الانقلابيون طغت على خطاباتهم النعرة القبلية والجهوية بسفور لم يسبق له مثيل، قبل شهور خاطب البرهان جماعة من رهطه وأثار فيهم حميّة الجاهلية، ونعتهم بأن لا أحد يشبههم وأنهم الروّاد الأوائل لحضارة البلاد، وقبل يومين ضجّت سوح الاعلام الأسفيري بارتدادات الخطاب المفتن الذي أدلى به نائب حاكم إقليم دارفور وبيان الرزيقات على لسان ناظر القبيلة، من كوارث انقلاب الخامس والعشرين من اكتوبر أنه أعاد البلاد للعصر الجاهلي، حيث تصدرت الولاءات القبائلية المشهد السياسي، وتوارت الأحزاب والتظيمات السياسية البائسة خجلاً من لعب دورها المنوط به ملأ الفراغ الذي أحدثه الانقلاب، ولولا بؤس هذه الكيانات السياسية لما طفح الفرز القبلي والجهوي بهذه الطريقة الفجّة، وفي شرق البلاد سيطر على مسرح الأحداث الناظر ترك – رئيس مجلس نظارات البجا، فتحوّلت السلطة السياسية في البلاد لمشيخات ونظارات وعموديات، كان دورها في سابق العهود والأزمان لا يخرج عن محور العمل الأهلي في حلحلة تعقيدات خصائص المجتمعات المحلية، ذلك الدور الذي اعتمد عليه البريطانيون عندما حكموا السودان نصف قرن من الزمان، إنّ عمل الإدارات الأهلية يجب أن لا يخرج من الإطار العرفي، فالقبيلة مهما بلغت من شأو لا يمكنها أن تحل محل التنظيم السياسي.
الملاحظ أن هذه النعرة القبلية المستعرة قد نشطت بعد توقيع اتفاق جوبا المشؤوم، هذا الاتفاق الذي لعبت فيه القبيلة دوراً عظيماً في كلا طرفيه، ولا أحد ينكر تأثير القبيلة على كيانات الحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق، وكذلك على الطرف الحكومي الممثل في قيادة قوات الدعم السريع، فمن هنا بدأت المعضلة العشائرية التي طوّقت الاتفاق من كل جوانبه، وفي الآخر أعلن ناظر القبيلة التي ترى في هذا الجناح العسكري الحكومي امتداداً لها، عن موقفه صراحة، فكان من باب الحصافة السياسية أن لا يزج ناظر القبيلة بكيانه الاجتماعي في هذا الأتون السياسي الضيق، فقائد الدعم السريع أصبح شخصية عامة دخلت معترك العمل العام، وعليها تحمل تبعات ما أقدمت عليه من خيار فردي لا علاقة للإدارات الأهلية به، لا من بعيد ولا من قريب، وفي هذا السلوك استفزاز لمشاعر كيانات قبلية أخرى ترى جوبا كصفقة سياسية عادت بالنفع لقبيلتين من قبائل دارفور التي يفوق تعدادها المائة ونيف، وبمثل هذه التصريحات الزاجّة بالمكونات الاجتماعية في الصراع السياسي، سوف تخلق مراكز قوى اجتماعية أخرى مناوءة للتحالفات المستأثرة بمخرجات الاتفاق، ولن تسكت قبائل دارفور الأخرى التي فرض عليها هذا الأمر الواقع، ولن يصمد أي تحالف قبلي يهدف إلى اختطاف القرار السيادي.
ولو كان لابد من اختيار ومفاضلة ما بين القبيلة والوطن فلتذهب القبيلة وليبقى الوطن، فساحات الوطن أرحب وجلباب القبيلة أضيق، ولا يجب أن يتجاوز دورها خصيصة التعارف بينها وبين صويحباتها الأخريات، لا التباهي والتفاخر بالأنساب والأحساب، ولو لم يحذر الفاعلون في الحكومة الانتقالية المرتقبة من مغبة الولوغ في هذا الإناء الآسن، سيلتف كل ذي منصب دستوري حول قبيله العشائري وسنشهد سيناريو أسوأ من أحداث جمهورية رواندا مطلع تسعينيات القرن المنصرم، فلينتبه الناشطون في مضمار الحراك السياسي للفتنة النائمة التي يسعى القبليون القادمون على صهوة حصان جوبا لإشعالها، وكفى على جسد هذه البلاد الطعنات النجلاء النازفة التي تلقاها طيلة السنين الماضية، فليرعوي الجميع من مغبة الدخول في نفق العصبية القبلية الضيّق الذي لن يجدي صاحبه غير مقاطعة الأغلبية، وما عادت البلاد تحتمل أكثر مما احتمله ظهرها المثخن بالجراح، فمساحات الوطن هي الأفسح متكأً ومقاما، ونطاق القبيل العشائري هو الأصغر من محيط سم الخياط، ولن يكون طريق الحل السياسي سالكاً لو لم ينظف ويجرف من عبث النعرات القبائلية الرعناء والمهلكة، وإن لاذ المستيئسون بالفرار من جحيم فشل النخب السياسية، فمن الأجدى أن يستنصروا بالطرق الصوفية لا أن يجعلوا من القبيلة نصيراً.
اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com