مقدمة: هذه ترجمة لشذرات من التقارير التي كان يرسلها السفير البريطاني بالخرطوم إيان اسكوت (Ian Scott) لوزارة الخارجية في بلاده في النصف الأول من الستينيات، وقد وردت تلك الشذرات في كتاب بعنوان: Civil Uprisings in Modern Sudan: The Khartoum Springs of 1964 and 1985 الانتفاضتان المدنيتان في السودان الحديث: “ربيعا الخرطوم عامي 1964 و1985م”، بقلم ويلو بيريدج، التي تعمل أستاذة للتاريخ في جامعة نيوكاسل البريطانية.
وقد ذكرت المؤلفة المصدر الذي جلبت منه تلك التقارير التي أرسلت لوزارة الخارجية البريطانية بأرقامها مثل: (FO 371/173183). ويمكن الاطلاع على سيرة ذلك السفير فيما ورد عنه بموسوعة الويكيبديا في هذا الرابط (https://tinyurl.com/sj9tm2b4)
المترجم.
- كان السفير البريطاني إيان اسكوت قد أكد في غضون عامي 1961 و1962م بأن نظام عبود كان قد غدا أكثر رسوخاً وأشد قوةً بالمقارنة مع وضعه في سنواته الأولى. وكتب في تقريره السنوي لعام 1962 (الموجه لوزارة الخارجية البريطانية) ما نصه:
“لا يمكن لأحد أن يتنبأ باستقرار وثبات النظام الذي أتى للحكم بانقلاب عسكري … ومع ذلك، لا أستطيع أن أرى أي تهديد يمكن أن يطيح بالنظام الحالي وبوضع قائده في الحكم، إلا إذا حدث انشقاق بين أفراد القيادة العسكرية العليا أنفسهم … ولا أرى أي بوادر لأي اضطراب أو خيانة في أوساط صغار ضباط الجيش؛ بل بالعكس، تبدو الروح المعنوية والثقة في النفس عالية عندهم”.
لم يكن السفير اسكوت يؤمن بأن المعارضة السياسية المدنية بقادرة على تشكيل أي تهديد حقيقي لعزيمة وإصرار عبود وبقية أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. وأشار إلى وجود “سياسي ساخط”، ذكر له أن “كل عناصر فطيرة الثورة (revolutionary pie) موجودة”، بيد أن تلك الفطيرة “ما تزال لم تنضج بعدHalf -baked ، ولن ترتفع”. وبالإضافة لذلك، لم يكن السفير يصدق – بحسب تقرير بعث به عام 1963م لوزارة خارجية بلاده – ما يشاع عن أن للانتقادات التي توجه لنظام عبود أي خطر عليه. ووصف تلك الانتقادات بأنها “مُستَهتِرة وغير فعالة بالمرة”، وأعاد في عام 1964م تأكيد ما ورد في تقريره العام المنصرم، من أن الحكومة السودانية “تمضي بثبات في زيادة ثقتها بنفسها”. وينبغي أن نشير هنا في هذا السياق إلى أن السفير اسكوت كان شديد التعاطف مع حكومة عبود: فكثيراً ما كان يؤكد عن رضاه التام عن العلاقات (الودية) بين حكومتي السودان وبريطانيا، ويشجب فكرة عودة السودان لنظام الانتخابات الذي يقوم على مبدأ “صوت واحد لكل فرد واحد”، ويكثر من الإشادة بالصداقة التي بدأت في الازدهار مع أحمد خير وزير الخارجية، وذلك بحسب ما ورد في تقريره لوزارة الخارجية البريطانية في عام 1963م. فلا غرو إذن إن انعكس موقف ازدرائه للمعارضة السودانية، إلى حد ما، على رؤيته السياسية المحافظة. - لم يكن سقوط النظام النوفمبري حتى تلك المرحلة، أمراً مضمونا، إذ أن المظاهرات التي جرت بالعاصمة في يوم الجمعة 23 أكتوبر 1964م، لم تكن ضخمة العدد (بحسب رسالة من السفير البريطاني اسكوت إلى وزارة الخارجية البريطانية يوم 24 أكتوبر 1964م).
- كان نجاح الإضراب السياسي العام الذي أفضى لسقوط نظام نوفمبر عبر الوسائل السلمية قد أجبر حتى السفير البريطاني في الخرطوم (إيان اسكوت) على سحب تقاريره الساخرة السابقة عن الثورة التي بعث بها لوزارة الخارجية في لندن. وكان قد سبق له القول عن أحداث 22 أكتوبر بأنها “أعمال شغب منتشر، ولكنها غير منظمة”. وأرسل أسكوت رسالة أخرى لوزارة الخارجية في لندن في 25 أكتوبر جاء فيها: “يبدو أن الاتجاه الهادف الوحيد، بصرف النظر عن الأفعال المعطلة لوظيفة الحكومة، هو الهجوم على محلات بيع الخمور”. غير أن السفير البريطاني أقر في رسالة أخرى لوزارة الخارجية البريطانية في نوفمبر 1964م، بعد نجاح ثورة أكتوبر في إزاحة نظام عبود جاء فيها:
“لقد احتوت القضية برمتها على سمات مميزة. لقد سمحت حكومة عسكرية لنفسها بأن تُزاح عن سدة الحكم عن طريق معارضة مدنية… وذلك باستخدام العصيان المدني – على طريقة غاندي – ربما للمرة الأولى في العالمين العربي أو الأفريقي، محدثة أثراً مدمرا”.
