* يقول مبارك بشير: أنا شاعر لم يُعرف عنه كتابة الغناء، لكنها فتحت باباً موارباً بعدها لكتابة شعر غناه مبدعون كبار، وردي، جيلاني الواثق وأحمد ربشة وعامر الجوهري وفي الطريق ـ ربما ـ عركي وعاصم البنا ونانسي عجاج)!. (يقول الصديق الشاعر الراحل مبارك بشير الذي ترك برحيله الفاجع غصة وسط معارفه وأصدقاءه وأهل بيته، أن أجمل مافي مقاطع قصيدته (عويناتك) التي لحنها وأداها الفنان محمد الأمين، هي تلك التي تقول:ـ (أقوليها عويناتك ديار وعدى مسورة بى جدار صمتك *** عذابى معاك بريدك قبلما أعرفك *** ولو بقدر أشيل من الزمن وقتي بموت في لحظة وأوهب ليك عقاب عمري). *** تكاد أغنية (عويناتك) ضمن الأغنيات القليلة التي طالبتنا أعداد من القراء الذين قرأوا الجزء الأول من كتابنا (ملهمات)، أن نسرد قصتها في الجزء الثاني!. كانت الكاتبة الاعلامية عفاف أحمد الطاهر هى من قلائل الذين تناولوا سيرة أغنية (عيوناتك) للفنان محمد الأمين الذي قام بتلحينها بداية سبعينيات القرن الماضي، و التي تشير ضمن توثيقها للأغنية العاطفية ( أكد لي بعض المعاصرين لشاعرنا الدكتور مبارك بشير أن ملهمة القصيدة هي حقيقة الأديبة والاعلامية فاطمة السنوسي!.
وكنت في مؤانسة مع الصديق الشاعر مبارك بشير قد نقلت له عرضاً ما يتم تناقله في أوساط الأصدقاء والمعارف حول ملهمة القصيدة، ضحك عليه الرحمة ودخل معي في حديث يتعلق بشاعرية فاطمة السنوسي كمجترحة للحكاية السودانية القصيرة جداً والتي أصبحت الرائدة الأولى في كتابتها، ولم يزد!. وفاطمة هي القاصة السودانية الشهيرة والتي عرفت بنمط (القصة البرقية) واشتهرت به قبل انتشاره على الصعيد العربي!، هذا إلى جانب الصديق القاص صلاح حسن أحمد الذي يعيش حالياً بمدينة لندن!. حيث أن مبارك لم ينف أو يؤكد، رغم أن حديثه عن فاطمة قد عزز عندي فرضية أنها المعنية بقصيدة (عويناتك) عنده!. فما الذي كنت أنتظره منه يا ترى؟، هل كنت أروم لأن يقول لي بأن:ـ ( فاطمة كانت بيت القصيد في تلك الأغنية )؟!. وهو القائل:ـ( أنا من دعاة أن تشاهد اللوحة دون أن تسأل الرسام عن تفسير لها، وأن تتعامل مع العمل الابداعي والغنائي خاصة دون البحث عمن كتبت فيه الأغنية)!. وبالطبع أعلم أن قطاعاً عريضاً من الأصدقاء لديهم يقين كامل بأن فاطمة السنوسي هي ملهمة قصيدة عويناتك، وقد أصبحت معلومة في حكم المؤكد وليست في حوجة لتأكيد من أي طرف!. خاصة أن كثيراً من كتاب وصحفيي توثيق (عويناتك) التي تستهويهم سيرتها، يشيرون سواء بطرف خفي أو مباشر إلى أن خلف أجواء القصيدة تكمن فاطمة ويكمن مكان انتاجها، وكتبت فاطمة نفسها أن:ـ ( قصيدة عويناتك تعدت الخاص وصارت رمزاً لفترة زاهية وزاهرة في جامعة الخرطوم اتصفت بزخم ثقافي وابداعي وسياسي كبير، كان الشاعر مبارك بشير أحد أعمدته، وما ذُكرت القصيدة إلا وجال بخاطر جيل السبعينيات كل ذلك الحراك الثقافي والإبداعي الذي انتظم الجامعة آنذاك، وكل ذلك الحراك السياسي الذي كان المبدعون من طلاب الجامعة يحملون لواءه، كنا حينها نتنفس الشعر والأدب والابداع الذي شكل وجداننا)!. وبالفعل فإن الأجواء التي كتب فيها مبارك (عويناتك) كانت تمور بحراك ثقافي كبير سيؤثر لاحقاً في بنية المجتمع السودانين حيث كانت جامعة الخرطوم ما بين منتصف ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي هي الحاضنة لنشاط ثقافي وسياسي كبير، كانت الجمعيات الأدبية والفكرية والفنية محور نشاط طلاب تلك السنوات، وقد زامل مبارك وتفتح وعيه الثقافي بالجامعة جيلاً