رُوزنامةُ الأسبوع ـ
الاثنين
قال لقمان الحكيم يعظ ابنه: «إذا افتخر النَّاس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك»!
الثُّلاثاء
مرَّت، في الثَّاني من سبتمبر المنصرم، الذِّكرى الثَّالثة والعشرون بعد المائة لذِّكرى استشهاد عشرة آلاف رجل، وجرح ستَّة عشر ألفاً آخرين، خرجوا، ضمن أربعين ألفاً، من بوَّابة أم درمان الغربيَّة، ثمَّ انعطفوا نواحي شمالها الشَّرقي، ليؤدُّوا صلاتهم الأخيرة في كرري، ذات فجر ملبَّد بغمام خريف آفل!
ستَّة وعشرون ألف فؤاد لم يَعُزْها الإيمان ولا الذَّكاء، غير أن العزلة الخانقة فرضت عليها ألا تبلغ من عِلم السِّلاح أكثر من بقايا مدافع هكس الجَّبليَّة قصيرة المدى، وبنادقه البطيئة ماركة «ريمنتون»، و«أبو صُرَّة»، و«أبو روحين»، و«بيادة»، و«أورشليك»، و«خشخان»، وألا يطوف عليها محض طائف من رشاشات «المكسيم»، أو دانات «المنثار Sharphel»، أو شظايا «الخرطوش Case Shots»، أو بوارج الأساطيل المدرَّعة (ع زلفو؛ كرري، ص 359 ـ 360 ـ 412).
عشـرة آلاف شـهيد وسـتَّة عشـر ألف جـريح تدافعـوا، كمـا الضَّـواري الكواسر، ومـلء الصُّدور نشيد واحد ما أكثر ما دوَّى، في ذاكرة الثَّورة، عبر الوديان، والبراري، والصَّحاري، والجِّبال، والسُّهول، والغابات: «في شان الله .. في شان الله»! لكن قليلاً ما تهيَّأ له، في ذلك النَّهار الأغبر، التحام ينقع الغلَّة أو يجلو الشَّجاعة. فأذرع المدفعيَّة الطويلة، مفخرة العدوِّ التي لم تكن قد أتيحت لأولئك البواسل أدنى معرفة بها، ظلت، وعلى مدى ساعات أربع هنَّ عمر المعركة، تحصد الصُّفوف المتراصَّة «لعظمة الرُّجولة الصَّامدة» (Churchill, W. S. The River War, London, 1949)، الصفَّ وراء الصفِّ، تماماً مثل إعمالك ممحاة على أسطر بقلم الرَّصاص فوق صفحة بيضاء!
عشرة آلاف شهيد وستَّة عشر ألف جريح تناثروا، شظايا مفتَّتة من اللَّحم والعظم، على طريق الصَّـلف الزَّاحـف من وراء البحـار باسـم المـدنيَّة والإنسـانيَّة، بل وباسـم الله نفسه! «كانوا أشجع من مشى على الأرض، دُمِّروا، ولم يُقهروا، بقوَّة الآلة»، هكذا دوَّن تشرشل في دفتر المراسل الحربي (Ibid). وكتب ستيفنس: «لقد بلغ رجالنا درجة الكمال، ولكنهم هم فاقوا حدَّ الكمال. كان ذلك أعظم وأشجع جيش خاض حرباً ضدَّنا .. حملة بنادقهم يحيط بهم الموت والفناء من كلِّ جهة، وهم يجاهدون عبثاً لإطلاق ذخيرتهم القديمة، الرَّديئة، عديمة الأثر، في وجه أقوى وأحدث أسلحة التَّدمير» (مع كتشنر إلى الخرطوم، ص 211 ـ ضمن: زلفو؛ كرري). وبعد زهاء السَّبعين سنة من المعركة كتب فيليب وارنر: «ربما وجدنا، إذا نقَّبنا في تاريخ الإنسان، جماعة ماثلت في شجاعتها الأنصار، ولكننا، قطعاً، لن نجد، مهما نقَّبنا، جماعة فاقتهم شجاعة» (قيام وسقوط إمبراطوريَّة أفريقيَّة، ص 9 ـ ضمن المصدر).
