محمَّد فائق يوسف حسن
(مهندس وقيادي اتِّحادي ديموقراطي)
لَقَدْ هَرِمْنَااااااا!
الاثنين
مرَّت، في الثَّاني من سبتمبر المنصرم، ذكرى معركة كرري التي وقع في ختامها تعقُّب الخليفة عبد الله وكبار القادة والأمراء، وقتلهم. وفي عقابيل ذلك كتب نعوم شقير: خرجنا من بيت الخليفة إلى قبة المهدى والجامع، فإذا بالقنابل قد هشمت قمة القبة، وجانبا من جدرانها العليا، وفتحت فيها عدة ثغور. أما قبر المهدى فقد كان محاطا بدرابزون من النحاس، الا أن الرداء الذى كان يغطيه نزع منه! وفى 18 سبتمبر لُغمت القبة فانهارت، ولم يبق قائما منها إلا أركانها الأربعة؛ ونُبش قبر المهدي، وأُخرجت جثته، فبُعثرت عظامه، وحُمِل رأسه الى معرض التُّحف بلندن!
وفي وصف المشهد الأخير في ما بعد استشهاد الخليفة وكبار القادة والأمراء كتب ونجت باشا أنه، في يوم الجمعة 24 نوفمبر 1898م: “وبعد انجلاء الواقعة، وجدنا فى ساحة القتال، فى طريق الأورطة التاسعة السودانية، ثلة من القتلى فى بقعة واحدة، فسألنا الأسرى عنهم، فقالوا إنهم الخليفة عبدالله التعايشى، والخليفة على ود حلو، وحمد فضيل، والسنوسى أحمد أخو الخليفة من أمه، وهارون محمد أخوه من جارية، والصديق ابن المهدي، ويعقوب أبو زينب، وحامد ود علي شقيق أحمد ود علي، وعبدالباقى الوكيل، وكلهم من التعايشة، وبشير عجب الفيا أمير كنانة. ورأينا على مسافة قريبة منهم خيولهم. وأخبرنا يونس الدكيم الذى وجد مختبئا بين القتلى أن الخليفة عبد الله، لما عجز عن الوصول الى الجيش، أراد أن يدور حوله، ولما لم يفلح، نزل عن جواده، وأمر أمراءه فنزلوا عن جيادهم ايضاً، ثم افترش فروته وجلس عليها، كعادة فرسان العرب فى السودان، وجلس الخليفة على ود حلو عن يمينه، وأحمد فضيل عن يساره، وجلس باقي الامراء حلقة حوله، وجعلوا حرسهم الخاص صفاً واحداً على بعد عشرين ياردة منهم، ومكثوا ينتظرون الموت بجنان ثابت! فلما رأيتهم على تلك الحالة أمرت أهلهم الذين وقعوا فى الأسر، فحفروا لهم حفرة كبيرة فى المكان الذى قتلوا فيه، ودفنوهم فيها أمامى. وكان السردار قد وعد بجائزة 10 الف جنيه لمن يلقى القبض على الخليفة، فوزعها على عساكر هذه التجريدة.
الثُّلاثاء
الثلاثاء العشرون من اكتوبر 1964م. جامعة الخرطوم ـ الناحية الجنوبية من داخلية الدندر بمجمع داخليات البركس. حوالي الرابعة والنصف بعد الظهر. كنا، ساكني الداخلية، مجتمعين تحت الشجرة الظليلة التى أظنها ما زالت قائمة هناك، نناقش مقترح الاتحاد بشأن ندوة يُخطط لانعقادها في الغد حول “مشكلة الجنوب”. وكان نظام عبود قد منع مثل تلك الندوات التي استغلها معارضوه للهجوم عليه.
جلست على حافة الفيراندة. رأيته جالساً قبالتي، متكئ الظهر على ساق الشجرة الضخمة. لوحت له بيدى محييا، رد التحية بنفس الطريقة، وزاد عليها ابتسامة. مازالت هذه الصورة عالقة بذهني بعد أكثر من سبعة وخمسين عاماً، وتطفر الدموع من عيني كلما استعدتها. كانت تلك آخر مرة رأيت فيها الشهيد أحمد القرشى طه!
