المجموعة الشبابية، التي بعثت إلينا في أواخر سبتمبر/أيلول الماضي تستكتبنا حول مفهومي الأزمة الوطنية والمؤتمر الدستوري وعلاقتهما بالأزمة الراهنة في البلاد، بعثت إلينا بمكتوب آخر يتناول مسألتين: الأولى التحالفات، طبيعتها وأنواعها ومآلاتها، وذلك بالنظر إلى ما يمور في المشهد السياسي الراهن من تحالفات وانشقاقات وبروز تحالفات جديدة…الخ. والثانية تتعلق بعلاقة منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال العمل الطوعي بالسياسة. سنبدأ بمسألة التحالفات ونترك المسألة الأخرى للمقال القادم. أشير إلى أننا سبق وأن تناولنا موضوع التحالفات في مقال نشر في يونيو/حزيران 2020.
والتحالفات ليست بالظاهرة الجديدة أو الحديثة، بل ظلت دائما موجودة على مر تاريخ السودان القديم والحديث. فتاريخنا القديم شهد التحالفات التي أسست لقيام ممالك ما قبل الميلاد، والممالك المسيحية، والممالك والسلطنات الإسلامية. وتاريخنا الحديث شهد تحالفات مجابهة المستعمر ومقاومة الأنظمة الديكتاتورية وإنجاز مهام الفترات الانتقالية، والتحالفات من أجل استعادة حرية واستقلالية النقابات والاتحادات، والتحالفات القبلية…الخ. والأساس الرئيس الذي يُبنى عليه أي تحالف، والذي يشكل الضمانة الوحيدة لبقائه واستمراره، هو قيامه على أساس المساواة بين أطرافه، بغض النظر عن وزن أو ثقل هذا الطرف أو ذاك، وتوحد هذه الأطراف حول حد أدنى من الثوابت والمبادئ مضمنة في الميثاق أو العهد الذي بموجبه تأسس التحالف، والتزامها الصارم بهذا الحد الأدنى الذي يتم التوحد حوله والاتفاق عليه. ومع ذلك، فإن التحالفات لا تنسخ المواقف المستقلة لأي طرف من أطرافها، ولا تفرض خضوع أي طرف لتكتيكات الآخرين، أو الضغط لتمرير أو تبني خط بعينه، وإنما تتمسك بمبدأ الاستقلال الفكري والسياسي والتنظيمي لهذه الأطراف، وتساويها في الحقوق والواجبات والأعباء. وبالطبع، هذا لا ينفي تناقضات واحتكاكات هذه الأطراف مع بعضها البعض، لكن الموقف السليم أن تعالج هذه التناقضات في إطار الوحدة، وفي إطار سيادة روح التشاور الديمقراطي، وألا تكون التكتيكات الخاصة بهذا الطرف، موازية لتكتيكات التحالف، أو بديلا عنها، وإنما التوافق مع أطراف التحالف الأخرى على تكتيكات مشتركة، لا تتصادم مع الخط الاستراتيجي لهذا الطرف أو ذاك. فالتحالفات تعمل في إطار تناقضات قابلة للاتساع، والرهان على بقائها هو رهان على الذهن المفتوح والقدرة على استصحاب الهدف الاستراتيجي في كل المنعطفات. لقد علمتنا التجربة أن صمود أي تحالف يعتمد بشكل رئيسي على قدرة مكوناته في خلق توازن بين الأجندة الخاصة والأجندة العامة، بين الأجندة الحزبية وأجندة الوطن.
ومن زاوية أخرى، ليس بالضرورة أن يظل الحد الأدنى المتفق عليه في أي تحالف ثابتا، بل يمكن أن يتغير، وفي الغالب صعودا، مع تطور نشاط التحالف، وتطور تعرجات الواقع. ففي تجربة التجمع الوطني الديمقراطي مثلا، تحالفت مكوناته على أساس حد أدنى مضمن في الميثاق الذي تمت صياغته في أكتوبر/تشرين الأول 1989. ثم أخذ هذا الحد الأدنى في الصعود درجات ودرجات حتى وصل إلى مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية في يونيو/حزيران 1995 والتي، بما قدمته من تفاصيل، شكلت حداً أعلى بكثير من الميثاق الموقع عليه في 1989.