في عقابيل المعركة دخل السِّردار أم درمان بجيشه، وزار بيت الخليفة، وأطلق سراح السُّجناء الأوربيِّين، وأقام رئاسته في جامع الخليفة. لكن إطلاق النَّار المتقطِّع لم يتوقَّف حتَّى اليوم التَّالي، حيث أحضر، في الصَّباح، كبار الأسرى من الأمراء الملازمين، أمام سلاطين الذي أمر بإعدامهم غرب المدينة، وفي مقدَّمتهم الأمير العريفي الرَّبيع الذي أطلق اسمه، بعد الاستقلال، على موقع الإعدام المعروف بهذا الاسم، حاليَّاً، في العباسيَّة. بعدها أمر السِّردار بهدم قبَّة المهدي، واستباحة المدينة ثلاثة أيَّام، حيث نهبت بيوت الخليفة، والأمراء، والأهالي، وسقط ضحيَّة ذلك عدد كبير من النَّاس على أبواب بيوتهم دفاعاً عن أعراضهم، وممتلكاتهم.
بدت أرض المعركة، بعد اليوم الثَّالث، كمقبرة هائلة. ومثَّلت جثث «الكارا» المتراصَّة تحت سطح جبل «سركاب» الشَّرقي امتداداً لطريق ابراهيم الخليل الدَّموي، بفاصل ثلاث ياردات بين كلِّ جثَّة وأخرى! ثمَّ صارت الجُّثث أكواماً حيثما ازدادت كثافة المدفعيَّة، فقد أحصيت 400 جثَّة في مساحة لا تتجاوز مائة ياردة مربَّعة! وامتدت الجُّثث المكدَّسة على خطَّين طويلين، من قلب أرض المعركة إلى «البُقعة» التي ظلت ترفرف عليها «الرَّاية السَّوداء». وإلى الشَّمال منها أثر هجمة فرسان «دغيم»، حيث اختلط اللون القرمزي، بلون الملابس البيضاء، بلون الجِّياد الأصهب!
في تلك السُّهول ظلت الشَّمس المحرقة تسلِّط سياطها، طوال النَّهارات، يوماً بعد يوم، على آلاف العطشى من الجَّرحى الذين لم يكن الواحد منهم ليتمكَّن مِن الزَّحف، بشقِّ الأنفس، سوى بضع ياردات في اليوم تجاه النَّهر، وأعينهم تكاد تطفر من محاجرها لأجل قطرة من مائه، لكنها لا تبلغها قط! أمَّا في المساءات فقد ظلَّ ضوء النُّجوم المتلئلئة ينعكس، على جثث الجُّنود الأبطال، والقادة العسكريِّين العظام الذين حفروا أسماءهم عميقاً في لوح الخلود، يعقوب، الخليل، ود بشارة، عثمان أزرق، أبو سوار، والآلاف غيرهم!
لكن بعض الجَّرحى وجدوا أحياءً، تحت الظِّلال الشَّحيحة لبضع شجيرات، حتَّى بعد أسبوع من المعركة، وذلك بفضل هاتيك اللائي ظللن يتسلَّلن تحت جنح الظَّلام، كلما غربت الشَّمس، بين صمت الجِّبال السَّاكنة، وعويل الثُّكالى المكتوم، ليعالجن الجَّرحى، ويطعمن الجَّوعى، ويسقين العطشى، ويدفنَّ القتلى، لله درُّهنَّ .. حبيباتي نساء أم درمان!
الأربعاء
لطالما اعتبرت بيت المتنبي القائل صدره: «عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأَتِي العَزَائِمُ»، وعجزه: «وَتَأتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامٍ المَكَارِمُ»، أحد أهمِّ الدَّلائل على حِسِّ أبي الطَّيِّب الرَّفيع بدياليكتيك المعاني والمباني في اللغة، قبل قرون طوال من أطروحة هيغل، بتعديل ماركس، حول المسألة!
خطر لي ذلك إزاء «تصحيف» طريف لصدر هذا البيت كالآتي: «عَلَى قَدْرِ أَهْلِ النَّصبِ تَأْتِي المَنَاصِبُ»! ثمَّ لعجزه كالآتي: «وتَأتِي عَلى قَدْرِ اللصوصِ اللصَائِصُ»!
