ابتعدنا عن العمران بفراسخ و أميال عددا، ثم تلاشينا في الرهج غير عامدين، وثالثنا كلبنا، يتقدمنا تارة، يتقافز من حولنا مختلط الأحاسيس تارات، يتأخر عنا حتي نغيب عن دائرة شمه، فلا يلبث أن يلحق بنا يهز ذيله دونما شرح. الأرض منبسطة في الجهات الأربع، ساكنة الى دحوها، تكاد تخلو من حياة، سوى تردد أنفاسنا، و عشب غير متقارب يتناثر فيها مثل شعب من الفرقاء، فاجأني الحلم، و كيف أحلم و (زينف) لا تبرح خاطري، تتغذى من أثمار عثراتي ووحشتي، هذه الصحراء تشبه صحراء خلفتها ورائي غير اسف عليها، معمورة بالناس و الخلائق، و العمائر و الطرقات التي تدور حول محاور من عواطفنا، جوعي الى التلفاز و ضابطه النائي، وسيل الإحباط لا ينفك يمسك بخناق القصص و الأنباء التي يرويها، و (زينف) تركتها تنتحب في صمت لمرأى الأطفال الجوعي، و النساء اللواتي يضعن حملهن كل ساعة يلدن جنود القيصر، ثم يتهيأن لانتهاكهن مرة ثانية، حتى وقت قريب كانو صبية يحلمون بعالم سعيد تسوره الأناشيد المدرسية، و فسحة الفطور، عالم يتسيده رجال حادبين على سلامة قشرة الأرض التي تقيها من شرور الأوزون، سذجاً حتي يتولى زمام العناية بهم التلفاز، و نجوم السينما، و أنبياء الغناء و الشعراء الذين يمشون في الأرض هونا، يبشرون ببعث فضائل الملكية الفكرية، تتقمصهم فكاهة الحيوانات الناطقة في افلام ثلاثية الأبعاد أجناس ثالثة، يتزيا رجالها بأزياء الناس و نسائها بأزياء الصبية، و في أركان شاشات الالعاب الألكترونية، يقضي القتلة سحابة النهار و بعض من الليل، و سفاكي الأغذية المعلبة، و الأطعمة المتبلة بالكيمياء، و الكلب سعيد بالمدى الرحب، يبحث دون ملل عن دار وحيد ابتناه سلفادور دالي، ليصبح مرجعية للنظرو تسلية للفراغ ومعايير التلاشي، يتبول عليه قبل أن ينتفي وجوده اللامعقول. هذه الأرض المرحاض، تفرقنا فيها كل وراء عشبة، نقضي حوائجنا، نتجاذب أطراف حديث مثل غطاء بالِ، نهدر به كنهر من هلام يجري دون هدف، يخطئ في مقاصده، و يتبدل في أحايين كثيرة، يحور إلى درب لبانة لا يلبث أن يتبدد في ضوء النجم.
أيام قليلات تبقت للعيد، و أنا أحلم بالحذاء القماشي الأزرق ذو العنق الطويلة، و على جانبيه قطعتين مستديرتين من المطاط الأبيض، تقعان في مكان النتوء العظمي الذي يوصف بعظم الشيطان، أو هكذا سمعت، مشينا نبحث عن زوج بمقياس قدمي الصغيرة، فلم نجد غير الزوج الأيمن، لبسته و مشيت أبحث عن الأيسر، أعرج متوغلاً في هرم الأحذية المكومة في ماعون حديدي ضخم، و ضوضاء و جلبة يذكر فيها إسم الله كثيراً، وضعت يمنى و يمنى، فلم يتسق المنظر، مشيت و اليسرى حافية، نصف حاف، نصف سعيد، نهاري نصف غائم، وتبدى لى العالم نصف مظلم، نصف مضئ، ومن تلك اللحظة وأنا اجد في الإنتساب إلى أي تنظيم يلبس زياُ موحداً، علني احظي بملاقاة الزوح الأيسر حسب مقاس قدمي.