من الشباب الشعراء والأدباء الذين سيكون لهم شأن وتأثير في مجرى الحياة الثقافية والفكرية فيما بعد، حيث الشعراء كامل عبد الماجد وفضيلي جماع وكمال عووضة وجماعة المسرح الجامعي شوقي عز الدين وعثمان النصيري والدرديري ساتي وسلمى بابكر وماجدة تميمي ومحمود تميم ومامون الباقر باثرائهم للحياة الثقافية في الجامعة، هذا فضلاً عن جمعية الثقافة الوطنية والتي كان مبارك بشير أحد اعمدتها كما كانت فاطمة السنوسي أيضاً عضواً فاعلاً فيها، وكان جلها روافد للجبهة الديمقراطية بجامعة الخرطوم وقتذاك، كانت أنشطتها قبلة جماهير العاصمة المتعطشة للمعرفة والوعي الثقافي، حيث كانت أمسيات الجامعة الثقافية والفنية تحتشد بهؤلاء المهتمين. وخارجها كان المشهد الثقافي يعكس أيضاً حراك الجامعة الثقافي حيث انتاج الأغنيات والموسيقى الجديدة وحيث المطابع التي تصدر الكتب والمجلات والصحف المتعددة، وحيث الجمعيات والندوات الأدبية، معارض التشكيل وأسواق الشباب الخيرية التي تعج بها حدائق المقرن والريفيرا والموردة، \بالإضافة للحراك الثقافي في كل من جامعة القاهرة الفرع وكلية الفنون الجميلة ومدارس ثانويات العاصمة. وقد تداخل كل نشاط جامعة الستينيات مع نشاطها في السبعينيات، حيث كان نشاط أبادماك وطلائع النخيل و مدرسة الغابة والصحراء. فكانت أجواء بداية تلك السبعينيات وحتى منتصفها تمثل فيها جامعة الخرطوم أيضاً رأس الرمح في المقاومة الشرسة لديكتاتورية مايو والنميري وكانت مظاهراتهم واعتصاماتهم مع ثانويات العاصمة قد أرست الأساس المادي لانتفاضة مارس ـ أبريل المجيدة والتي اقتلعت نظام السفاح نميري وزمرته!. قال مبارك عبر رسالة لإحدى الصديقات أن الأغنية المعنية مرتبطة بفترة الدراسة في بداية سبعينيات جامعة الخرطوم، مشيراً لفاطمة باعتبارها كمبدعة زميلة دراسة ورفيقة درب وشريكة انتماء واهتمامات وأحلام مشتركة، ومضى يقول في رسالته لتلك الصديقة التي سألته بشكل مباشر عن فاطمة كملهمة لعويناتك:ـ ( تظل فاطمة مصدر الهام ثر ومستدام فيما كتبت زمانئذ وما كتبته بعدئذ من قصائد!، مختصر القول أن فاطمة كانت في تلك الأغنية بيت القصيد، ولا أزيد)!. وهل نزيد نحن أيضاً؟!. وبافتراضنا لنسب القصيدة إلى الملهمة، وبغض النظر عن حقيقة المعلومة من عدمها، فلقد تغيرت الظروف الاجتماعية والأسرية بالنسبة للشاعر مبارك بشير الذي كتب الأغنية ولفاطمة السنوسي، كزميلة له في كلية الآداب بجامعة الخرطوم سبعينيات القرن الماضي، وقد جرت مياه كثيرة بين الجسور، ولا يمكننا بالطبع تناول الموضوع هكذا بطلاقة دون محاذير أخلاقية واجتماعية تدخل في أبواب الحذر!. قبعت أفكر في أبعاد المعلومة، وكيف يمكن للملهة نفسها تأكيدها في ظل الواقع المشربك اجتماعياً وأسرياً، وهل إن تم إجلاس كل منهما على مقعد للاعتراف، هل يمكننا أن نتحصل على إفادات تشفي غليل المهتمين والمتابعين، هل سينكر الشاعر، أم هل ستنفي فاطنة افتراضنا إلهامها للشاعر الولهان؟. لقد تصورت ـ في غمرة تفكيري العميق حول حقيقة المعلومة ـ محادثة جرت بين مبارك وفاطمة، ومن المفترض أنهما الوحيدان الملمان بصحة أو عدم صحة المعلومة، إلا أن صراحتهما مغلولة للأسباب المشار إليهما، ولكن تصوروا أو تخيلوا معي تلك المحادثة “المتخيلة” التي جرت بينهما في هذا الخصوص على النحو التالي:ـ هب أن فاطمة هي الملهمة وأن مبارك هو الشاعر الولهان!، فهل يمكن لفاطمة وهي تتناول معه حديثاً حول ( الأغنية والالهام) بعد أن كثر الحديث وإشارة السبابة نحوها بأنها الملهمة، هل يمكن لها أن تقول له :ـ أنكرني حتى تتفادى الحرج الاجتماعي والأخلاقي؟