الخميس
أشرت، ذات روزنامة سبقت، إلى قِدَم علاقة «الموز» بـ «السِّياسة»، في بلادنا، وذلك في مقالتي التي نقلتها «الصَّحافة» عن «الجَّزيرة نت» في 21 يناير 2012م، وافترعتُها بقولي: لو كان التُّرابي أقلَّ «دغمسة» للحقائق، والصَّحفيُّون أكثر اعتباراً بالتَّاريخ، والذَّاكرة الشَّعبيَّة أقوى مِمَّا هي عليه، لما تحوَّلت دعوة الإسلامويِّين للصَّادق المهدي للمشاركة في انقلابهم عام 1989م من واقعة تاريخيَّة ثابتة إلى محض مغالطة سياسيَّة! فقد ظلت تتواتر، عقداً ونيفاً، والتُّرابي صامت! وحتَّى عندما تطرَّق الصَّادق إليها، ضمن خطاب الاستقلال في الثَّاني من يناير 2012م، فإن التُّرابي لم يعقِّب بغير الالتواء بالمعنى قائلاً: «من يريد أن يعمل انقلاباً لا يستشير الصَّادق»!
لقد كنَّا أوَّل من سعى لتحقيق تلك الواقعة، ودور أحمد سليمان فيها، لا من باب المبالغة في تقدير دور الفرد، وإنما من باب عدم الإهدار المطلق لهذا الدَّور! فالرَّجل كان قياديَّاً في الحزب الشِّيوعي، ولعب دوراً مهمَّاً في توريطه بانقلاب مايو 1969م، قبل أن ينتقل، عقب انتفاضة 1985م، إلى قيادة حزب الاسلامويِّين. لكن القليل فقط مِمَّا يُجترُّ حول انقلاب هؤلاء، في 1989م، يكاد لا يغادر العموميَّات، فمعظمه، كسلفه المايوي، إمَّا تحت التُّراب، أو طيَّ الصُّدور، أو رهن المغالطات الكثيفة. ونخشى، مع كرِّ مسبحة الزَّمن المتلاف، أن ينطمس الحدث، وينبهم العلم، ويختلط الواقع بالوهم، فيصعب تأريخه، دع تحليله!
…………………………….
…………………………….
أواخر عام 1992م زارني الإمام ليحمد لي سلامة الخروج، وقتها، من بيت الأشباح، ووجد معي شقيقي محمَّد وجاري وصديقي عثمان النِّيل. وأثناء أنسه الذي لا يُملُّ قال لي: «كانت الجبهة الإسلاميَّة مؤتلفة معنا في (حكومة الوفاق). وكنَّا خارجين لتوِّنا من أزمة ديسمبر 1988م، وسببها زيادات كنَّا اعتزمناها في الأسعار، كما كانت الأجواء ملغومة بـ (مذكِّرة الجَّيش) في 20 فبراير 1989م. فجاءني أحمد سليمان، ذات مغرب من مارس، ببيت الملازمين، في ما حسبتها زيارة اجتماعيَّة عاديَّة. وتطرَّقنا إلى تلك الأزمة، فسألني فجأة:
ــ «ألا توافقني في أننا الأكبر تفويضاً شعبيَّاً»؟!
فهمت أنه يشير لحزب الأمة والجبهة الإسلاميَّة معاً، فأجبته:
ــ «بحسب صناديق الانتخابات .. نعم».
ــ «حسناً .. ليس ثمَّة مخرج من هذه الأزمة ما لم نحسم قضيَّة السُّلطة عسكريَّاً، ونتحوَّل إلى النِّظام الرِّئاسي، ونغلق البلد لعشر سنوات انتقاليَّة، فنعالج مشكلة الجَّنوب، ونسدِّد ديوننا، وننعش اقتصادنا، ونرمِّم علاقاتنا الخارجيَّة، ونحسم الفوضى الحزبيَّة، والنقابيَّة، والصَّحفيَّة، ونهيِّئ الأجواء لديموقراطيَّة راشدة، ولا أرى أنسب منك، طوال الانتقال، رئيساً للجُّمهوريَّة»!
