خرج صديق تاور، عضو مجلس السيادة الانتقالي، في لقاء تلفزيوني أخير بما تكتم عليه منذ ثلاث سنوات. وما جاء به دليل دامغ أن سلام جوبا (أكتوبر 2020) لم يكن عهداً بل صفقة سياسية من الدرك الأسفل بين العسكريين في مجلس السيادة والحركات المسلحة. وحفر العسكريون بتلك الصفقة للحكومة المدنية الانتقالية حفراً هو الأصل في انقلاب 11 إبريل 2019. فكانت اللجنة الأمنية أحنت رأسها لعاصفة الثورة إلى حين.
قال تاور إنه كان رئيساً للجنة السلام التي كونها مجلس السيادة لتنفيذ واجبه الدستوري لإحلاله في ربوع البلد. وكان نائبه فيها الفريق ياسر العطا. ونتوقف هنا لنزيل لبساً عظيماً تولد عن خصومات الحرية والتغيير البلهاء رهن تحقيق السلام جزافاً بمنطوق الوثيقة الدستورية بالحكومة الانتقالية.. فظللنا نسمع في ذلك اللجاج أن مجلس السيادة اختطف اختصاص السلام من مجلس الوزراء. وهذا قول لا يجد سنداً قاطعاً من النص. فجاء ذكر اختصاص السلام في موضعين مربكين. اجاء لتكليف ضمن اختصاصات مجلس الوزراء وسلطاته (١٦-٢) بقول الوثيقة إن من تبعات المجلس “العمل على إيقاف الحروب والنزاعات وبناء السلام” في حين كلفت الوثيقة مجلس السيادة بصريح النص ب”رعاية عملية السلام مع الحركات المسلحة” (١٢-س) علاوة على تعيين رئيس وأعضاء مفوضية السلام “بالتشاور مع مجلس الوزراء” (١٢-٣). ومهما يكن فالراجح أن السلام “مع الحركات المسلحة” وآلية إدارة مساعي السلام مما اختص به مجلس السيادة. وسنرى أننا، إذا أحسنا تحليل سلام جوبا، سيكون الترتيب الدستوري الأقل في اعتبارنا متى فهمناه كواقعة شوكة تربصت بها اللجنة الأمنية لكسب الحركات المسلحة لترجيح ميزان القوى لصالحها.
ونواصل عرض ما جاء به تاور في لقائه التلفزيوني:
قال إن لجنته للسلام ظلت ترتب لمساعي السلام زهاء أربعة شهور بتنسيق وثيق مع رئيس الوزراء. ثم حدثت الخيانة أو ما سماه تاور “سلوك استفهاماته لا تزال تحتاج لفهم”. فقال إنه فجاءة اختفى أعضاء سيادييون من العسكريين وبعض المدنيين لمدة أسبوع في اديس أبابا مستضافين بواسطة منظمة أمريكية دولية من رعاة السلام. وهو أمر لم يُعرض على اللجنة كمشروع ولا كموضوع. كان كله من وراء ظهر المجلس ولجنته للسلام. ولا علم للمدنيين من أعضاء المجلس ممن لم يغادروا لأديس به. ولما عاد الجماعة من أديس بعد أسبوع أطلعوا المجلس بأنهم حضروا ورشة بها وتلقوا تدريباً في التفاوض، والتقوا بناس الحركات وقد قطعوا معهم شوطاً طويلاً في الإعداد لمفاوضات السلام. وتهربوا من أسئلة من أراد استيضاحهم عن تلك المهمة التي تمت من وراء ظهورهم ليقفزوا إلى التبليغ بأن ناس الحركات أطلعوهم أنهم لن يتفاوضوا مع الحرية والتغيير، المدنيين، ويفضلون التفاوض مع العسكريين لأنهم من تقاتلوا معهم في ميدان الحرب. وقالوا طالما كان نائب رئيس المجلس، حميدتي، قد سبق له الاتصالات بالحركات المسلحة وبدولة الجنوب، المقر المقترح لاستضافة مفاوضات السلام السودانية، فليكن مشرفاً على السلام، ويكون الفريق كباشي كبير المفاوضين بينما يكون التعايشي ناطقاً رسمياً عن مفاوضي الحكومة. وهكذا انتقل ملف السلام من لجنة تاور إلى العسكريين مطعمين بمدنيين قبلوا بالأمر على علاته. وقال تاور إن العسكريين اختطفوا التكليف الدستوري للجنته بطبخة مدروسة وغير بريئة. ولم يحرك برغم ذلك تاور، ولجنته قد احيلت للعطالة المبكرة، ساكناً. وبرر ذلك بأنه لم يرد أن يبدو كمن يعارض اتفاق السلام. وغاية ما طرأ له أن يمتنع بالكلية عن غشيان جوبا خلال جولات المفاوضات التي تطاولت. فلم يعتب عليها إلا ليشهد التوقيع النهائي للاتفاق.