اليوم التالي، الأربعاء الحادي والعشرون من أكتوبر 1964م. ميدان داخلية عطبرة بمجمع داخليات البركس. حوالى الثامنة والنصف مساء.
ما كاد المتحدث الأول في الندوة ينهى حديثه إلا وفوجئنا بقوة من البوليس تحيط بالمكان، وضابط يقودها يأمرنا عبر مايكرفون بيده أن نتفرق. لم نتزحزح. استمر المتحدثون. أطلقت القوة سيلاً من القنابل المسيلة للدموع. تدافع الطلاب مبتعدين، بينما البولس يحتل المكان، مواصلاً إطلاق قنابل الغاز. هنا أخذ الطلاب الغاضبون، وقد تزايدت أعدادهم، يرشقون البوليس بما يجدون تحت أيديهم من الحجارة. وبدأ الاشتباك. وكلما زادت أعداد الطلاب زاد ضغطهم على القوة التي راحت تتراجع الى الوراء. وكانت قد دخلت، ابتداءً، من عند داخلية البركس، لكن، ولأنها لم تكن تعرف جغرافية المكان، تاهت، وتفرقت، عند محاولتها الخروج. وبسبب الخوف على أنفسهم أطلق بعض افرادها النار، برعونة، في مختلف الاتجاهات، فسقط عدد من الطلاب!
أحسست بألم شديد فى ذراعى الأيمن، ورأيت الدم يتدفق منه، فأدركت أننى اصبت، فاخذت فى التراجع. حاول بعض أفراد القوة ملاحقتى بالسياط والعصى الغليظة! سمعت أحدهم، ربما كان رئيسهم، يصيح: “خلُّوه خلُّوه”! دلفت من أحد الأبواب، ومرقت، كالسهم، من باب آخر. ركضت .. ركضت .. رأيت جمعاً من الطلاب فاتجهت نحوه .. وسقطت!
صحوت، فوجدتني راقداً على نقالة، وحولى غابة من الأرجل! جذبت أحدهم وسألته: “أنا وين”؟! أجاب: “فى المستشفى .. قُتل أحد الطلاب .. إسمه أحمد القرشى طه”!
الأربعاء
فى الثامن من نوفمبر 1959م تم، فى القاهرة، التوقيع على “اتفاقية مياه النيل” بين مصر عبد الناصر والسودان، والتي وافق السودان، بموجبها، على بناء السد العالى، وإغراق 150 كيلومترا من أراضى النوبة السفلى داخل الحدود السودانية؛ كل ذلك لقاء خمسة عشر مليونا من الجنيهات قدمتها مصر ثمناً بخساً لما نالته، بل هناك شك فى أن ذلك المبلغ الزهيد لم يُدفع كله!
جنت مصر كل الارباح، سداً عالياً ينتج 10 مليون كيلووات ساعة من الكهرباء سنوياً تذهب كلها إلى مصر، ومخزونا من المياه تحت تصرفها فى بحيرة النوبة يقدر بمائة وثلاثين مليار متر مكعب، إضافة الى زيادة حصتها من مياه النيل الى 55.5 مليار متر مكعب، بدلا من 48 مليار متر مكعب كانت تحصل عليها سابقا، بينما حصل السودان على 15.5 مليار متر مكعب بدلا من حصته السابقة ومقدارها 4 مليار متر مكعب. واحتسبت الكمية التى تتبخر من المياه بعشرة مليار متر مكعب ابى “كرم” المفاوض السودانى الا أن يقتسمها مع مصر، بينما المفترض أن تتحملها وحدها لان التبخر ينتج من بحيرة النوبة التى تنتفع مصر، وحدها، بمياهها.