قال الصَّادق إنه لم يخطر بباله، أثناء حديث أحمد، سوى أنه الرَّجل الذي ورَّط الشِّيوعيِّين في انقلاب 1969م، ويريد أن يسوِّق للجَّبهة ولنا مغامرة جديدة، فقلت له:
ــ «قد تبدو الخطة برَّاقة نظريَّاً، لكنها عمليَّاً ليست كذلك! أنظر .. بالدِّيموقراطيَّة سحبنا زيادات الأسعار، وعالجنا أزمة الزِّيادات ومذكرة الجَّيش، وعلاجنا لا يعيب الدِّيموقراطيَّة، لأنه من طبعها، أما الشُّموليَّة فتركِّز على تأمين نفسها، من عسف إلى عسف، مع الانفاق البذخي على الأمن والدِّفاع، ومع ذلك هيهات أن تحقِّق أيَّ استقرار»!
وختم روايته قائلاً:
ــ «بعد أيَّام، سألني التُّرابي، في مناسبة عائليَّة، هامساً: هل جاءك أحمد؟! ففكرت برهة، لكنِّي حين أدركت المقصود، والتفتُّ إليه، ألفيته فصَّ ملح وذاب! هكذا بلغتني الرِّسالة: ننتظر ردَّك»!
…………………………….
…………………………….
لم أشر لرواية الصَّادق تلك إلا بعد سبع سنوات، عبر ندوة دعتنا إليها «أخبار اليوم»، مطالع 1999م، بمناسبة «لقاء جنيف»، آنذاك، بين التُّرابي والصَّادق، بوساطة كامل إدريس وعمر التُّرابي. وكان المشاركون، غيري، في النَّدوة: إبراهيم أحمد عمر، علي حسن تاج الدين، تاج السر محمد صالح، علي السيد، الحاج ورَّاق، يحيى الحسين. ثمَّ علمت، بعد أشهر، أن الصَّادق باح بروايته تلك، أثناء احتفال حزبه بعيد العمال، في مقرِّه بالقاهرة، أواسط مايو 1999م.
كان مِمَّا دفعني لرواية الواقعة في تلك النَّدوة احتياجي لأسند بها تحليلاً بدت لي وجاهته للقاء جنيف، وفحواه اتِّساع الفتق على الرَّاتق بين التُّرابي الذي ترجَّحت لديَّ رغبته في المضي بخطَّة السَّنوات العشر إلى نهاية الشُّوط، وبين تلاميذه الذين أرادوا تكريس تحالفهم نهائيَّاً مع العسكر! ومن ثم خلصت إلى أن «لقاء جنيف» لا بُدَّ وقع من خلف ظهر أولئك التَّلاميذ، خصوصاً أنَّهم، قبل خمسة أشهر مِنه، باغتوا التُّرابي بـ «مذكرة العشرة، في العاشر من ديسمبر 1998م، قبل أن يُقصوه من السُّلطة نهائيَّاً، بـ «قرارات رمضان» في الثَّاني عشر من ديسمبر 1999م.
…………………………….
…………………………….
في مغارب عمره أجرى أحمد سليمان حوارين مهمَّين: أوَّلهما قبل خمس سنوات من وفاته مع «الصَّحافة»، والآخر قبل أربع سنوات منها مع «الرَّأي العام». وعقب وفاته أعيد نشر الحوارين في الثَّاني والثَّالث من أبريل 2009م. واشتمل كلا الحوارين على رواية مغايرة لرواية الصَّادق، لكنها متناقضة في داخلها؛ إذ قال، في الأولى، إنه مَن أقنع التُّرابي بتلبية دعوة الصَّادق للتَّفاكر حول «مذكرة الجَّيش»، و«رافقته، بطلب منه، حيث عرضت على الصَّادق أن يقود معنا انقلاباً داخل البرلمان لنغيِّر النِّظام إلى رئاسي، ويكون هو رئيس الجُّمهوريَّة، لكن الصَّادق شعر كأنَّني أستدرجه .. لم يفهم مقصدي!» (الصَّحافة، 2 أبريل 2009م). غير أنه عاد، في الرِّواية الثَّانية ليؤكِّد أن التُّرابي اتَّصل وحده بالصَّادق، لإقناعه بالانقلاب «لكن الصَّادق تَردَّد .. لم أكن الوسيط، ولكني أثَّرت على التُّرابي ليقابله!» (الرأي العام، 3 أبريل 2009م).
