هناك من أبناء بني عامر والحباب من يخلط خلطا مؤذياً بين مفهوم الوطن وبين مفهوم الحكومة في ظل ٣٠ سنة من نظام كيزاني لايكترث في ايديلوجيته لمعنى الوطن، وهذا خلط خطير، وطنك هو أرضك، ومهما وقع عليكم من ظلم الحكومات فلاتكفروا بأرضكم بسبب ظلم الحكومة لأن الحكومات زائلة والأرض/ الوطن باقٍ. وفي الحقيقة أن تقزيم الشعور بالوطنية كان يتطور مع اهمال حكومات المركز المتعاقبة لمناطق البجا منذ مابعد استقلال السودان، لكن دور نظام الكيزان في مضاعفة نقزيم الشعور الوطني والمواطنة كان له سببان السبب الأول، قيام الفهم الآيديلوجي للكيزان على تصور يوهم تناقضا أو تشوشا بين مفهومي الدين والوطن (مع أنه ليس هنا أي تناقض بين المفهومين) والسبب الثاني مضاعفة اهمال مناطق البجا زمن حكم الكيزان (ولاسيما السياسات العنصرية الرعناء للوالي الكوز محمد طاهر ايلا في إبقاء مناطق جنوب طوكر على حالها المأساوي – منذ حرب العام ١٩٩٧ بين حكومة البشير والمعارضة السودانية – وتركها لمصيرها المدمر حيث رفض ايلا إعادة توطين أكثر من ٦٠ ألف نازح، ورفض نزع الألغام والمتفجرات من مخلفات الحرب كما أقر قانون الطوارئ الذي يحرم الدخول للمنطقة )، ونتيجة للفتنة التي تعرض مكون بني عامر والحباب لأضرارها البالغة خلال السنوات الثلاثة الماضية بكل تأكيد سيتشوش معنى الوطن في أذهان كثيرين من الشباب ويختلط بصورة مؤذية مع معنى الحكومة. لكن الوطن هو الوطن لا أحد يختار وطنة ولو كان له مساحة متر من الأرض في هذا الوطن.
ونتيجة لكل ذلك التجريف الذي استمر لأكثر من ثلاثين سنة من تسييس الادارة الأهلية أي توريط نظار القبائل في ممارسة السياسة، حل الولاء للقبيلة في مركز دائرة اهتمام الشباب محل الوطن، مع أن الوطن وحده هو الذي يحدد هويتنا باستمرار وهو الفاعل الأساسي والمستمر من خلال وثائق ملموسة كالجنسية والجواز والرقم الوطني – لا القبيلي – الذي يعيد تعريفنا للآخرين في الخارج كسودانيين وليس كبجا أو نوبة أو فور، ومن خلال الخطط الوطنية الاسكانية لنا كسودانيين تملكنا المنازل وتم تخطيط المدن على أن تستوعبنا جميعا كسودانيين – لا كقبائل – وتم تهيئة العيش المشترك لأبناء الشعب – من كل أنحاء السودان – في كل مدينة كبيرة كمدينة بورتسودان ثم أصبح الوصف المناسب لنا بعد كل هذا الانجاز في بناء الدولة السودانية – منذ ٢٠٠ سنة – هو أن نعرف أنفسنا كشعب سوداني..
وهكذا نرى أن ما هو ملموس في حياتنا داخل هذا الوطن هو هويتنا الوطنية التي نرى آثارها في كل ناحية من نواحي حياتنا في الاقتصاد والتعليم والعمل والعلاقات الاجتماعية والاهتمامات العامة والتصورات المشتركة، ووو .. الخ .