لم تمض أيام على توقيع الاتفاقية حتى بدأت مصر فى أعمال البناء، بمعاونة الاتحاد السوفيتى على أيَّام خروتشوف، وقتها، بينما بدأ السودانيون صراعهم مع المياه التى اصبحت ترتد من الشمال. وفى أقل من اربعة أعوام بدأت مصر فى ملء بحيرة السد، وبدأت المياه ترتفع لتغرق قرى النوبة السفلى، واحدة فواحدة، وأغرقت حلفا الجميلة، منفذ السودان الشمالي، ومعها 23 قرية نوبية سودانية، ولم يحدثنا أحد، وقتها، عن الملء الأول أو الملء الثاني!
هُجِّر النوبيون السودانيون إلى خشم القربة فى شرق السودان الجنوبى، حيث شيدت لهم 33 قرية، ووزعت عليهم الاراضى الزراعية، لكن البعض اختاروا البقاء فى موطنهم الأصلى يحاورون المياه، كلما ارتفعت ارتحلوا الى أعلى.
أما من ارتحلوا فقد عاشوا صراعا نفسيا قاسيا، كي يتأقلموا مع الموطن الجديد، حيث باتت قراهم تحمل أرقاماً بدلاً من أسمائها الأصلية، ففرص شرق أصبحت رقم (1)، وأرقين رقم (8)، وحلفا دغيم رقم (3) وهكذا! وما زلت، حتى الآن، لا أجد تفسيرًا لهذه الأرقام، إلا أن يكون القصد محو الذاكرة الجمعية، مثلما تم محو الآثار على الأرض!
من المفارقات أنه بعد بضعة أيام من توقيع الاتفاقية الغبية كان الجنرالات يحتفلون بالذكرى الأولى لانقلابهم المشؤوم الذى بذر البذرة الأولى للانقلابات فى السودان. ولسوف تبقى ذكرى تهجير أهل النوبة نقطة سوداء فى تأريخنا الحديث!
الخميس
بِغِم! أعدنا اكتشاف العجلة. بِغِم! دخلنا الدائرة الجهنمية. بِغِم! ركبنا ساقية جحا. بِغِم! سبحنا ضد التيار، و”دفقنا مويتنا على الرهاب”! مارسنا جهالة الجهلاء، والضحالة العمياء. تدروشنا .. تصوفنا .. غنينا .. مدحنا، رقدنا شمالاً، وأخذتنا العزة يميناً. سافرنا بالبيوت، و”نضمنا بالخيوت”! انتخبنا .. ثرنا .. انتفضنا .. سلكنا عصياننا المدني .. “لحسنا كوعنا، وقلنا الروب .. الروووب، لقد هرمناااااااااااااا”!
الجُّمعة
المهندس محمد النجومى فى كتابه المترجم الى العربية بعنوان “الوصاية العظيمة” حكى عن سيدتين بريطانيتين كان لهما فضل كبير على نساء السودان، أولاهما المس جي. دي. إيفانز، رائدة تعليم البنات التى عملت فى السودان ما بين 1920م و1933م. ولم تكن بداية تعليم الفتيات السودانيات فى مثل سهولة وتقبل الأمر كما كان بالنسبة للجنس الآخر.
بدأ المستقبل يضىء أمام الفتيات السودانيات عندما إاخذت إدارة التعليم الخطوة الصحيحة بوضع ألأمر كله بيد سيدة متميزة، وبدأت قضيتها تأخذ الإهتمام اللائق بها من خلال المجهودات التى لم تنقطع لتلك المحامية النابهة.عندما بدأت مس إيفانز تتولى مهمتها الهائلة لتطوير تعليم الفتيات فى جميع أنحاء البلاد فى عام 1920م أدركت بإحساسها الجاد بالمسؤولية أنه وبدون موافقة ودعم الآباء فإن مجهوداتها لاختراق ملاذ البنات ألآمن سوف تبوء بالفشل، ولن تثمر شيئا. لذلك سارعت لبناء الثقة، وعقد أواصر الصداقة، بينها وبينهم، مستغلة جاذبيتها المحببة. فكان أن كسبت، سريعاً، الجولة الأولى من مهمتها المعقدة، وأمنت ثقة بلا حدود من جانب المواطنين المتميزين. وهكذا قدمت نفسها إلى الشرائح المستنيرة من الآباء والأزواج، وأقنعتهم بأن كل شىء، فيما يخص التقاليد والمعتقدات، سوف يكون على ما يرام، طالما كانت هي الممسكة بدفة القيادة.