هذه الرمال المنبسطة، و التتي تتشكل في أحاييين قباباً صارمة الملامح، متصلة أقدارها باقدار الرياح الشمالية، لا أحد يقترب منا هنا، و لكن خصوصيتنا منتهكة، ينتهكها كل ثانية، قمر صناعي يربض من على فوقنا تماماً، دون حياء، يتنصت كلام أهل الدنيا طراً، النساء و الرجال، و الأقوام في ارتجالهم حميمية إلكترونية يائسة، وفي درجة القطار الرابعة ضاجع المسافر إمرأة في الظلمة المتحركة المنفصلة عن ظلمة الكون الواسع من حولها، في الركن الذي ينتصب فيه زير الأسمنت الحكومي و رائحة مائه الكريهة، تسرب غنجها الى حيث يرقد بقية الركاب تطأ أنفاسهم أنفاسهم، و أحلامهم أحلامهم، و أمانٍ متسارعة منفصلة عن فراغ الأمنيات التي تغلف الكون من حولهم، صرعى للإجهاد و تأرجح المركبات و عطنها الحكومي، إنكسر غطاء الزير الخشبي من عنف المقاربة، فأفلتت المرأة صرخة تحملها شياطينها، و أطلقت القاطرة صافرتها متحشرجة عرجاء عمياء إن شئت الدقة في الوصف.
أدركنا قلب المتاهة في ظهر اليوم الثاني، أنخنا ركائب النار و استوينا على اثير من الرمال التي تتحرك كالموج دون استئذان، و تنحسر عن شط السماء دونما إنذار، ساعة سعدنا فيها بالحرية في أخص خصائصها، و قامت ( زينف) تعد الشاي في خاطري، تغني دونما حسبان لرقابة ذوي اللحى الذين يسكنون قمم الجبال من حولنا، لم يرن جرس هاتف، لا ولا سمعنا صوت صافرات الإسعاف و أبواق نذير موت الحرائق، و للماء مذاق غير ما عهدنا في الزيرالصلد اللأسمنتي الحكومي، وحدنا صمت الخلاء، حتي سمعنا صوته يقل: من تري فيكم سيبعث رسولا؟ يقتل الناس بسيف حكمته و يفتح للصابرين سبيلا؟. طأطانا رؤوسنا، تواضعا كذبا، و الكلب ينظرنا من موقعه متعجباً، ابتسمت في مقابل نظراته الصافية و فيض من الالوهة يغمرني، و شعور بالثقة اللانهائية، بأنني سأكون صانع الحاسوب الأسرع في تاريخ البشر بمجمله، ابتسمت، فابتسم الكلب و كأنه يقرأ أفكاري.
تلك الليلة اضطجعنا دون اتفاق و قصد ولا نوايا مبيتة، على جنوبنا اليمنى، و نسينا في غمرة النعاس أن نشبح سيقاننا نضع عايها العصا حتي لا تبتلعنا الأصلة الخرافية التي تعيش في الوادي، فنسج العنكبوت خيوطه حول مخالب الحدأة حتي لا تنبئ عنا، فنمنا في سلام.
اضطجعنا و نجمة القطب ترقبنا، لا أدري ما الذي أتى بها إلى جهنم الربع، سعدنا برفقتها، و الأفاعي و الحيات و نمل السكر، و غناء الجندب، و جداول في السحب تجري فيها مياه القمر، يا (زينف) الهتون، ما يدريك لعلني ازكي أو اتذكر فتنفعني الذكرى، يا لجهمة الأسواق المنارة المنيرة الكبيرة، يدحرج صوبها الفقراء أجسادهم المضيئة بالتعب، يكتبون اسماء أحبتهم بأصابعهم على كثافة البخر الذي يحتقن في نوافذها الزجاجية العملاقة، بحبر أحمر، يخرج من شفق الروح وإلى مغربها يعود مثل ظن أثيم.