نقطة ضعف الرِّواية الأولى هي زعم أحمد أنه كان يهدف للتَّغيير بـ «الوسائل الدِّيموقراطيَّة!»، ما يصعب «شراؤه»، لا لتعارضه، فقط، مع رواية الصَّادق الرَّاجحة بالمضاهاة، وإنما مع مجمل ما عُرف عن أحمد من تغليب للنَّهج «الانقلابي» في النَّظر والعمل! وليس الدَّليل الأوحد على ذلك سابقة انحيازه لانقلاب مايو، حدَّ قيادته لأخطر انقسام في تاريخ الشِّيوعيِّين، وإنَّما هناك تباهيه، أيضاً، باعتياده الدعوة للانقلاب، سواءً في الحزب الشِّيوعي أو الجَّبهة الإسلاميَّة، خصوصاً بعد «مذكِّرة الجَّيش»، مردِّداً: «أحَرامٌ على بلابلهِ الدَّوْحُ، حَلالٌ للطيْر مِنْ كلِّ جِنْس»؟! بل بلغ به التَّباهي، دون أن يتنبَّه، حدَّ «تبرئة» عبد الخالق من أيِّ «تأهيل انقلابي!»، محتكراً ذلك لنفسه بقوله: «كنت أسهر الليل كله مع الضُّبَّاط ومسؤولي الأمن، وأعرف منهم تفاصيل ما يدور؛ أما عبد الخالق فكان يفتقر لهذه التَّجارب التي «تؤهِّل» لقيادة انقلاب عسكري!» (الرَّأي العام، 3 أبريل 2009م)؛ وإلى ذلك ما كشف عنه من تحريضه لانقلابيِّي1989م، في اجتماع مشترك بين مجلس الثَّورة وقيادة الجَّبهة، على «الاستمساك بالشُّموليَّة»، سائقاً لهم الموعظة من غفلة «مجلس الثَّورة» في غواتيمالا، نقلاً عن وود وورد في كتابه «القادة The Commanders»، حيث اقترح عليهم وزير داخليَّتهم المتأثر بالأفكار «الليبراليَّة» إجراء انتخابات، «ففعلوا، فراحوا في ستين داهية!» (المصدر). وفي ذلك ما يغني عن أي دحض آخر للادِّعاء بأن الرَّجل أراد إقناع الصَّادق بالتَّغيير بالوسائل «الدِّيموقراطيَّة»، أو ما أسماه، في تلاعب لفظي، «الانقلاب الدِّيموقراطي»!
…………………………….
…………………………….
أما الطَّيِّب زين العابدين، العضو السَّابق في مجلس شورى الجَّبهة، فقد قطع بشأن موقف أحمد الانقلابي، قائلاً إنه «ساهم حتَّى في إقناع التُّرابي نفسه بالموضوع دا .. وكان يردِّد أن الانقلاب زي الموزة، أحسن تأكلها أوَّل ما تنضج، مش قبل كدا، أو بعد كدا!» (الوطن، 7 فبراير 2009م). وبصرف النَّظر عمَّا إن كان «الموز» هو ما ضرب به أحمد المثل، أو «المانجو»، كما في رواية أخرى، فقد قال الطيِّب لأحمد قولاً شبيهاً بقول الصَّادق، مغلِّباً سداد التَّحمل لكلفة الاستحقاق الدِّيموقراطي، «فالانقلاب .. شغله الشَّاغل تأمين سلطته .. بأيَّة وسيلة، أخلاقيَّة أو غير أخلاقيَّة، دينيَّة أو غيرها!» (المصدر). وأمَّا علي الحاج، فبصرف النَّظر عن أنه كان «مع الانقلاب، لكن ليس مع نتائجه!» (سودانايل، 11 نوفمبر 2009م)؛ فثمَّة نقطة في حديثه لافتة، حيث قال: «لم نكلف أحمد سليمان بإقناع الصَّادق بالمشاركة، لكنه شخص انقلابي بطبعه، وقد حكى لنا الأمر كمبادرة شخصيَّة منه!» (المصدر).