وبالفعل أصبحت هى الراعى ألأمين واليقظ لما كان كل سودانى يعتبره ألأعز وألأقرب، ونتيجة لذلك منحها المحافظون من قادة المجتمع موافقتهم الكاملة على إرسال بناتهم إلى كلية تدريب الفتيات، حيث يمضين أياماً وليالٍ بعيداتٍ عن عيون ولاة الأمور التى لم تكن لتغفل عنهن. صممت نظاما جديدا لتعليم المرحلة الإبتدائية للبنات، ولكن تنفيذ ذلك البرنامج كان يعتمد كليا على وجود معلمات سودانيات، وكن بالكاد موجودات؛ لذلك فقد قررت أن تصنعهن، وفى تصميم لا حيدة عنه، فتحت تلك السيدة العظيمة أبواب كلية تدريب الفتيات الشهيرة والتى سرعان ما أصبحت المركز الذى دارت حوله كل خطط توسع وتطوير تعليم البنات.
فى ذلك المجمع ذى الأسوار العالية، فى تلك المنطقة المعزولة والهادئة من أم درمان، كانت تتم تربية فتيات فى سن المراهقة من أسر محترمة، طبقا لأشد الطرق تقليدية ومحافظة، على يد سيدة أجنبية، ومن دين مختلف. أي ملبس غير لائق كان يلفت إنتباهها، وأية ضحكة عالية كانت تستدعى توبيخاً حازماً!
بالإضافة إلى تلك الكلية تحملت مس إيفانز، خلال فترة عملها الطويلة، كامل المسؤولية عن تعليم البنات. فبدأت باختيار معلمين رجال من المتقدمين فى السن، والذين يتمتعون بالذكاء، ومن ذوي الخلفية الدينية، كما انشغات ببناء مدرسة جديدة، أو صيانة مدرسة قائمة، والطواف حول المديريات لإقناع الآباء المحليين على الموافقة على إرسال بناتهم اللاتى أصبحن معلمات ليؤدين وظيفتهن فى أماكن أخرى غير موطنهن الأصلى، ولإلقاء المحاضرات فى الفصول الدراسية، وتنظيم زيارة الأمهات الأميات القلقات على سلامة بناتهن، وإزالة مخاوفهن، وتطمينهن على سلامة بناتهن بين يديها. تلك السيدة الرقيقة فعلت كل ذلك في إيمان قديسة، وشجاعة بطلة، وقوة عملاقة.
فيما يخص الثورة الإستثنائية التى حدثت فى السنوات الأخيرة فى مجال تعليم البنات، والصحوة التى عمت الفتيات السودانيات، فإن البلاد مدينة لتلك السيدة العظيمة، والتى كانت وحيدة فى البداية، وبغير مساعد، وتحملت عبء إرساء الأساس منفردة، وقضت شبابها، وجزءاً من سنوات عمرها المتقدمة، في التبشير بحق المرأة، ودورها الطبيعي في المساعدة على انتشال النصف الآخر من الأمة من قاع الحياة الذي لطالما قبعت فيه، أمداً طويلاً، نتيجة للجهل والأمية.
أما السيدة الاخرى فهى المس مابل وولف، رائدة طب التَّوليد التي عملت في السودان بين عامي 1920م و1938م. فقد مرَّ على أم درمان وقت كان اسم مس وولف يعني الفرق بين الحياة والموت فى البيوت التى تكون فيها إحدى الفتيات فى السادسة عشرة من عمرها تضع مولودها الأول، فشاءت إرادة الله حفظ حياة الأم والطفل بأن تكون مس وولف هناك، بصرف النظر عن الوقت، نهاراً أو ليلاً، أو أياً كان الموسم من السنة، أو البيت الذي تجري فيه عملية الولادة، قصرا أو كوخا. لم يكن هناك مكان فى المدن الثلاث لم تكن تلك السيدة الإنجليزية البدينة، بنظاراتها السميكة، وزيها الأبيض، لا تستطيع الوصول إليه بعربتها التي يجرها الحمار!
