرياح.