لا أعرف شعراً غرد في سرب ثورة أكتوبر في خطر شعر صلاح أحمد إبراهيم في ديوانه “غضبة الهبباي”. فُتنت بالديوان حين اطلعت عليه لأنه محض عشق للشعب والثورة بمصطلح شعري سوداني استثنائي. وعرضته على صفحة الأدب التي كنت أحررها بجريدة الميدان، لسان حال الحزب الشيوعي. وسبق لي الكتابة عن كيف احتملوا مني المقال الأول فنشروه عن شاعر لم يغادر حزبهم بضجة فحسب، بل هجا أيضاً أستاذنا عبد الخالق محجوب، زعيم الحزب المهاب، وعمر مصطفى المكي، رئيس تحرير جريدة الميدان نفسها، هجاء بليغاً مراً في الديوان نفسه. فأوقفت الميدان النشر.
ولم أسقم في عزة الكاتب بل صبرت على الأذى في عزة الناشط. وحملت شكواي إلى أستاذنا عبد الخالق في مكتبه بدار الحزب قبالة نادي العمال بالخرطوم. وتقطر الرجل نبلاً أحكيه فيما بعد. وعاودت الميدان نشر المقالات مشفوعة بمذكرة عن الحزب والإبداع من المكتب السياسي للحزب هي من وضع استاذنا لا محالة.
وأنشر هنا في ذكرى هذه المقالات عن “غضبة الهبباي” من مخطوطتها الأولى التي احتفظت بها نحو 58 عاماً أثرت على قوامها حتى يتسنى لي الحصول على المنشور منها من دار الوثائق.
جاء في “طبقات ود ضيف الله” أن إسماعيل بن الشيخ مكي الدقلاشي الفقيه الشاعر “إذا ركب تحوشه الفقرا شايلين النشاب. الفرس ما بتنشاف من كثرتهم شايلين التهاليل بالنغمات الحسنة. وناس البلد والصادر والوارد والنسا والرجال شايلين معاهم التهليل على نغمتهم. ودخل على الملك سليمان ود دكين قال له (أي الملك للدقلاشي) أنت لحنت في شعرك الفلاني. قال له الشيطان قاعد فوق راسك أخبرك بذلك. قال نقتله. أعمامه قالوا لا. لا نقتل ولد شيخنا غرقان وسكران وبطران دمه يخربنا. شكاه على الفقيه محمد ولد نوفلي قال أنا ما بقدرو حافظ الكتاب وشايلو الشباب”.
وصلاح في “غضبة الهبباي” استمرار لهذا الإرث من الغرق والسكر والبطر وحفظ الكتاب وشيلان الكتاب. في قرارة صلاح يستقر هذا التقليد من البطر والانصراف عن ذوي الجاه والتنابلة. ذلكم التقليد الذي انحدر إلينا منذ طفولة الشعر في بلادنا.
كانت سنوات حكم النعل في بلادنا تجربة غنية وبحق حيث انقسم الشعراء إلى كومين: كوم تهتك بالشعر وكان كغواشي النمل والخشاش التي ذكرها ابن خلدون التي تزدحم على بيوت أهل النعمة والثروة والموائد الخصبة حيث يكثر بساحتها وأفنيتها الحبوب وسواقط الفتات فتروح بطاناً وتمتلئ شبعاً وريا. وكوم آخر آثر الشعب بشعره فكان طيراً يحلق على بيوت أهل الخصاصة والفقراء الكاسدة أرزاقهم على غير ما جاء في مقدمة ابن خلدون. وجدت طغمة العملاء والهمباتة من يقول عن قطب لها (عبود) “إنه سيف البلاد”. ومن يمدح زعيمها فيقول:
عشتم بني وطني وعاش زعيمنا عبود ممدوحاً بكل لسان
ووجدت من صلاح وصحبه من يقول له (للزعيم) إن “الشيطان قاعد فوق راسك”. ومن يقول لأهل بلاده:
ولقد أصاب صلاح عن الحياة التي عشعشت في بلادنا لست سنوات خلت ما أصاب كل الذين اولوا وجوههم شطر الشعب. أصيب كشاعر بالمهانة إزاء سيف الإرهاب. هتف صلاح ذات مرة في 1961 حين سئل عن قضية الشعر السوداني: “آه من الأسن. قتلني الركود” لأن “ذباب عنترة الأمدرماني يحك ذراعه بذراعه ثملاً كفعل الشارب المترنم. فكيف لنا أن نفكر وأن نكتب، وأن نصوغ أرفع العواطف شعراً”. ويحز في نفسه أن قصيدتيه “أوديب ملكاً” و”بين النيل والكنغو” لم تصل القراء لأنه يخاف: “أجل لأنني أخاف. هذا بينما حذفت جريدة “الراي العام” بضعة شطرات من قصيدتي “باتريس لوممبا” التي نشرتها دون استشارتي. لأنها تخاف”. (وتعقبه النظام” كإنسان يسعى لتأمين لقيمات يقمن أوده بالملاحقة. فحُرم من العمل بالسلك الدبلوماسي بعد قصيدته “كلمات وكلمات” التي احتج فيها باسم عواطف التضامن في شعبنا لقطع طريق العون في وجه لوممبا. واشترك في هذه المطاردة صاحب مجلة “الصباح الجديد” (حسين عثمان منصور) الذي جدد النقاش حول علاقة صلاح بالحزب الشيوعي السوداني. وراح يخاطبه باسمه التنظيمي الحزبي القديم في خسة ولؤم لينبه الغافلين خدمة منه لوجه التقرب من عتبات اولي الأمر.
واقتحم صلاح الغربة (في غانا) ليكتب “غضبة الهبباي” وفيه أثر من مكي الدقلاشي الشيء الكثير. فصلاح “تغيان في شعره بالشعب، ممتلئ بصوته وبتطلعه، مكتئب لحزنه، بطران بنضاله، سكران بانتصاره، حافظ الكتاب، وشايلو الشباب.
ونفرد المقال القادم لتناول قضايا التقدم والشعب في شعر صلاح.