المقارنة بين أوضاع الشعوب وقيادات الدول المتقدمة سياسيا واقتصاديا وتلك المتخلفة في هذا المجال أو ذاك باتت ضرورة من ضرورات العصر، ومفتاحا للتعلم من الأحداث ولارتياد آفاق العصر.
تبايبن المناخ السياسي والأنظمة باختلاف أنواعها والتاريخ والقيم والتقاليد لا يحول دون التعلم من الدروس .
هاهو الحدث البريطاني يفرض نفسه بقوة اليوم (٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢) وعشية مرور عام على انقلاب الفريقين البرهان وحميدتي في السودان الذي يصادف ٢٥ أكتوبر.
هاهي بريطانيا تقدم درسا جديدا بانتخاب ريشي سوناك زعيما لحزب المحافظين ورئيسا للوزراء.
انتخاب حزب المحافظين زعيما ورئيسا للحكومة للمرة الأولى من خلفية وأصول آسيوية(هندي) يقدم درسا للانقلابيين في السودان الذين استولوا على السلطة بقوة البندقية، وهي رسالة تؤكد أن خصائص النظام السياسي العصري تعد من شروط النهضة والبناء الشامل الذي يضع الانسان وحقوقه في صدارة الاهتمامات .
لندن تقدم أيضا درسا لمن دعموا الانقلاب بمختلف الأساليب ، ودرسا لمن أشعلوا ويشعلون نيران الصراع القبلي والحرب الدموية في النيل الأزرق ودارفور وكردفان وغيرها، لعل يقظة ووعيا يسيطر على التفكير ليدركوا اننا نعيش في عصر المواطنة والتعايش ،والعيش الكريم لكل الناس والحقوق المتساوية للبشر ، التي تصونها القوانين وتحميها الحكومات .
صحيح أن بريطانيا تعاني من مشكلات عدة حاليا وخصوصا اقتصادية، لكنها بكل المقاييس لا تقارن مهما بلغت حدتها بأزمات السودان، اذ لا تصح المقارنة بين أوضاع مواطنيها وما يتلقونه من خدمات ويتوافر لهم من حقوق ، وحال انساننا السوداني المطحون بقهر حكامه وظروفه المعيشية والانسانية .
في لندن درج حزبها الحاكم حاليا (حزب المحافظين) على اطاحة زعمائه ورؤساء الحكومات واجبارهم على الرحيل ديمقراطيا حينما يطرق الزعيم أو الزعيمة أبواب الفشل ، وتشتد عليه أو عليها ضغوط البرلمان.
هذا أيضا درس لأحزابنا كي تعيد البناء وتمارس اصلاح حالها،وقد تناولت قضية الاصلاح في مقالات عدة – لتنتقل القوى السياسية السودانية الى مستوى تشكيل مؤسسات قادرة على ازاحة قادتها المنتخبين كما يفعل البريطانيون.
البريطانيون يصححون سياسات وممارسات قادتهم اذا ارتكب هذا الزعيم أو تلك الزعيمة أخطاء تهدد استقرار البلد أو وحدة الحزب أو ساهمت سياسات خاطئة في تعزيز شعبية حزب العمال المعارض الذي تؤكد استطلاعات الرأي أن شعبيته في ازدياد حاليا.
في حال أجريت انتخابات قريبا سيتصدر ( العمال ) المشهد ،وكتبت مقالا فور فوز السير/ كير ستارمر بزعامة حزب العمال في ٤ أبريل ٢٠٢٠ وقلت ان قيادته ستشكل تحديا كبيرا للمحافظين.
المقال جاء تحت عنوان (رسالة جديدة وفرصة للتعلم ..كير ستارمر زعيما لحزب العمال البريطاني) ورأيت أن الديمقراطية البريطانية تتعزز بالانتخابات الحزبية في بلد يعد قلعة من قلاع الحرية والعدالة في العالم .
