22 نوفمبر 1988 – اشتباكات دامية في العاصمة السودانية الخرطوم بين أنصار حزب الجبهة الإسلامية القومية الذين نظموا مظاهرات ضخمة رفضا لاتفاق الميرغني- قرنق و بين أفراد مظاهرة أخرى مضادة ضمت عددا من الجنوبيين مما أدى لتدخل قوات الشرطة.
(هذه كلمة لي في بابي “ومع ذلك” في جريدة الخرطوم (23 نوفمبر 1988) أعلق فيها على موقف الجبهة الإسلامية القومية (الإخوان المسلمون) التي تتدارق بها حيال لجنة كونها المرحوم الإمام الصادق، رئيس الوزراء، للتحقيق في موكب سيرته واصطدمت فيه دموياً مع طائفة مع الجنوبيين. وأخذتُ عليها يومها، كما آخذ عليها ما أزال بعد سقوط دولتها الدامي، ترفعها عن المساءلة والشموخ بالأنف دون الخضوع لمقتضياتها. وبدا لي دائماً أن هذه خصيصة في العقل السياسي ذي المرجعية الدينية. فخطأه ليس خطأ بشرياً كالعهد بالناس بل هو، في عقيدته، خطأ في الدين. فيأنف بالطبع أن تكون مشيئة الرب، التي زعمها لنفسه، مساءلة أمام بشر. ومن جهة أخرى فلا يرى العقل السياسي ذو المرجعية الدينية، الذي قال أحد منهم أن خطوطهم فاتحة مع الرب، أن الدنيا دار حسابهم. فحسابهم مؤجل إلى يوم المشهد العظيم. وهذه مراوغة. فقال عمر البشير في آخر أيامه إنه لم يأتنا بانتخابات، بل بتكليف رباني وحسابه فوق).
ولما كنت الديمقراطية هي المساءلة (accountability) فخصومة الديمقراطية هي في بنية العقل الديني في السياسة. وما نراه اليوم منها في التفلت من حساب عقودهم الوغدة هو هذا العقل في صميمه وتصميمه.
تساءل المشفقون على تجربتنا الديمقراطية الثالثة عنا إذا كان موكب الجبهة الإسلامية القومية المعارض لمبادرة الميرغني-قرنق “أماناً” للسودان فكيف يكون “خراب” السودان. فتحولُ موقف لإبداء الرأي من موكب إلى شغب هو ترويع بعيد عن الأمان بعد الثرى عن الثريا.
وقد يعني هذا أننا لا نحسن إبداء الرأي، أو أننا لا نحسن استقبال الرأي المعارض، أو أننا نستعين بالرأي على الشغب، أو أننا نجعل من الشغب رأياً. وكل تلك محاذير قد تسع الديمقراطية قدراً مناسباً منها ولكنها تنهد إذا لم نعرف كيف ننقي جسدنا السياسي من أوشابها بنقدها ومساءلة مرتكبيها حتى لا يكسب منها أحد.
وقد أحسن رئيس الوزراء صنعاً بتكوين لجنة لتقصي حقائق ذلك المكب-الشغب. وأتمنى أن يتكرم قادة الجبهة الإسلامية القومية بمساعدة هذه اللجنة بتوفير الشهادات الأمينة الدقيقة لها، وألا يطوقوها بالغلاط والذكاء الدائري. فالجبهة هي الجهة المشروعة الواضحة في الموكب-الشغب في حين تبدو الجهة التي اصطدمت بها حتى الآن بلا رموز ولا جهة تتحمل مسؤولية التحري.
ما صدر حتى الآن من قادة الجبهة لا يبعث على التفاؤل في إقبالهم القومي، أي غير المتحزب، على عون تلك اللجنة في مهمتها. فقد بدا المحافظ، الفاتح عبدون، بتبرير خروج موكب الجبهة بغير تصديق، ودماء الضحايا لم تجف بعد، كمثل خروج موكب استقبال السيد الميرغني الذي لم يصدق أحد به. وهذا منطق فيه مشابه كثيرة بمكايدات الصبية ولا يتناسب مع مقتضى الولاية العامة المعلقة بذمة المعتمد.
كما خرجت صحف الجبهة أمس تبحث عن كباش فداء لم تحرض الجنوبيين وغيرهم للصدام مع موكب الجبهة فحسب، بل اندست في موكب الجبهة للتأكد من وقوع ذلك الصدام. وأشارت تلك الصحف أيضاً إلى مسؤولية عناصر مسلحة من الحركة الشعبية مندسة وسط النازحين عن ذلك الصدام. لقد شقي النازحون الشقيون من الصور التي تروجها صحف الجبهة عنهم كبؤر كامنة للحركة الشعبية. وغاب عنها أن أكثر هؤلاء النازحين ممن عانى من الحركة ويلات ويلات بدأ الكشف عنها في كتاب “جراح الحرب” الذي صدر مؤخراً باللغة الإنجليزية.
في سياق هذه “البردبة” أزعجني حقاً تصريح للدكتور حسن الترابي قال فيه إنه لم يكن يعلم بقرار مجلس الوزراء الخاص بمنع المواكب. وأضاف أنه إن كان قرار فهو قرار سياسي خاضع للتبديل والتعديل كشأن القرارات السياسية. الترابي هو خير العارفين أن الجهل بالقانون غير منج وبخاصة لإنسان في منزلته السياسية والتشريعية توفرت له كل الفرص ليعرف.
الديمقراطية نظام ذو مناعات قليلة جداً. ومن تلك المناعات المؤكدة لجان التحقيق رغم أنها تأتي بعد الحدث. ومع ذلك فتلك اللجان قوة تصون الديمقراطية وتقيل عثرتها. وإني لأدعو الجبهة القومية أن تقبل على لجنة التحقيق بمزاج ديمقراطي مفتوح.
IbrahimA@missouri.edu