وربما يكون السفير البريطاني قد وصف تلك الأحداث في ثورة أكتوبر السودانية بالطرق التي استخدمتها الحركة الوطنية الهندية ضد الحكم البريطاني، إلا أن المتظاهرين السودانيين كانوا قد استخدموا طرقهم الخاصة المحددة للتعبير عن احتجاجاتهم السلمية. وكان كثير من هؤلاء المتظاهرين لا يحملون سوى أغصان النيم الرقيقة كرمز للسلمية. وعلى الرغم من كل ذلك، فلا مجال لنكران أن ثمة حوادث تخريب وحرائق متعمدة قد وقعت بالفعل، على الرغم من تضخيم الإعلام والسفارات الغربية لتلك الحوادث. وبحسب ما جاء في رسالة السفير البريطاني اسكوت للخارجية البريطانية يوم 25 أكتوبر، وما نُشر بصحيفة “هيرالد تربيون” الأميركية في ذلك اليوم حطم المتظاهرون زجاج نوافذ السفارة الأمريكية بالخرطوم، وحاولوا كذلك اقتحام المكتبة الأميركية. وفي عمل غير عادي لإحالة ذاتية وطنية (national self – referentialism) عنونت صحيفة “هيرالد تربيون” يوم 26 أكتوبر مقال لها بـ (وضع الخرطوم “خطير” في أربعة أيام من أعمال الشغب المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية). وكانت ثمة أعمال تخريب متنوعة أخرى، شملت الهجوم على صيدلية يملكها رجل سوري قيل إنه قتل سودانيا قبل أيام من اندلاع الثورة، واقتحام مبنى جريدة “الرأي العام”، لاتهام بعض المجموعات المعارضة لها بتأييد نظام نوفمبر.
وأشار السفير البريطاني إيان اسكوت في تقريره لوزارة الخارجية البريطانية يوم 25 أكتوبر 1964م بأن “الهجوم على محلات بيع الخمور … قد يشير إلى نفوذ الإخوان المسلمين”. وبينما لا يوجد دليل مباشر على أن أي من الأحزاب السياسية السودانية المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين كانت قد نظمت تلك الأحداث، إلا أنه ينبغي أن نذكر أن تلك الجماعة كانت قد نشطت في رفض فتح محلات جديدة لبيع الخمور إبان تلك الفترة. - لقد ثار الكثير من الجدل حول تتابع الاحداث التي أفضت لإطلاق النيران أمام القصر الجمهوري في يوم 25 أكتوبر 1964م فذهبت بعض المصادر إلى أن الجنود فتحوا النيران لأن بعض المتظاهرين كانوا قد حاولوا انتزاع البنادق من أيادي الجنود؛ بينما ذهبت رواية أخرى إلى أن الجنود قد سمعوا صوت عادم السيارة فحسبوه صوت إطلاق نار عليهم؛ ورأي آخرون أن إطلاق النيران في ذلك اليوم كان بسبب العصبية التي أصابت قائد تلك القوات، زين العابدين عبد القادر وقلة خبرته (ذكرت الكاتبة في الحواشي أن زين العابدين أقر لاحقاً بأن فرقته هي من أطلقت النيران، ولكن لم يكن ذلك بأمر منه، إذ أن بعض الجنود تصرفوا بطريقة فردية وأطلقوا النار بصورة عشوائية على متظاهرين رفضوا الامتثال لتحذيرات القوات لهم من التقدم نحو القصر. المترجم). وزعم آخرون أن إطلاق النار على تلك المظاهرة كان عملا متعمداً ومخططاً له سلفاً، خاصة مِنْ قِبَل حسن بشير نصر. إلا أن كليف طومسون (البروفيسور الأمريكي صاحب كتاب “يوميات ثورة أكتوبر”) لا يؤيد ذلك الزعم، ويقول بأن الرجل لم يكن بالقصر الجمهوري في ذلك الوقت الذي حدث فيه إطلاق النيران على المتظاهرين. غير أنه ورد أن السفير البريطاني إيان اسكوت كان قد أخبر الخارجية البريطانية قبل وقوع تلك الحادثة بأن مسؤولاً بوزارة الخارجية السودانية كان قد طلب منه إغلاق مبنى السفارة البريطانية التي لا تبعد كثيراً عن مبنى القصر الجمهوري، إذ أن الجنود الذين يحرسون القصر سوف يقومون بإطلاق النار على موجات من المتظاهرين. وفي هذا ما قد يؤكد أن بعضاً من المتنفذين في نظام نوفمبر كانوا قد أمروا بإطلاق النيران على المتظاهرين حول القصر، إذ أنهم كانوا يخشون أن يحيق بهم ما حاق بنوري السعيد وفيصل الثاني بعد سقوط النظام الهاشمي في العراق عام 1958م.
- كان السفير البريطاني إيان اسكوت بالخرطوم قد أقر بنجاح الإضراب السياسي العام في رسالته للخارجية البريطانية في يوم 25 أكتوبر التي جاء فيها: “يبدو أن الدعوة للإضراب لقيت اليوم نجاحاً كبيراً، فقد استجاب لها موظفو الحكومة والمصارف، والعاملين بالمستشفيات، الذين كانوا يستقبلون الحالات الطارئة فقط”. وأضاف السفير في اليوم التالي ما يفيد بأن بعض المصارف والمحلات التجارية قد عاودت العمل، بينما بقيت المصانع في الخرطوم بحري مغلقة تماماً، وظلت خدمات الكهرباء تعمل فقط بسبب مجهودات العاملين الأجانب.
alibadreldin@hotmail.com