دعوت في المقال أحزاب السودان الى قراءة المشهد في سبيل اصلاح حالها وفتح فرص القيادة للشباب من الجنسين ،وقلت أن الحكومات كالشعوب تتعلم اذا أرادت أن تواكب روح العصر.
هذا كله يعني أن لا بديل لمناخ الحريات والديمقراطية والمؤسسية والنظام السياسي المواكب لمقتضيات وضرورات عصر الفضاء المفتوح، بانجازاته وروائعه ومآسيه.
هذا معناه أيضا أن أي مغامرة انقلابية كانقلاب البرهان- حميدتي هي فعل خارج دائرة العصر ومصيره الفشل ،وكنت كتبت مقالا بهذا المعنى، بعد مقالين نشرا في يوم الانقلاب، وكان مقالي عن فشل الانقلاب بتاريخ ٢٩ أكتوبر ٢٠٢١ وعنوانه ( الانقلابيون نحو سقوط ) .
واذا كان الفريق حميدتي أكثر وضوحا بشأن تأكيده فشل الانقلاب فان الفريق البرهان وهو قائد الانقلاب بحكم موقعه ما زال يلعب بورقة ما يسميه ضرورة توافق( القوى السياسية) كي يتم تشكيل الحكومة المدنية وهو في الوقت نفسه يمسك بكل مفاصل السلطة وينسف باستمرار كل انجازات ثورة الشعب السلمية التي انتصرت في العام ٢٠١٩.
وحدة (قوى الثورة والتغيير) ضرورة لاطاحة الانقلاب واستعادة الديمقراطية و لكن كلام البرهان عن توافق المدنيين هو أشبه بشماعة لتبرير الاستمرار في تجربة انتحارية فاشلة ومدمرة للسودان والسودانيين ، ومن الأفضل أن يصدر بيانا يعترف فيه بفشل ما يسميه ب(تصحيح المسار)أو ما يسميه بعض داعمي الانقلاب في سياق التهرب من الحقائق ب(فض الشراكة) بين العسكريين والمدنيين .
الضمير الوطني يدعو البرهان الى الانسحاب من الحياة السياسية تماما لا الركون الى المناورات التي لن تفيده ولن تكسبه شرعية لا داخليا ولا خارجيا، ولعل فشل الرئيس السابق المعزول عمر البشير في اكتساب الشرعية محليا ودوليا يشكل أكبر الدروس .
الدولة المدنية شرط لاستقرار البلد ، و من دون أدنى شك تلعب المؤسسة العسكرية في الدولة المدنية دورا كبيرا، بحفظ أمن المواطن والوطن،وهو دور عظيم وجليل لا يقوى عليه المدنيون. اذ يزود العسكريون عن حياض السودان وكرامة الناس لا قهرهم .
النظام الديمقراطي خيار سوداني يفرضه الواقع وقناعات معظم السودانيين ، ومن دونه لن يحقق الاستقرار والتنمية والتعاون مع دول العالم، وفي غيابه سيستمر الحصار الدولي الحالي والمقاطعة الاقتصادية والسياسية وسيدفع الانقلابيون ثمن العزلة كما هو الحال الآن وقبلهم يدفع ثمن المعاناة انسان السودان .
خلاصة الرأي أن لا شيء يمكن أن يحجب ضوء الشمس، في ظل هذا النبض الشبابي المبدع المتميز بسلمية (لجان المقاومة) و الحراك الشعبي والوطني السوداني الثائر منذ عام في شوارع مدن العاصمة المثلثة (الخرطوم، الخرطوم بحري، وأم درمان)
هذا النبض يرفض حياة الذل والقمع ويتوق ويسعى عمليا الى صناعة الغد المشرق الوضاء اليوم أو غدا ، و سينتصر مجددا شعب السودان لحريته وكرامته والعيش الكريم، بحراكه السلمي الباهر.
هكذا قال وسيقول تاريخ السودانيين للعالم .
لندن ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