وخلال سنوات مضنية تعود إلى بواكير العشرينات كان المبنى ذو الأسوار الطينية، وهو مركز تدريب الممرضات المقابل لمستشفى أم درمان، يؤدى أعمالا أكثر أهمية وخطورة مما أداه المبنى الفخم الذى يضم الآن رئاسة مصلحة السودان الطبية! وقامت المس وولف، وحدها، بما تقوم به إدارة كاملة لطب التوليد ورعاية الطفولة. حاربت، دون مساعدة من أحد، الطريقة المحلية القاتلة للتوليد، والمسؤولة عن ارتفاع نسبة الوفيات بين ألأمهات والمواليد ألجدد أكثر من أي وباء. كان عليها الاعتماد على شعبيتها، ومواهبها الشخصية الجاذبة. لقد أدركت أن الوزن الاجتماعى لأعيان المدينة، وزعماء القبائل، سوف يكون أكثر تأثيرا من سلطة الحكومة فى توفير الدعم مهما كان قليلا للحملة ذات الحساسية التى أطلقتها ضد طريقة التوليد الكريهة تلك، فسارعت لكسب ثقة كبار السن، والتحبب إلى العديد من العائلات من خلال إخلاصها فى توجيهاتها، وجاذبيتها الشخصية. تقريبا وبالتتيجة فكل أسرة محترمة مدينة لها، تقريباً، بحياة أنقذتها، أو عضو جديد يتمتع بالصحة أضيف إلى الأسرة.
احترمت مس وولف السرية الغريبة التى يحيط بها السودانيون كل ما يتعلق بالدور الطبيعى للمرأة كزوجة وكأم. فأعطت التقدير اللازم لمهارة وشعبية القابلة التقليدية، وتعاملت معها بعناية وحب، ولم تفكر أبداً فى منعها من العمل، بالرغم من الفظائع التى ارتكبت أثناء ذلك، بل جعلت من واجبها مراقبتها، ومعالجة أخطائها بطريقة حكيمة، وفى نفس الوقت استفادت من التقليد الشائع بأن تورث القابلة هذه المهنة لبنتها، فوجهت عنايتها واهتماها لهذا الجيل الجديد. أخذت على عاتقها المسؤولية المرهقة لفتح فصول للتدريب مكونة من خليط من قابلات صغيرات، أو متوسطات السن، أو كبيرات، ليس فقط فى مهنتهن كقابلات، بل فى مهمات متنوعة مثل استعمال الهاتف، وقراءة وكتابة الأحرف الإنجليزية، والعناية بالأدوات الجراحية الحديثة، وحتى ركوب الدراجات الهوائية. كانت أيضا الشخص الوحيد المسؤول عن جميع الحالات فى قسم الولادة فى المستشفى لزمن طويل قبل أن يقتنع السودانيون بفكرة أن طبيبا رجلا يمكن أن يشرف على توليد نسائهم! كانت تستجيب للنداءات الطارئة، نهاراً وليلاً، وتقوم بالرحلات التفتيشية فى الأركان المظلمة من المراكز النائية والبدائية.
الممارسة البشعة والهمجية لعادة الختان الفرعونى للفتيات، والتى كانت إهانة إجتماعية لكل السودان، شكلت لها هما كان يجثم على صدرها طوال الوقت. والحرب التى أعلنتها ضدها استمرت بكل العنفوان والتصميم. كان المواطنون والحكومة على السواء منزعجين ومنتبهين للحساسية المفرطة لهذا الموضوع، ولم يكن بمقدورهم فعل شىء. كانوا يراقبون بابتسامات الموافقة الصامتة هذه السيدة العظيمة وهى تدافع فى عناد عن مبادئها الإنسانية، وتتصدى لقوى الجهل والغباء المدمرة بعزيمة لا تلين، وذلك من خلال المحاضرات، والنقاشات الخاصة، وتشجيع الأسر المحترمة من بين أصدقائها العديدين على أن يكونوا المثال والمساعدة على إبطال تلك الممارسة البغيضة.
