أقرب إلى القلب:
مـفــتــتـح:
أدناه مقال كتبته عام 2008 وأنا في بيروت ، وكنتُ قد قرأت لتوّي شـهادة شاعر وكاتب لبناني صديق هو نصري الصايغ، يحدّث عن خواطر وذكريات عاشـها شـاهداً على مآسيها، خلال سنوات الحرب الأهلية القاسية في لبنان ، وشاركه اللبنانيون ويلاتها لخمسةِ عشر عاماً بين 1975 وعام 1990.
حين نظرتُ حولي ورأيتُ ما ينتظر بلادنا من مصائر كارثية، نمضي إليها بعيونٍ معصوبة ، وقـفـتُ عند تجربةٍ لا تبعد ويلاتها كثيراً عن ويلاتٍ بدأت تجليّاتها تلوح في أفق السّودان – ولعله نفق وليس أفق – محتشداً بالضغائن والأحقـاد. هل يأتي يوم ٌ أسـأل فيه مثلما سـأل صديقي اللبناني نصري الصايغ عن بيروته : أهـذه الخرطوم أم قـفـا نـبــكِ. .؟
إقرأوا معي ما يلي:
هوامش على متون كتابة نصري الصايغ عن حرب لبنان الأهلية..
أهذه بيروت أم قِـفـا نبـكِ ؟ ” ، يا للصرخة اليائسـة. . ! هذا عنوان إقتطفـته من صفحة 233 من كتاب الأستاذ نصري الصايغ : القاتل إنْ حكى : سيرة الاغتيالات الجماعية ، الذي صدر عن رياض الريّس للكتب والنشر، في يناير من عام 2008. إنّهُ شـهادة مروّعة عن سنوات الاقتتال الأهلي في لبـنان .
يحاول الكاتب والشاعر اللبناني، ناصع العبارة عميق التحليل: نصري الصايغ ، أن يجد معادلة لقراءة الواقع المتشظّي في لبنان إبان تلك الحرب الأهلية القاسية . ليس لبنان الذي حسب أن جراحه التأم بعد إتفاق الطائف عام 1990 والذي أنهى حرباً بين الطوائف ، امتد أوارها لخمسة عشر عاماً من 1975 وحتى 1990 ، ولكن لبنان الذي بدأت تتخلق فيه هذه الآونة ، بذرة القتل من جديد . لبنان الذي ينهض – بعكس العنقاء – من رمادٍ نائمٍ إلى رمادٍ يصحو من جديد . لم يهزني كتاب بمثل ما هزّ بعض قناعاتي الرّاسخة عن لبنان ، هذا الكتاب، بل هذه الشهادة التي جاءت من شاعر له من مجسّات الاستشعار، ما أعانه على الافصاح بقوة اللغة عن واقع معقـد تتربَّص به مكوناته الداخلـية ، بمثلما تتربَّص به مكوّنات خارجية من محيطه الأكبر والأوسع . ثمّة كتابة مزلزلة . كتابة الصايغ أكثرها ترويعـا .
أنظر كيف يصف الذّعـر الداخلي يعصف برجلٍ تضاءل ، بسببٍ من موقفٍ مرّ به خلال الحرب الأهلـية ، أمام جـرذٍ مسكنه جحر. .! ما أقسى أن يمسخ الانسان أخاه الانسان إلى جرذٍ مطارد. كتب الصايغ :
(هربتُ ، تهرّبت ، هرّبوني ، أحياناً كنتُ أشعر أنّ الجرذ أكثر شجاعة منّي . ففي ليلة قصف مجنون بتاريخ السادس من شباط/فبراير، الذي حوّل بيـروت الغربية إلى داحسٍ تبحث عن غبراء في كلّ زاروب وحـيّ وبيـت، بين “أبناء الصفّ الواحد” و”الخطّ الواحد” ، لجأتُ إلى ملجأ كانت القنابل تطال ما حوله . في لحظة هدوء وبينما كنتُ متكئاً على ذراعي ، رأيت جرذاً ينظر إليّ . من عادة الجرذان أن تهرب عندما ترى إنسـاً أو بشـراً أو حركة. رآني . تأملـني . أحـسَّ أني خائف أكثر منه ، فهـزّ رأسـه . شعرتُ أنّهُ يضحـك منّي . يومها ذرفتُ دمعة يابسة. . ) ص44 .
