القوى السياسية المفاوضة للعسكر حول الشراكة، لا تمانع من الاستجابة لشرط عدم محاسبة ومقاضاة كبار العسكريين والأمنيين، المتهمين في جريمة فض الاعتصام وجرائم أخرى ارتكبت بعد إزالة رأس السلطة الانقاذية، وهذه القوى نفسها شاركت بفاعلية في السلطة الانتقالية في مرحلتها الأولى والتي نحرها قائد الجيش بسيف انقلابه العقيم، وكما هو ملحوظ فإنّ العسكر لن يرضوا بتسليم مقاليد الأمر السلطوي إلّا لحكومة ضعيفة تنتفخ أوداج رموزها عبر منصات الأجهرة الاعلامية تنمراً وتنخفض رؤوسهم داخل قاعات الاجتماعات انكساراً، هذه هي الشراكة الدموية القادمة يا سادتي من دون مواربة ولا تطفيف، فالخطان السياسي والثوري لم يتطابقا بعد، والساسة السودانيون لم ينسوا قديم مسلكهم ولم يستوعبوا درس ديسمبر المجيد الجديد، وكما فرّطوا في القصاص بعد أن تولوا الأمر الحكومي لسنتين متتاليتين وبضعة أشهر بقصد بائن، سيضيعون القضية المحورية ويرهنون حقوق المواطنين الذين أزهقت أرواح بنيهم وبناتهم للتسويف والمماطلة، ولن يجدي الأهداف المعلنة للثائرين إلّا التصعيد تلو التصعيد حتى يفتت بيت العنكبوت، ولا حل يلوح في الأفق سوى المضي قدماً في طريق الثورة المحفوف بالمخاطر، فالذين أكلوا الأموال العامة (أكلاً عجيباً) وشركاؤهم من ألوان الطيف السياسي الآخر لا تهمهم العدالة.
تحالف الرأسمالية الطفيلية الراعية لجميع حكومات القهر والتجبر العسكري، والقوى الحزبية القديمة الراضعة من ثدي رأس المال الطفيلي هذا، والنطيحة والمتردية مما يسمى بحركات الكفاح المسلح القادمة من جوبا، تلك الفاضحة لاجندة اتفاقهم السري مع العسكر المبرم تحت الطاولة والضامن للضالعين في ارتكاب جرائم تقشعر لها الأبدان الإفلات من العقاب، كل هذه الفسيفساء المتناقضة تعمل بلا كلل ولا ملل من أجل صناعة دكتاتورية هجينة جديدة تكون أكثر فتكاً من تسلط الحزب المحلول، هذا مع استصحاب الدور الفاعل للأسرتين الدولية والاقليمية صاحبتي الأجندات المتداخلة والمتناقضة أيضاً، فهذا الوطن أضحى فريسة منهوشة بأنياب الوحوش الماكرة ومناقير الجوارح الكاسرة، وقد حدثنا القانونيون عن خصيصة قانونية تسمى (الاشتراك الجنائي)، تحول بين المتواطيء صاحب أقل قدر من المساهمة في الجرم وبين تحقيق العدالة، وهذا ما نشهده اليوم في مسرح العبث السياسي الذي تتوالى مشاهده المأساوية يوما بعد آخر، فالجرم البشع المرتكب بتخطيط وتدبير كبار العقول الأمنية والمنفذ بسواعد صغار الجنود، تسوق مرتكبيه هذه الخصيصة القانونية سواء بسواء، دون استثناء لصغير على كبير ولا لمطلق الرصاص على مصدر الأوامر، وحتى الشياطين الخرس الذين صمتوا ليلة الفجيعة قد اشتركوا جنائياً.
الأزمة السودانية يمتزج فيها الجنائي بالسياسي بالاقتصادي، ولكن البعد الجنائي فيها أعمق وذلك لنشوب حروب نتجت عنها جرائم حرب بحق المدنيين، سواء كان ذلك داخل المدن – جريمة فض الاعتصام أو في الريف – اسقاط قنابل الانتونوف على الكهوف والبيوت التي يقطنها أناس لا علاقة لهم بمهددات كرسي ذلك الحاكم المقيم في قصر غردون، مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم لارتباطها بسيرورة العملية السياسية في البلاد، وإذا لم تكترث لها القوى السياسية الصاعدة على مسرح السلطة، ستكون هذه القضايا الجنائية القشة القاصمة لظهر أي سلطان، والتحدي الأعظم الذي بدون الخلاص من تبعاته قضاءياً وعدلياً لن تسلم جرة منظومة الحكم المعاصرة لحدوث هذه الجرائم، فالرحلة ليست محاطة بأسباب الترف والتنزه والتجوال الترفيهي مثلما يتصور رموز القوى الحزبية القديمة، إنّ الأمر لجلل، وإنّ الناس بحاجة للحل والحلل، وما القضية الشهيرة للشهيد الاستاذ أحمد الخير بمنأى عمّا نحن بصدده، فالذين تعاونوا على إسكات صوته للأبد بطعنات الحديد وصفاقة الوعد والوعيد، لم يدر بخلدهم أن جماعتهم العتيدة سيحكم عليها بالاعدام رغم توسلات الأهل وجوديات العشائر وتوسطات الأكابر، فقد تجاوزت المجتمعات السودانية تلك الطيبة المتناهية المكرّسة للمثل:(الأضينة دقو واعتذرلو).
اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com