…………………………….
…………………………….
خمس روايات، إذن، ترجِّح دعوة الجَّبهة للصَّادق لمشاركتها انقلاب1989م، سواء عن طريق أحمد سليمان ، أو التُّرابي، أو كليهما: الأولى للصَّادق نفسه، والأخرى لزين العابدين، والثَّالثة لعلي الحاج، واثنتان متناقضتان لأحمد، بينما التُّرابي يفاقم التَّعتيم، و«الدَّغمسة»، ساحباً أقدام الصَّحافة وراءه؛ فانظر لمدى صعوبة استجلاء الحقيقة بتكبُّد التقاط مثل هذه الجُّزازات، وتدقيقها، ومضاهاتها، قبل لصقها إلى بعضها البعض،على طريقة الكولاج، للظَّفر بصورة تقرُب، أو لا تقرُب، من «الأصل»، في ما يتعلَّق بمن دعا الصَّادق للمشاركة في الانقلاب!
الجُّمعة
أسعدني تعاقدي، عام 2011م، مع وزارة العدل الإرتريَّة، لمراجعة بعض تشريعاتهم، بقضاء بضعة أشهر في أسمرا الفاتنة التي خلبت لُبِّي ببساطتها الآسرة، ونظافتها المائزة، وأمانها الشَّامل، وإنسانها الرَّاقي، وهدوئها الذي تكاد تظنُّ، من فرط تمامه، أنَّ النَّاس فيها لا يتكلَّمون إلا همساً، أو بلغة الإشارة، وأن عرباتها لا تسير على شوارع من الأسفلت، وإنَّما تنزلق فوق ملاءات مشدودة من الحرير النَّاعم! وقد اعتاد أصدقائي هناك من مستشاري الوزارة، وقضاة المحكمة العليا، أن يحيطوني، مشكورين، باهتمامهم الفائق، وكرمهم الفيَّاض، ويرتِّبوا لي، بين الحين والآخر، برامج ترفيهيَّة تنتشلني من جفاف العمل، وروتينه الصَّارم.
أخذوني، ذات ضحى، إلى حديقة صغيرة بجوار مكتبة أسمرا الشَّعبيَّة، حيث كان الرُّوس قد أقاموا، عام 2009م، تمثالاً نُحاسيَّاً رشيقاً، من أعمال نيقولاي كوزنيتسيف، لأمير شعرائهم، بل أحد أعظم شعراء البشريَّة قاطبة، والأب الشَّرعي للرِّواية والمسرح الرُّوسيَّين، والمؤسِّس، بلا منازع، للغة الأدب الرُّوسي الحديث، الاسكندر سيرغييفيتش بوشكين. ولئن سبق أن أقيم مثل هذا التِّمثال، وما يزال يُقام، في أماكن مختلفة حول العالم، فإن لإقامته بأفريقيا سيرة فخر واعتزاز تستحقُّ أن تروى.
تعود هذه السِّيرة، في نسختها القصيرة، إلى ما قبل زهاء القرنين. فقد وُلد بوشكين عام 1799م، بموسكو، لعائلة أرستقراطيَّة تنتمي، من جهة والده الشَّاعر المعروف سيرغي بوشكين، إلى حاشية من نبلاء البلاط القيصري. لكنه قُتل، للأسف، في عمر صغير، عام 1837م، أثناء مبارزة اقطاعيَّة تقليديَّة على حبِّ امرأة مع ضابط نكرة! فانظر، للمفارقة، كيف يمكن لصعلوك مفتقر لأدنى قيمة، لا أن يسئ، فقط، لأيقونة عالميَّة في الشِّعر، والرِّواية، والمسرح، وإنَّما، فوق ذلك، أن يقتله!