الخـوف ! كيف يمكن للخـوف أن يكون بنّـاءاً. . ؟
(الخـوف دواء اللبـنانيـيـن ، عليهم أن يتصرّفوا كخائفيـن ، علّـهم بذلك يحولون دونَ الانزلاق إلى العنـف في بلدٍ ، لا يستطيع فـريقـا كرة قـدم أو كرة سـلة أن يتباريا، دون أن تداس المقدسات بالأقــدام، وتنـزع المقدّســات عن القديسين والولايـة عن الأولياء والنبوة عن الأنبياء ..) ص 42.
لم تشـرّع قوانين حمورابي القاسـية ، نصوصاً بلغتْ هذا المدى الذي يصفه الصايغ ، في الوحشية والحيوانية المُزرية :
( ليـسَ صحيحاً أنّ العيـن بالعيـن والسـنِّ بالسـنِّ . اللبنانيون أبدعوا معادلة أخرى . مدينةٌ مقابل مدينـة . طائفـةٌ مقابل زعيم . زعـيمٌ مقابل جـمـاعـة . العين الواحـدة بكلِّ العـيـون مجتمعـة . قُـداس الرّحمـة لا يجوز إلا للأحـيـاء . أما الأموات فليدفـنـوا كالكلاب. وهكذا حصل، وسط الذئاب الهائجأة . .) ص 118 .
عن القنّاصــة :
يحكي الكاتب عن ظاهرة القـنّاصة التي صاحبتْ اسـتعار الحرب الأهلـية في لبنان في تلك السّـنوات الصَّعبة . بين بيـروتيـن : الغربيـة (السُّـنـيّة ) والشرقية (المسـيحية )، نمتْ الظاهرة، وكانت معلماً مُمـيـّزاً لحربٍ حرقـتْ لبـنان حريقاً أشـبه بحرائق الحضارات التي بدأت في التاريخ باجتياح جنكيـزخان لـبغــداد .
( كان القناصُ يختار مَن يرغـب ، مَن تقع عليه شـهوته . حـدّثـني ذو اختصاصٍ مرّة ، أنَّ أحد القناصيـن ، كان يختار سـاعات الليل ليقـتل طريدته . فـيتهـيأ للصّيـد عندما تنـتابه نوبة التـثاؤب . ينـتـظر مع فوهـتـه. وعندما يسـقط أحـد المارة كالكلـب الشـارد ، برصاصةٍ من بنـدقـيتـه، يأوي إلى زاوية وينـام . . كان لا يهنأ بنـوم ، إلا بعد قـتـل أحـدٍ ما ، لا يعرفه . كان اللبنـانيـون يشـبهون رؤوسـاً قد أينعتْ ، والحجّـاجُ اللبناني جمعٌ بصيغةِ مُفـرد يطارد الرؤوس ويقطفها . .) ص149 .
ثم الاعـتـــذار :
مَـن يَجـد الجـرأة ليعتـذر لنفسه قبل أن يعتـذر للآخرين ؟ قال الصايغ إننا نهشـنا لحمنا بأظافرنا ، وبأنيـابنـا . المفارقة أنّ المُعتـذر هو نفسه المقـتول . القـاتل يمشي على قدميه حيّاً بين أبنـائه وأهـلـه .