ومع كل ذلك للأسف ننسى هذه البديهيات المؤثرة بقوة في حياتنا اليومية ونتعلق بالقبائلية والادارات الأهلية، وذلك ليس لأن هذه القبائل هي بالفعل المؤثرة في حياتنا ولكن لأن نظام الكيزان جعل القبيلة مركزا للاهتمام العام بين الناس عبر سلطاته المؤثرة وتشريعاته وأوامره (فزمن السلطة السياسية الحقيقية للقبائل قبل ٢٠٠ سنة أي قبل بناء الدولة السودانية، كان تفشي الجهل والأمية هو المسيطر على عقول الناس وبالتالي كان يستحيل على الانسان العادي أن يكون فردا راشدا وعقلانيا ويملك وعيا مستقلا في الحكم على الأشياء، ناهيك على أن يكون هناك فضاء عام مشترك للتعايش والتمازج بين القبائل – كما هو الحال اليوم بفضل وقيمة الوطن. وكان كل فرد في ذلك الزمن من المستحيل عليه أن يمر بأرض قبيلة أخرى – ناهيك أن يستريح في مضاربها – دون اذن القبيلة، أما لو أراد ذلك الفرد أن يعيش في القبيلة باقي عمره فيعيش بينهم وهو يعرف ضعفه وانكساره باستمرار لأنه ليس منهم وبالتالي حقوقه ليست كحقوق أفراد القبيلة).
المفارقة اليوم هي أن نظام تسييس الإدارة الأهلية الذي اعتمده الكيزان لتفخيخ النسيج الاجتماعي لقبائل البجا في شرق السودان أنه لم يبعث القبيلة ولا زمنها – لأن زمن السلطة السياسية للقبيلة مضى قبل ٢٠٠ سنة ولن يعود أبدا – وانما جلب لنا مسخا اسمه القبائلية وهذا المسخ متى مامارس عبره نظار القبائل السياسة أحدث خرابا عظيما وفسادا سرطانيا للحمة المجتمعية – كما نرى اليوم المصير الذي أصبحنا عليه بشرق السودان – (تجربة المجلس الأعلى لنظارات البجا نموذجا).
وفق هذه المفارقات الخطيرة التي أصبحت فيها القبيلة مركز الاهتمام العام لأبناء بني عامر والحباب بطريقة تشغلهم عن الانتباه لمعنى الوطن ووجود مفرداته وتمظهراته اليومية المؤثرة في كل جوانب حياتهم، سندرك كم هي عميقة تلك الحفرة المظلمة التي أوقع فيها نظام الكيزان مجتمع البجا في شرق السودان، وكذلك بقية أنحاء السودان. وهو مصير جهنمي يمكننا أن نظل عالقين في عذابه لأبد الدهر – اذا لم نلتف جميغا حول حس ووعي وطني نفهم به معنى الوطن بطريقة تخلصنا من هذا المصير المظلم.
بقي أن نقول أمرين مهمين؛ الأول ؛ أن عادات البجا بشقيهم (بداويت وتقرايت) عادات لازالت قبلية وفيها ممارسات انعزالية تحب العزلة وتنفر من الغريب ووتقوقع داخل ذاتها وهي عادات مع مافيها على هذا النحو لم تجد في السودان دولة قومية ممتازة تضع نظما علمية ومعالجات معرفية تخرج البجا من أطوارهم وعاداتهم التاريخية تلك عبر تجارب رائدة لتطوير حياتهم بعد فهم نظم ادراكها فهما جيدا ومن خلال طبقة من الرواد والخبراء من أبناء البجا أنفسهم – بعد أن تؤهلهم الدولة – وعبر مناهج تعليم يبدأ فيها أطفال البجا التعلم بلغتيهما المحليتين – في المراحل الأولية من التعليم في حدود ٣ سنوات – مع تنمية شاملة وتتناسب مع طبيعة حياتهم.
الأمر الثاني، هو أن ضعف الاحساس بمعنى الوطن عند البجا أيضا؛ سببه هو حرمانهم من الاحساس بهويتهم السودانية في المركز عبر مفردات من حياتهم وتقاليدهم يتم ادراجها في التعليم والاعلام والفنون ضمن دائرة اغناء التنوع في الهوية السودانية، بدلا من فرض ترسيم هوية الوسط كهوية واحدة في كل مفردات الحياة العامة وااتصورات العامة والاعلام والتعليم لكل السودانيين.
كل هذه العوامل التي ذكرناها هي التي يلعب غيابها الفادح دورا خطير في الاحساس العدمي بالوطن والخلط المؤذي بينه وبين الحكومة في تصورات الكثيرين من أبناء البجا.