الوظائف الصغيرة أو العمالية في منطقتنا كان يشغلها غرباء ، خفير الترعة ، مشغّل وابور الماء ، المساعد الطبي ، مساعد البيطري، الشرطة وكنا نسميهم البوليس . عمال النظافة والصحة ، حرّاس السوق ، كلهم غرباء . كان لهم رأي في المرتبات ، أنها دائما تقصّر عن حاجة صاحبها . كان بيت المزارع أو مربي الماشية أو التاجر يفيض بالعيش ( الذرة ) ، وهي ما كان يطلق عليه ( مونة السنة ) ، كما تتوفر اللوبيا ، واللبن والروب والسمن ، تنخفض أسعار اللحوم لدرجة أنها تبور . فلم يكن أهلنا يرغبون في التعاطي مع الوظيفة ومرتبها، وهم يرون العامل المتلقي للراتب يستلف من الدكان ، ويشتري العيش من السوق بما يسمى كسر العيش وهو يعني شراءه بالكيلة ونصف الكيلة . كانت الوظيفة مذمة ونقصاناً ، وغير مرغوب بها .
استمر هذا الوضع حتى بداية السبعينات ، حيث تبدلت الأحوال وتغيرت بعض المفاهيم . كثيرون هنا – الآن – يعملون كأجراء ، وبعضهم يعمل باليومية . كثيرون يعملون كمعلمين في مدارس الأساس ، وقليل في الثانوية . انتقلوا إلى المدينة فجأة وصاروا من متلقي الرواتب wage earners . هجروا الزراعة والرعي والتجارة بسوق معتوق العامر أبدا بعون الله . وللأسف كان الإقبال على التعليم ضعيفاً رغم مجانيته ، وكانت مخرجاته أضعف ، وكان الناس يفضلون أن يتفرغ أبناؤهم لمعاونتهم في الزراعة والرعي والتجارة .
عندما كنت طالبا مستجدا بالجامعة ، لم يكن لدي أهل ولا أقارب بالعاصمة ، إلا بعض العزابة الذين يعملون في أعمال صغيرة وهامشية . فكنا نزورهم يوم الجمعة للعب الكتشينة ، وتناول الغداء في شكل حلة عزابة ، ولمعرفة بعض أخبار أهلنا في البلد. وكان أغلب هؤلاء العوابة رفاق دراسة بالمدرسة الأولية، وأقران اللعب في القرية ، خاصة عندما تعرفنا على كرة القدم ، وانقسمنا إلى هلال مريخ . وأصبحت القرى نفسها تتنافس على كاسات مشروع الجزيرة عندما كان مشروعاً بحق .
ما الذي دهانا ، وما الذي أصاب مشروعنا حتى تشتتنا كل هذا الشتات ؟ من الذي أضعف فينا عزة النفس ونحن نتغني بأرضنا وزرعنا وضرعنا ، فانتقلنا إلى المدينة نستجديها لقمة العيش . من الذي سنّ هذه السنّة السيئة التي حمل وزرها ووزر من عمل بها . ألم يكن ممكنا اتساع قرانا وحواشاتنا وملكنا الحر ومشروعنا الذي نفاخر به ، حتى نتمكن من الاستقرار في حدودنا المحلية ولا نطلب لقمة العيش خارج حدودها ؟