أمَّا في نسختها الطويلة فتعود هذه السِّيرة إلى الفترة ما بين خواتيم القرن السَّابع عشر، تاريخ ميلاد جدِّ بوشكين الأكبر لأمِّه، الجـنرال الإريتري أبراهام هانيبال الملقَّب بـ «زنجي بطرس الأكبر»، وخـواتيم القــرن الثَّامـن عشــر، تاريـخ وفـاة هذا الجِّد (1698 ـ1781م). فوالدته ناديجدا هي إبنة أوسيب هانيبال وماريا بوشكينا، وحفيدة أبراهام هانيبال الذي وُلد، بإريتريا، عام 1703م، لأمير أسير كان يتبع للسُّلطان العثماني، فأرسل إلى قصر هذا السُّلطان في القسطنطينيَّة. لكن سافا راغوزينسكي، مبعوث روسيا إلى هناك، أقدم، في العام التَّالي، على انتشال الأمير من بين خدم الحريم، واصطحبه إلى موسكو، حيث قدَّمه للإمبراطور بطرس الأكبر الذي عمَّده، ولقَّبه بهانيبال، وأصبح أباه الرُّوحي، فتربَّى في كنفه، وتعلَّم حتَّى أصبح مهندساً عسكريَّا برتبة جنرال. ولعلَّ علاقة ذلك الجِّد بالقيصر هي التي أوحت لبوشكين الحفيد برائعته المشهورة «ربيب بطرس الأكبر»، إحدى أهمِّ معالم الأدب الرُّوسي التَّاريخيَّة.
الانتماء الأسري، إذن، إلى طبقة النُّبلاء، هو الذي مكَّن بوشكين من الالتحاق بأرقى المؤسَّسات التَّعليميَّة الرُّوسيَّة، بما في ذلك كليَّة الشُّؤون الخارجيَّة. غير أن ولعه بالإبداع الأدبي حال دون اهتمامه بها، فأهملها، وانكبَّ، بكلِّ استعداداته العقليَّة والرُّوحيَّة، على مراكمة ما اعتُبر، لاحقاً، أضخم ميراث في الأدب الرُّوسي، من قصائد، وسرديَّات، ويوميَّات، ومذكِّرات، وخطابات، ودراسات نقديَّة، وخلافه. لكن أجواء البلاط القيصري لم تحُل دون انحيازه إلى أبناء الشُّعب البسطاء، وتعبيره عنهم، وتبنِّيه لقضاياهم. لذا فقد تأثَّر، تحت أقسى ظروف استبداد القيصر والنُّبلاء، بالفكر الاجتماعي المتطلع لإحداث تغييرات جذريَّة في روسيا. فكان أحد روَّاد ذلك الفكر، مِمَّا تجلَّى في سائر أعماله الإبداعيَّة. لكن، برغم خلافه مع القيصريَّة والنَّبالة، فإن بطرس الأكبر، شخصيَّاً، كان من أشدِّ المعجبين بنتاجاته الأدبيَّة والشِّعريَّة، وكان يتمنَّى أن يكسبه كشاعر بلاط! سوى أن بوشكين واصل نقده بعناد، لهذه المؤسَّسة، فاتَّهمه القيصر بالخيانة، ونفاه إلى القوقاز، حيث تأثَّر بالاسلام، وبثقافة المسلمين، وعبَّر عن احترامه لهم في مجموعة قصائده «قبسات من القرآن». كما كتب خرائده الأخرى الشَّهيرة «الأسير القوقازي»، و«أمام النَّبيلة الأسبانيَّة»، وروايته «ليالي مصريَّة»، ومقالته عن «تاريخ الثَّورة الفرنسيَّة» التي مجَّد فيها نضال الشَّعب اليوناني لأجل الحريَّة، مع أنه لم يغادر روسيا طوال حياته! وفي هذا قال فيودور دَستوييفسكي، عام 1880م، أثناء تدشين تمثال بوشكين في موسكو: «من ميزاته الفنيَّة النَّخوة العالميَّة، وتجلِّيه الكامل في عبقريَّة تنتمي للشُّعوب كافَّة». هكذا طرح دَستوييفسكي قوميَّة الشِّعر وعالميته لدى بوشكين. فالعبقري الذي مجَّد القرآن لم يكن بالضَّرورة مسلماً، لكنه استوعب جميع الثَّقافات، والأديان، والحضارات، فأضحى أكبر من مجرَّد روسي! وإلى ذلك عكست روايته الشِّعريَّة الأشهر «يفغيني أونيغن» الكثير من حياة النَّاس في عصره، مثلما أرَّخ، شعريَّاً، للقيصريَّة الرُّوسية، من بطرس الأوَّل إلى نيقولا الأوَّل، كما أرَّخ، بوجه عام، لأحداث النِّصف الأوَّل من القرن التَّاسع عشر.
