كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل، كان خلف الصبر والأحزان يحيا صامداً، منتظراً، حتى إذا الصبح أطل، أشعل التاريخ ناراً واشتعل. رحم الله الشاعر والموسيقار الهرم النوبي الكبير محمد وردي، أن خلّدا الملحمة الأكتوبرية في الذاكرة الوطنية تخليداً يليق بعرس تلك الثورة الأم، فلو كانت هنالك من عبرة تستلهمها الأجيال الحاضرة من أكتوبر الأخضر، فهي تلك الحقيقة الراكزة في الوجدان الجمعي الرافضة لصلف الجبروت العسكري، فالثورة الخضراء انطلقت لهباً مشتعلاً وغضباً صارخاً كافراً بحكم الفرد، كيف لا والرعيل الأول من خريجي المدرسة الديمقراطية الوطنية الأولى كانوا أبطالاً لهبّتها التي أجهزت على الدكتاتورية الأولى، فبذرت بذرة شجرة الصمود والتحدي المزروعة في تربة ثورة أسياف العشر، قبل قرن ونيف، هذا هو التواصل الجيلي والتواصي الإنساني عبر الحقب والدهور، فأينما وجدت الهتافات الشامخة والأنفس الناهضة والمستنهضة للهمم، وجد الباحثون المرجعية التاريخية والفلكلورية الحافظة لهذا الموروث الثوري العتيق، القادم من عمق سنين الماضي البعيد، الغائص في بعيد السرديات القديمة المتجددة، فهكذا يكون المدد المسعف لحاضر النكبات المؤقتة المرهونة بإزالة العقبة التي وضعها أعداء الحرية والسلام والعدالة، إنّها ثورة الأجيال المتعاقبة المؤمنة بمبدأ الانعتاق.
أكتوبر الأخضر يعانق ديسمبر الأحمر احمرار الجمر، القوي كالفولاذ والباقي كالسنديان، العميق كحب هذا الجيل (الراكب راس) الوحشي للوطن، فهؤلاء الدراويش الصغار المتدثرين بالمتواضع من الثياب، هم أحفاد تلك النسور الجارحة والأسود الفاتكة التي سالت دمائها بين تشققات صخور شمال أم درمان، فالطغاة الذين تقذف بهم الأقدار إلى مواجهة هؤلاء الصغار يكون أمامهم واحد من خيارين، إما الهرب أو الدوس، فلقد أعادها تاريخ هذه الأمة مرات ومرات، قديماً وحديثاً، وهذه الصدامات الراكزة وجولات الفر والكر العنيدة، لا تتأتى إلّا لمن له طويل باع في خوض غمار الوغى منذ ذلك الزمان الضارب في القدم، إنّهم ورثة شهامة العصور البعيدة، الذين لا تخبو نار قدرهم ولا يخفى دخان بارود سلاحهم الثوري، إنّها نفوس جبلت على العز والعيش الكريم، لن ترضى بما دون النجوم، في طريق نضالها من أجل تحقيق الشرف المروم، فقل للمزايدين والمساومين والسماسرة لن تصلوا لمبتغاكم الخائن، فالبلاد لها سجل حافل في تلقين العملاء والمرتزقة الدروس التي تليق بجرائمهم، فعلى المساومين أن يحجزوا مقعدهم بين صفوف نار ديسمبر المجيد سليل أمجاد أكتوبر التليد، فاليوم قد أكمل الثوار ثورتهم وأتمموا للشعب السوداني رغبته وارتضوا وباركوا له ثورته المجيدة.
دشن المقاومون الثوريون بالحارات والأحياء حراكهم الأكتوبري، وكثّفوا جهودهم من أجل إسقاط إنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر من العام الذي سلف، مستبشرين نصراً عاجلاً غير آجل، إنهاءً حاسماً لخطيئة تغول الجيش على سلطة الشعب، بإيمان وصبر وجلد لا يلينان، فالتعايش مع الطغيان من الاستحالة بمكان، بحيث أنه دفع الكبار والصغار للخروج في مواكب عظيمة جابت طرقات العاصمة المركزية وعواصم الولايات، تكاتفاً وتعاضداً ساعياً نحو وضع حد لمهزلة العسكر وأعوانهم المساومين والمزايدين في دماء الشهداء، المعتمدين على الحلول الوسطى في قضايا مصيرية لا تحتمل أنصاف الحلول، فالشعار المرفوع بأيدي أمهات الأبطال الأشاوس الذين قضوا بميادين الأحياء والحارات يقول:(الدم بالدم لا نقبل الديّة)، فالأمر متعلق بالذمة، ولن يحصل أي إنقلابي على صك غفران أو إبراء ذمة إلّا بعد وصوله لقاعة المحكمة النزيهة الخالية من تأثير الغرض، ثم محاكمته، حينها يمكن أن يتأهب الناس لاستئناف طريق المليون خطوة الموصل لبناء دولة القانون، بغير ذلك سوف تستمر الحشود الثورية وتتضاعف الالتفافات الجماهيرية حول رقاب الانقلابيين، ومعاونيهم من المرابين البائعين لبقرة الوطن الحلوب بأبخس الأثمان، ولا يسترخص دم الشهيد إلّا الطغيان المديد والتجبر السياسي الشديد.
اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com