يقول الصّايغ في كتابه إنه في عملية حسابية بسيطة: ( إذا كان عـدد القتلى هو 200 ألـف ، وإذا اعتبرنا أنّ كلَّ مُقاتل محارب قـد قـتـل 5 ، فإنّ عـدد القتلة على مدار 15 عاماً ، هو أربعون ألـف قـاتـل . واذا كان قد قتل 10 ، فإن عدد القـتـلة يتضاءل إلى عشرين ألفا . أين هم هؤلاء القتـلة ؟ )
إذا كان عدد المخطوفين عشرين ألفـاً خلال سـنوات الحرب الأهلية في لبنان ، وإذا كان كلّ مخطوف يحتاج إلى أكثر من أربعة أشـخاص لخطفه ، فإنّ عدد الخاطفيـن يصل إلى 80 ألف خاطـف ، وقد يكون القتلة خاطفيـن ، وقد لا يكونون . باختصار، يسأل الصايغ :
(أين هم هؤلاء الخاطفون؟…………. إنهم بيـنـنا في معظمهم ، أحيـاء يرزقون . تزوّجـوا، أنجبـوا، توظفـوا ، سـافروا ، تخرّجوا من جامعات ، تاجروا ، رقصوا ، تملكوا ودرسـوا ، فيما أحبـابنا ، آباؤنـا وأمهاتنـا وشبابنا وبناتنا وأولادنا ، تحت التراب . . )
ولكن هل يكفي أن يظل القاتل حيـاً بلا تأنيـبِ ضميـرٍ ولا ضامن يردعه ، حتى لا يعيد الكرَّة ؟ ها نحنُ في بيروت عام 2008 ، نجيل البصـر ترقّـباً وانتظـارا : لا كوابح لعجلة المذابح التي تتأهّـب للدّوران الآن . لا كوابح أيُّها الصايغ. . !
وأيضاً لنصري الصايغ ما يضيفه هنا . يقـول في صفحة 153 من كتابه :”القاتل إنْ حكى” :
(ولأنّ اللبنانيون يبتعدون بسـرعة طائفية ضوئية ، عن جادة الديمقراطية فليـس لهم أن ينتظروا أحـداً من القتلة والمجرمين أن يعتـلي مِنصّـة ، أو يحضر لـقـاءً ، يُصـار فيه إلى الاعتراف بما ارتكب في الحرب من جرائم . ويبـدو هذا أمراً طبيعيا . وشـواهد التاريخ كثيرة. . ) . ويورد أمثلة عن جنوب افريقيا التي لم يُقـدِم المجرمون فيها على الاعـتذار عن عنصريتهـم، إلّا بعد إقصـاء النظام العنصري وإقامة النظام الديمقراطي .
ويقول عن إسرائيل: (. .لا نتصوَّر إسرائيلياً يقوم على الاعتـراف بما ارتكبـته إسرائيل، إلا إذا تخلّى عن صهيـونيتـه، وخرج عن المنطق العُنصري . وهذا ما أقدم عليه “ابراهام بورغ” رئيس الكنيست الأسـبق قي شهادة تاريخية تدين البربرية الإسرائيلية. .) ص 154. ويضيف نصري الصايغ : إنّ عبـيد أمريكا لم يتـم الاعتراف بهم إلا بعد نضالٍ دامٍ ومديد . .