تؤيد هذه الحكاية الحزينة من وراء اتفاق الصفقة في جوبا ما ذهبنا إليه من قبل من أن صناعة الاتفاق هي الجديرة بالنظر لا نصه. فالنص هو ما أفاقت على رداءته بعض الدوائر متأخرة وجعلت إلغائه أو تعديله مبلغ همتها. وكنت بالمقابل أشدد على الصناعة التي من وراء الاتفاق بالأحرى. واتفقت مع شباب نظارات البجا والعموديات المستقلة حول صفاقة عقد مسار الشرق جزافاً دونهم. ولكن التمست منهم أن يعتبروا الاتفاق كواقعة شوكة أراد بها العسكريون، بصحبة مسلحي الحركات، ترجيح كفة ميزان القوى لصالحهم لإضعاف الحكومة الانتقالية. وكان نص الاتفاق أقل شواغل العسكريين. ولو كان الأمر خلاف ذلك لما ثار كباشي، كبير المفاوضين، في وجه عبد الله حمدوك لتعاقده مع عبد العزيز الحلو في أديس على فصل الدين عن الدولة ليصف التعاقد بأنه “من ما لا يملك إلى من يستحق”. فلو قرأ كباشي، كبير المفاوضين في جوبا، اتفاقه للسلام كما صح لصانع له لما تبرع بجهله على الملأ. فالاتفاق ناضح بفصل الدين والدولة كما لم تفعل وثيقة رسمية من الدولة السودانية من قبل. وليست هذه مرة العسكريين الأولى توقيع اتفاقات مع مسلحي الهامش بدون الاطلاع المسؤول الدقيق عليها للكسب السياسي المجرد. “وحلك”. وعادة ما انقلبوا على مثل هذه الصفقات كل في توقيته الخاص كما فعل نميري باتفاقية أديس أبابا (1972) وكما فعل البشير باتفاق السلام الشامل (2005).
جاء كلام تاور عن صفقة جوبا مؤيداً لما ذاع عن مني مناوى من “اتفاق تحت الطربيزة” شغل الناس في وقته واثار عليه ثائرة حميدتي. كشف مناوي فيه أنهم تعاقدوا مع العسكريين على استمرار قيادتهم لمجلس السيادة في مقابل وقف التحقيق في فض الاعتصام وألا يلحوا على تسليم مطلوبي المحكمة الجنائية الدولية لها. ولمّح لاتفاقات أخرى قال إنها كانت “اتفاق جنتلمانات” بالإنجليزي. وصعب ألا يتصور المرء أن هذه “الاتفاقات الأخرى” خلت من بيت القصيد، مفاوضات السلام في جوبا. وخرج له حميدتي ليقول إنه راجل دوغري وليس ذا وجهين. ويريد للناس تصديقه بالطبع.
ضل بنا التركيز على نص اتفاق جوبا عن ورشة صناعته في صراع اللجنة العسكرية ضد الثورة. فذهب بنا إسراف الاتفاق في كسوب الحركات الدارفورية منه للحسد السياسي والإقليمي. ويا فيها يا أطفيها. ولولا هذا التركيز على النص لا صناعته لانفضح الاتفاق أمامنا كثمرة شريرة لتحالف اللجنة الأمنية مع قوى في الهامش لتصرع الثورة بالمكر بعد أن أعيتها الحيلة لقتلها بالرصاص الذي ما أكثره عندها.
لن يعفي تركيزنا على اتفاق جوبا كواقعة شوكة، لا نصاً، الحرية والتغيير من اللوم على الاتفاق. ولكنه ليس لوم من أمر به بل لوم من أهمل في يقظته الثورية فأذن به جراء استسلامه للسلطان، والترويج لتحالفه مع اللجنة الأمنية كعبقرية سودانية غاضاً الطرف عما بيتته للجم الثورة وقتلها منذ انقلابهم في ابريل 2019.
جريرة الحكومة الانتقالية في صناعة اتفاق جوبا مما تحسن التعبير عنه عبارة إنجليزية. لقد ارتكبوا ما ارتكبوا
by omission not by commission
(لم أجد واقعة اختطاف ملف السلام من لجنة تاور بواسطة العسكريين وبعض المدنيين في مجلس السيادة في ورقة تقييم مجلس السيادة التي قدمها تاور نفسه في ورشة تقييم أداء الحكومة الانتقالية على خطرها. ووددت لو سمعت من التعايشي الناطق الرسمي للجنة حميدتي ما يكشف عن ملابسات اختطاف العسكريين في ملس السيادة دون غيرهم فيه لملف السلام بالتكلفة الكارثية للوطن).
رابط حديث صديق تاور
https://fb.watch/gvKqrwmN3a/
IbrahimA@missouri.edu