وفى بحثها عن الطريقة الأكثر تأثيراً فى محاربة تلك الممارسة الذميمة إلتفتت إلى مركز تدريبها الصغير القيم، وركزت على ما لديها من جاذبية، وقوة على إقناع وحث السلطات لتوسيع المركز لزيادة عدد الخريجات من القابلات المتدربات اللاتى سوف يكن وفيات لمهنتهن، ويمارسنها وفقا للطريقة العلمية، لا بالطريقة التقليدية. ولبضع سنوات لم تستطع فعل شىء إلا أن تنتظر على أمل، وتثابر فى عملها بروح لا تقهر، حتى توجت مجهوداتها بقيام ذلك المبنى الفخيم “مدرسة القابلات”.
لن تنمحى ذكرى تينك السيدتين أبداً، وسيظل اسماهما موضع احترام وتبجيل، طالما ظلت مضيئة الشعلة التى جاهدتا لإذكائها فى الأركان الأكثر إظلاما من حياتنا.
السَّبت
أبناء جيلى هم مواليد عقد الأربعينات من القرن الماضى، قضى بعضنا ستة عشر عاما تحت العلمين البريطانى والمصرى، وقضى أصغرنا بضع سنوات تحت ذينك العلمين، بينما احتفل بعضنا مع المحتفلين بالاستقلال، فى الأول من يناير 1956م، دون أن ندري كنهه! بعد سنتين من ذلك غنينا مع وردي، من كلمات اسماعيل حسن “فى سبعتاشر هب الشعب طرد جلاده”، دون أن نعرف من هو الجلاد ومن هو الضحية! ثم بعد أربع سنوات أخرى غنينا مع وردي نفسه، من كلمات الفيتوري “أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق”!
فى 1965م صوَّت بعضنا، لأول مرة، فى الانتخابات البرلمانية. لكن .. بعد أربع سنوات كان يحكمنا أبوعاج والزينكو وابوساق!
ونحن فى الجامعات قدمنا الشهيد الأول القرشى، قربانا لإسقاط عبود. لكن بعد خمس سنوات فقط لعلع النميري بالبيان الأوَّل!
فى أبريل 1985م نفذنا الاضراب السياسى مجدَّداً لنسقط حكم الجنرالات، ولنستعيد ديمقراطيتنا الموؤودة، لكن احزاب “البوربون” عادت الى حيلها القديمة، وإلى مماحكاتها المعتادة، فتهيَّأ المسرح لانقضاض الاسلاميِّين على السلطة فى أبلغ كذبة عرفها التاريخ بين التُّرابي والبشير .. “إذهب إلى القصر رئيساً، وسأذهب إلى السجن حبيساً”!
زار الآلاف من أبناء جيلى، والأجيال التالية، سجون النِّظام البائد، وبيوت أشباحه. ولثلاثين سنة ظللنا نناضل ضد ذلك النظام البغيض. وعندما اقتلعته الأجيال الشابة، وقذفت به إلى مزبلة التاريخ، تنفسنا الصعداء، ظانين أننا، أخيراً،، سوف نتخلص، إلى الأبد، من الأنظمة العسكرية، لنكتشف أنها مجرد استراحة يعقبها عسكري جديد، فى كذبة جديدة، اسمها “تصحيح المسار”!
الانقلابيون يخجلون من كلمة “انقلاب” فيبحثون عن “اسم دلع” يستبدلونه بها، فعبود قام بـ “حركة مباركة”، والنِّميري بـ “ثورة مايو” والبشير بـ “ثورة الانقاذ”، أما البرهان فقد قام بـ “إجراءات تصحيحية”!
فهل، يا ترى، كتب علينا قضاء ما تبقى من أعمارنا تحت حكم عسكرى فى ثوب جديد؟!
الأحد
قيل لبعض الحمقى المعروفين بضعف إيمانهم: “ما صنعتم في رمضان”؟! فأجابوا: “اجتمعنا ثلاثين رجلاً فصمناه يوماً واحداً”!
kgizouli@gmail.com