السَّبت
في 19 يوليو 2018م قامت قيادة اتِّحاد طلاب جامعة مانشستر، التي تحمل اسم ستيف بيكو، المناضل الجَّنوب أفريقي ضدَّ الفصل العنصري، بمحو جداريَّة في مقرِّ الاتِّحاد تحمل قصيدة للشَّاعر الإنجليزي روديارد كيبلينغ يعود تاريخها إلى العام 1895م، محتجِّين على ما رأوه توجُّها «عنصريَّا» فيها، ومعتذرين للطلبة عن التَّقصير في عدم استشارتهم بشأن اختيارها ابتداءً، واستبدلوها بمقطع من قصيدة الشَّاعرة الأمريكيَّة مايا أنجيلو «ما زلت أنهض»، وذلك للتَّأكيد على دور «السُّود والسُّمر» في صناعة التَّاريخ.
وقالت ريدي فيسواناثان، مسؤولة شؤون التَّنوع في الاتِّحاد، إنهم رأوا أن أشعار كيبلينغ «لاتناسب قيمنا»، مشيرين إلى قصيدته الشَّهيرة «عبء الرَّجل الأبيض»! وأوضحت أن «من المهم بالنِّسبة لنا تمثيل الطلبة السُّود والسُّمر، لذا شعرنا أن قصيدة روديارد كيبلينغ غير مناسبة»! وكتبت سارا خان، مسؤولة الاتِّحاد، على فيسبوك تقول إن عمل كيبلينغ «عنصري» يدعم الامبراطوريَّة البريطانيَّة، أمَّا قصيدة أنجيلو فقد اختيرت بوصفها “إرجاعاً للتَّاريخ إلى أولئك الذين اضطهدوا من جانب أمثال كيبلينغ لعدَّة قرون»! وقال متحدِّث باسم الاتِّحاد: «أخطأنا لأننا لم نأخذ رأي الطلبة في اختيارنا لتلك القطعة الأدبيَّة»! وأضاف أنه سيتمُّ تقديم فنٍّ «دالٍّ ومناسبٍ» في عموم المبنى في الأشهر المقبلة، و«كانت كتابة عمل أنجيلو على الجِّداريَّة بداية رائعة لهذه المبادرة».
ونبَّهت إدارة الجَّامعة إلى أن الاتِّحاد مستقل عنها، ولذا فإنه لا تعليق لديها على الواقعة!
الأحد
من ذخيرة الأمثال الشَّعبيَّة الطَّريفة التي يحلو لصديقي علي عسيلات، رفيق الزَّنازين، القيادي العمَّالي، وعضو اللجنة المركزيَّة للحزب الشِّيوعي، أن يحلِّي بها أنس مجالسه، المثل القائل «في بير ووقع فوقو فيل»! تذكَّرته، أمس، وأنا أطالع حادثة شاب جزائري «موقوف تحفُّظيَّاً» على ذمَّة حكم بمغادرة فرنسا لهجرته غير الشَّرعيَّة إليها! لكنه، بدلاً من أن يبحث عن وسيلة استئنافيَّة تخارجه من ذلك الحكم، راح يتسكَّع قرب مبنى المحكمة، ويقفز، بغتة، على امرأتين، مهدِّداً باغتصابهما! ولسوء حظه تصادف مرور قاضية بالمكان، فساعدت المرأتين على الهروب، فتركهما وقفز على القاضية نفسها، يمزِّق ثيابها، محاولاً اغتصابها، لولا أن بعض المارَّة سيطروا عليه، وسلَّموه للشُّرطة .. «في بير ووقع فوقو فيل»!
kgizouli@gmail.com