عشقت الأزياء الموحدة، حين لم أجد زوجاً لحذائي، فانتسبت إلى الجيش، حتى أصابتني شظية، مكنت في جسدي الأرق و الهلاويس و الكوابيس، ثلاثة أعوام تنزهت فيها في شعب الموت المرجانية، خرجت بعدها إلى رحبة الطريق صفر اليدين من الأوسمة، وعلى أذني شمع يحجب عني سماع أهازيج النصر، هائماً في الطرقات منسربا من اللعنة مثل ملك من ملائكة بابل، لا أملك غيرك يا (زينف) تبيعين الشاي و السجائر دون أن تتحققي من هويات التلاميذ، بجانب حائط المستشفى، و تبذلين قنابلك الموقوتة لطالبيها، ثم تخلدين إلى أطلال نومك في العشيات، حتى يطل عليك نهار جديد ممعن في القسوة و الشقوة و أشد عزماً من سابقه.
صنعتِ لنا الشاي في الصباح الباكر و صاحبي، تمطى يحلم برسوليته دون خوف، يلسع ساقيك بشواظ نظراته، فتماديت أنا في ادعاء غفلتي عن نواياه، وقلت لنفسي وهي في سورة شكها، إن قتلته فأنك ستقطع الصحراء دون رفيق غير كلبك الأعجمي، و (زينف) ستسد الباب في وجهك، و سيجد في طلبك قومه من (الزماليق) و سيظفرون بك، و أنهم لامحالة قاتليك، هنالك في الشِعب الذي دون سلعٍ، حدثتك يا (زينف) فقلت صديه عنك حتى لا أبوء بوزره، تدللت و تمنعتي و عصفتي مثل ريح صرصر برمال غيرتي، حتى إذا أجهدني السعي في صد رغبتي في التشفي، نحوت إلى بئرٍ من حمأ، جثوت على أربع، على مرقد من الشوك، و مرغت وجهي في الطين، حتى تناهى إلى سمعي صوت صافرة القطار العمياء العرجاء حين تحريت الدقة في وصفها، و غطاء الزير ينفلق بفعل الأرحجة مرعداً، غابت الصافرة مثلما انبعث اأشقاها، فاعتدلت من انكفائي وقد سلحت الغربان على ظهري، قصدت رفيقي، فقتلته.
ثورة العازفين:
في الليلة التي سبقت المهرجان، تمرد العازفين على المغني، خلا المسرح إلا من خيال الفنان، وحيداً يتلفت يمينا و يسارا في حيرة، و المقاعد من خلفه خالية، قال لهم: ألم أجزل لكم العطاء؟ وما أنتم دوني وغير أغنياتي؟، قالوا: أجزلت العطاء، ونحن نجعل من غناءك حقيقة، و أنت تذهب بكل النساء إلى خيمتك، و الهالة التي تحيط بالنجم تتبعك و لا تتبعنا. ثم تفرقوا في شعاب الصحراء، كل يجرب الشدو وحده، و لما لم تكن لأي منهم إمرأة يغني لها، عادوا كالشحاذين يستجدونه و اقواسهم منكسرة، هتفوا به:العطف، العطف، و لكنه كان يتقدم عازفين جدد، وجيل جديد، و نساء جديدات، و غناء جديد، وكنت اتبعه ولم أتبع اي من العازفين المتمردين، فقد كنت قد مللتهم يا (زينف)، مثلما مللت صديقي يستلذ على مرأى مني بمشهد ساقيك العاريين، عدت فوجدته ملقياً على ظهره، و الحدأة مقيدة الساقين بخيوط العنكبوت ترقبه في مذلة، نظرته ووجهه لا يزال في نداوته وصدق صباه، صحت به: قم، فالنساء غيرها كثيرات، انتفض واقفاً على ساقيه، هب من رقدته رافعاً يديه حتى طال السحاب، ضحك كعادته وقال: ابشرفتلك معجزة نبوءتك.
ذهبنا سوياً إلى المهرجان، حملتك يا زينف على كتفي حتى تشهدين رقص الحبوش، جلسنا نستمع إلى المغني في ثوبه الجديد، و كان غناءه مثل فجر خلاص، يخرج مثل حلق الدخان من تبغي االملفوف بعناية في ورق البردي، مصمغ بصماغ رحيق الدفلي و سم الأفاعي، نفث منه العازفين و المغني، حتي مادت الأرض من تحت أقدامهم، و أدركنا الفجر و نحن على أعتاب تمبكتو، أفاق الناس و المغني يدعوهم الى رسالتي أفواجا.