، فبماذا سيجيبها الشاعر الذي نعلم استقامته وصدقه مع نفسه وانتاجه الأدبي؟، هل سيرد بحزم على (ملهمته) بأنه لن يفعل مثل ذلك مطلقاً! ،، لن ينكر تاريخه حول مصادر قصائده في أوساط من حركن مشاعر الانسانية الصادقة فيه؟!، دعونا نلجأ لهذه المعالجة التي نتمنى على القارئ أن يجد فيها ما هو موضوعي لتبيان حرج الشاعر وملهمته أحياناً، ليتركونا في دوامات المعادل الموضوعي لما يجب أن يقال وما لا يقال!. كتب الراحل عن القصيدة يقول:ـ ( قصيدة حوار التي اشتهرت بـ “عويناتك” لم تكتب أساساً لتصبح عملًاً غنائياً، حاولت أن أبتكر شكلاً للحوار في بنية القصيدة، عبر مفردات جديدة وصور مكثفة للتعبير عن مدلولات درامية وعاطفية في نسق مختلف عن النمط السائد، عثر عليها محمد الأمين عند الشاعر عمر الدوش وحولها إلى عمل غنائي اكتمل تنفيذه نهائياً خلال عدة سنوات. جانب اللحن والموسيقى يُسأل عنه مع اختياره لقصيدة شاعر لم يُعرف عنه كتابة الغناء، لكنها فتحت باباً موارباً بعدها لكتابة شعر غناه مبدعون كبار، وردي، جيلاني الواثق وأحمد ربشة وعامر الجوهري وفي الطريق ـ ربما ـ عركي وعاصم البنا ونانسي عجاج)!. أياً كانت ملهمة الشاعر مبارك في قصيدته البديعة والتي كتبها وهو طالب يتقدمها في كلية الأداب بجامعة الخرطوم، فإننا نشير لها مرة أخرى كربة أسرة، متزوجة ولها ولد وبنت وتعيش الآن معهم في الولايات المتحدة الأمريكية. سألت الصديقة فاطنة أن تمدني بقصة لم تنشر لها ضمن أعمالها الابداعية في مجال القصة القصيرة جداً والتي أتحفت بها الوسط الثقافي والأدبي منتصف سبعينيات القرن الماضي وأدهشته، فبعثت لي بآخر ما كتبت ،، قلت لها بعد أن قرأتها:ـ (الله عليك يا فاطنة)!. (قصة قصيرة جداً تزوج أخرى دون علم الأولى ،، إلا أنهما اتفقتا ،، وداهمتاه في مكتبه الفاخر ،، وجدتا ثالثة، تضافرت الجهود وتناوشته النساء من كل جانب، علت الأصوات وارتفعت الحناجر وارتفعت كذلك الفردة اليمنى من كل الأحذية النسائية. ضاقت عليه الحلقة. جاء الفرج بدخول سكرتيرته الحسناء. هدأت النسوة حفاظاً على الخصوصية العائلية. أما السكرتيرة الناعمة في كل شيء فقد وضعت أمامه حزمة من الأوراق لتوقيعها ودست بينها ورقة تطالبه فيها بالطلاق .ثم وقفت تنتظر وهي بكامل حذائها)!. (إنتهت) *** أما فيما يتعلق بإبداع الشاعر المبدع الرقيق مبارك بشير، فأنا على علم أيضاً بآخر ما كتبه في هذا الخصوص:ـ (رسلت ليك كل التحايا الطيبة مرة في زاد المسافر مرة في القمر المساهر مرة في رجع الصدى ومرة في طول المدى وراضي عنك أرضي عني ما الزمان الجابني ليكي حرمني منك)!.
أقول ليها عويناتك شعر: مبارك بشير لحن وآداء الفنان: محمد الأمين *** أقول ليها عويناتك .. ترع لولي بحار ياقوت مناحات ريد حزاينية بغازل فيها مآساتي وفي شرف العبور ليها بموت واكسر شراعاتي آه عويناتك تقول لي غناك حزين و أنا الواهب قصايدي الباكية للفرحة !! و أنا البهديها شال ريدي و صباي .. طرحه آه عويناتك أقول ليها عويناتك زي سواد قدري كحيلة….عمري من بدري لو بقدر أسافر في بريق لحظك و ما أرجع تقول لي خايفاك بكرة تتوجع أقول ليها عويناتك ديار وعدي مسوّرة بجدار صمتك عذابي معاك بريدك قبل ما أعرفك و لو بقدر … أشيل من الزمن وقتي بموت في لحظة و أوهب ليك عقاب عمري عويناتك . ـــــــــــــــــــــــــــ * ضمن “ملهمات ، الجزء الثاني، تقديم الباحثة الموسيقية أروى الربيع”، قريباً.