تمـر علينا الذكرى الأولى لانقلاب 25 أكتوبر وسط تطـورات دراماتيكية عديدة في المشهد السوداني تنذر بضياع الدولة نفسها. فقد قّوض الإنقلاب الوثيقة الدستورية ومكاسب الثورة والانتقال، وقضى على مظاهر الحياة المدنية والسياسية، وفرض واقعاً أحادياً يتسم بالقمع والترهيب والتضييق على الحريات وانتهاك حقوق الإنسان، وأعاد مظاهر النظام المباد، وزرع الفتن الاجتماعية، وأضرم النار في كل ربوع الوطن، بعد مرور عام الانقلاب يترنـح وفي أنفاسه الأخيـرة.
عّمد الانقلابيون على خنق الفترة الانتقالية بالأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وعرقل عمليات التحوّل الديمقراطى بالالتفاف على قيام المجلس التشريعي، وتعطيل العدالة ومؤسساتها، وخلق مناخ استلام السلطة بمحاولة انقلابية فاشلة في سبتمبر لوضع شماعة عُلقت عليها أسباب الفشل، وابتداع اعتصام القصر الرئاسي (اعتصـام الموز) للضغط على الحكومة الانتقالية ولتمرير خطة الانقلاب بدعم سخي من قبل قوى اختطاف الثورة والثورة المضادة والتي تتحمل تبعيات إجهاض الديمقراطية سياسياً وأخلاقياً وقانونياً، وادخال البلاد في دوامة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والإنسانية بصورة غير مسبوقة، والانقضاض على حلم الشعب السوداني في الحرية والعدالة والسلام والديمقراطية.
بّـرر الانقلابيون فعلتهم الانقلابية هذه – كسائر الانقلابات – أنهم جاؤوا لحماية الأمن القومي والاستقرار ووقف التدهور الاقتصادي وإنهاء التشاكس السياسي والحفاظ على السيادة الوطنية، لكنهم حققوا عكس ما أعلنوا عنه تماماً، فقد بلغ الاستقطاب السياسي مرحلة ما بعد انسداد الأفق، ووصلت البلاد درجة من الهشاشة وتأكل بنيتها الهيكلية مرحلة اللادولة، وتدهور السلم الاجتماعي والتعايش السلمي نتيجة للمواجهات القبلية والجهوية والعنصرية مع صعود المجموعات الراديكالية المتطرفة التي تنذر باللا عـودة، وتوقفت حياة الناس بفعل الإنهيار الاقتصادي والمعيشي وتفشي الفساد المالي والإداري، فقل أن تجد عاقل يدافع عن الإنقلاب من داخل معسكر الانقلابيين أنفسهم بل اقبلوا بعضهم على بعض يتلاومون.
خّـرج الشعب السوداني الي الشارع ضد الانقلاب من يومه الأول وحتى الآن في مقاومة باسلة دفع ثمنها ارتال من الشهداء والجرحى والمعتقلين والمفقودين ومازال يواصل مقاومته ونضاله رافضاً للانقلاب متمسكاً بالحكم المدني الديمقراطي، وفُرضت على الإنقلاب عُزلة داخلية وخارجية فلا نصير له عدا قوى الردة السياسية أو من شذوا عن دعم مطالب الشعب السوداني في الحرية والعدالة والديمقراطية.
تراجـع الانقلاب كثيراً عن القرارات الانقلابية التي أعلنها في بيانه الأول، وأطلق شعارات التوافق السياسي لكي تعصمه من السخط الشعبي والحراك الثوري، واستخدم عدة حيل وتكتيكات لإطالة عمره، وأتخذ فزاعة الفوضى كبديل حكمه القهري، ولكن كلها لم تجدي فتيلا بعد فقدانه مقومات البقاء، وقد أصبح عاجز تماماً عن إدارة البلاد وتصريف الأعمال في كل المجالات، وبذلك استنفذ أغراضه، وفقد حلفائه حتى الانتهازيين منهم، فليس أمامه خيار سوى مواصلة العنف والقهر والبقاء في السلطة على أنقاض الدولة، أو تسليم السلطة للمدنيين والعودة للثكنات.
هذه التطورات الدراماتيكية تؤكد حقيقة أن السودان ودع الانقلابات والي الأبد وبلا رجعة، وأن لا مستقبل لحكم الفرد والعسكر مهما كانت مسوغاته، وأن لا مناص من الحكم المدني الديمقراطي وإبعاد العسكريين من السياسة والحكم، وأن السلطة سلطة شعب يمارسها ديمقراطياً، والحقيقة الثانية أنه متى ما توحدت أرادة الشعب فإنه على موعد مع النصر القريب، فمهما بلغت التحديات، ومهما تدثر الانقلاب بتماسكه ووحدته فإنه الي زوال، وسيرحـل، وسيشيع إلى مثواه الأخير، وأن الثـورة السودانية بالغة أمرها فهي إشارة وبشارة، إشارة بأنها مازالت حية وحاضرة رغم تطاول سنين الطغيان، وبشارة بأنها تخاطب المستقبل الواعد في وطن خير ديمقراطي.