إنهم يقتلون جياد الثقافة:
في رسالة لصديقه فـوّاز طرابلسي ص231، كتب نصري الصايغ :
( بماذا ننصح شـباباً تخرّج من جامعاتٍ أتقـنت المنهج الديكارتي والاستقراء العلمي والاستنباط الرّياضي ، وأبدع في اسـتخدام منتجات الحداثة، ثم تخرَّج من الجامعة ليتحوّل إلى خُـردة طائفـية ومذهبـية ، لا يديـن بحرفٍ إلى داروين أو ديكارت أو ابن خلدون، وقاسم أمين وطه حسين وماركس ودالوز ، ووقف علمه كله ، وقـفـاً مجـانيـاً ، لمستحدثات السّياسي والمذهبي والقـبـلي. . )
لا يقف الكاتب نصري الصايغ عند جرح ، بل يتعـدّاه بمبضعٍ قاسٍ إلى جرحٍ يحاصر الأمل في نفـقٍ لا ضوء في آخـره:
( لقـد قتلـنا المُعتـزلة . أحرقنا ابن رشـد . اغتلـنا أحمد فارس الشـدياق . سـخرنا من بطرس البُستاني ونفـيـره ، علقـنا طـه حُســين على خشـبةٍ بعد موتهِ . أفرحنـا تراجعُ علي عبد الرازق، لأنّـهُ خـاف إلى يوم وفاته ، فرجمـنا قاسم أميـن . ونحن اليوم بصـدد إفـناء ابن عربي وتحريض جنـس الأخلاق على أبي نوّاس، وجنس التطهّر على الحـلاج . نحن اجترحنـا في القرن العشـرين (وما بعده) محاكم التفتـيش الدينـية والسياسية . أقمنا حلفـاً بين الله والعروش الحاكمة . جعلنا من الشـعوب أصابع أرجل بعـدد رمل البحـر. نحن زوّدنـا السُّـلطة بالوحدة فخرقتنا بالاشتراكية ، وقتلنا بالحـرية فأبادتنـا . نحن قتلنا أنطون سعاده وفرج الله الحـايك ، وحسين مروة ، وسـلالة النهضـة . . لم نترك نصّـاً لم ننحـره .. ) ص 235 . هؤلاء رموز شـامخة في سـماء لبـنان ، نُحروا وفُجّروا تفجيـرا، ثمّ اسـتأنف القـتـلة حيـواتهم العادية بعـد ذلك. هم ينتظرون ظرفاً لبنانياً يعرفـونه آتٍ ، بموجبه تستحضر أرواح الشّـرِّ سـكاكينها . القاتل الذي لا يعتـذر عن جريمته، لن يكفَّ عـن هـوايـتـه المُحبّـبـة . سـتواصل المقاصل فصل الرِّقاب . سيستمر مسلسل التفخيـخ ودسّ الألغـام في جيـوب الأبريـاء .
من منكم – يا عرب القرن الحادي والعشرين – لا يخجل من شهادة تتهـمكُم بالتقصيـر فيما يلي :
(يوم كانت الحضارة العربية في سطوة فعـلها ، فرضتْ حضورها اللغـوي من خلال حيوية مفكريها وكتابها ومجتمعاتها . لذا كتب “الأجانب” فكرهم بالعربـيـة . الفارابي التركيّ عربيّ اللغـة ، ابن سينا الفارسـي عربيّ البـيان ، ابن المقفع الشـعوبي ، عنصري العربـيـة . كلهم كتـبـوا بلغـةٍ كانت من القـوّة ، بحيث جاءت حاملاً لمحمول من الفعل في ميادين العلم والمعرفة والفلسفة والاجتماع والإدارة والتاريخ والسياسة ، إضافة إلى الشعر و الأدب. ). الصايغ ص 236.
ما أسهل أن نهرب إلى الأمام وندّعي أنّ هؤلاء كلـهم لا ينتمـون لحضارة العـرب . .!
في الصفحات الأخيـرة يكتب نصري ، وقد بلغ به اليأس مبلـغـاً لا رجعة بعـده لأمل :
(عن أيّ شيء تدافع أيّها المثقـف؟ قُم ، لنحرق الكتب ، ونتـبع قافـلة الجنون . . )
في ختام كتـابه ، ينظر نصري الصايغ إلى قرى العـراق ويُعلق : بات عقـار كلّ بلدة هناك ، يتألف من مساحات شاسـعة للمقـابـر ، وبيـوت قليـلة للمقيميـن . .
بيروت عروس على أهبة الاستعداد لاقتحام الموج الحارق بحاسّـة بقاءٍ عالية ، نعم بحاسة مقاومة عالية . .
خاتمة:
ترى هل سنفهم الدرس، وقد صاغه من حولنا لبنانيون وصوماليون وروانديون. .أم ترانا في السودان، سنخترع عجلة الحرب الأهلية ، لنجرّب انتحـار وطن. . ؟
الخرطوم- ٢٧ أكتوبر 2022