التحالفات السياسية ترتبط بالعمل المشترك من أجل كسب مواقع جديدة في مشوار إنجاز التغيير وانتصار الثورة الاجتماعية. ورغم أن تجربة التحالفات في السودان غنية وذات جذور ضاربة في أعماق التربة السودانية، إلا أن ذلك لم يحصنها ضد الاهتزازات والانهيارات، سواء نتيجة انفجار التناقضات بين أطرافها، وهي تناقضات تعتمل داخل أي تحالف باستمرار ودون توقف، وهذا شيء طبيعي، أو نتيجة زوال الظروف التي فرضت التحالف وفق صيغة وشكل محددين، وبروز ظروف جديدة تستدعي شكلا جديدا أو مستوى آخر للعمل المشترك. والتحالفات السياسية ترتبط بمفاهيم التسوية والتنازل والمساومة. وكلها مفاهيم ربما تعرض الانتماء الأيديولوجي لامتحان صعب! لكن، إذا كانت القوى السياسية جميعها قلبها على الوطن، كما تقول، وتمتلك جميعها قدرا من الخبرات والذكاء السياسي كما نعتقد، فالمنطقي أن يحترم كل منها وجهة نظر الآخر التي لا يتفق معها، لأن بالضرورة كل حزب وكل طرف من أطراف التحالف لديه مرجعية فكرية ومنظور ورؤية منهجية مختلفة. لكن الجوهري هنا هو البحث عن المشترك في هذه الرؤى وهذه المرجعيات من أجل مصلحة الوطن والشعب، وهذا يتطلب التنازل والمساومة والتسوية في مواجهة فكرة التمترس للدفاع عن الرؤية والمرجعية الخاصة والمصلحة الضيقة. ومن الخطورة والضرر على التحالف السياسي، أن تتحول المناقشات بين أطرافه إلى مناظرات بين برامج هذه الأطراف، أو إلى انتقادات للمنطلقات الفكرية لهذا الحزب أو ذاك. وفي نفس الوقت، فإن التحالفات السياسية يمكن أن تلعب دورا إيجابيا في التقريب بين الأحزاب والتنظيمات المتباعدة أيديولوجيا، وفي تعلمها كيف تتعامل فيما بينها، وفهم كل طرف للآخر.
والنظرة الموضوعية، وبالطبع الناقدة، لتجارب التحالفات السياسية في السودان، ولإسهامات الاحزاب والهيئات والمنظمات في هذه التجارب، وفي المسيرة الوطنية، تستوجب منا التقيد بمبدأ أن المعالجة الخاطئة من هذا المكون أو ذاك من مكونات التحالف، لا تعني تخوينه أو الحكم بعدم وطنيته، مثلما يجب أن لا يكون حكمنا على تاريخ العمل الحزبي في السودان منطلقاً من موقع الإدانة والتخوين، بل من موقع النظرة النقدية الموضوعية التي تتيح لنا استخلاص الدروس، علما بأن الحزب بنية قابلة للنقد والتغيير والمراجعة بصورة دائمة من خلال الممارسة الديمقراطية ونشاطه الفكري المنفتح على ثقافة ومتغيرات العصر. ومن ناحية أخرى، فإن التغلغل القبلي أو الاثني في السياسة، وتنامي النعرة العنصرية وحمى الهوس الديني التكفيري، وبروز الميليشيات المسلحة ذات المنطلقات الاثنية أو الجهوية، إضافة إلى الانقسامات الأميبية وسط الأحزاب، كلها عوامل مهددة لقيام التحالفات السياسية الوطنية الواسعة، مما يعني تهديد قيام واستقرار الدولة الوطنية والمجتمع المدني في السودان.