ضمن النوستالجیا عاودنى الحنین لرادیو صغیر بحجم الكف كنت اقتنیته من العتبة (في القاهرة)فى أول أيام الطلب. وقد ربطتنى صداقة عمیقة بذلك الجھاز السحرى الذى كنت أحمله فى الحل والترحال .. فى جیب البنطلون أو الجلابیة. كنت أعشق صوت ايناس جوھر وبرامج المنوعات الخفیفة التى درجت على تقدیمھا فلا أحول المؤشر عن إذاعة الشرق الاوسط حتى لو تطربقت السماء مع الأرض باستثناء الاستماع لنشرة أخبار مونتى كارلو فى الامسيات .
ویبدو أن ذاكرة المرء ترتبط بالمكان واحداثه وتعرجاته أكثر من أو شيء آخر .. إذ عندما أحاول استعادة أيام الراديو النواضر تتداعى صور عدیدة تراكمت فى الذاكرة والوجدان سواء كان ذلك فوق سطح الباخرة عشرة رمضان المنكوبة أم فى الفسحة أمام بیتنا فى فارسكى على سبیل المثال.
والموقع الاخیر كان یتوسط غابة من الرادیوھات منذ طفولتنا حیث شھدنا وھج المذیاع الذى كان یعد بھجة فارسكى الدائمة . رغم تعاقب السنین تحتفظ ذاكرتى باحجام واشكال والوان رادیوھات الناحیة كلھا وبخاصة الساتر القماشى الذى كان یتم توضیبه على ید ترزى محترف بغرض حمایة الرادیو من الأتربة والأوساخ.
الى جوارى كان رادیو الاسطى فؤاد المثبت على محطة بي بى سى، وعلى مقربة منه كان یلعلع رادیو فوزیة ابراھیم التى كانت تتابع بشغف المسلسلات والبرامج الفكاھیة فى الاذاعات المصریة.
وبجوارى ایضا رادیو جدى یوسف الذى كان معتادا على النوم خارج البیت فى تعریشة تحیط بھا شجرة نیم صیفا وشتاء. وقد كان معروفا عنه إرهاقه مؤشر الرادیو بالتجول بین المحطات .. وكان یحدث أن یبث جھازه نشید (أمة الأمجاد) عبر الاذاعة السودانیة فى وقت واحد مع نشید صوت العرب (وطنى حبیبى الوطن الاكبر یوم وراء یوم امجاده بتكبر) الذى كان یأتینا مع همسات النسیم من رادیو سعید نورى القادم من نواحى قنا بعد اغتراب طویل.
وكان جدى ابراھیم یملك رادیو متوسط الحجم ذو لون أبيض يتخلله الصفار على الأجناب . والغریب أننى كنت أظن أن جھازه كان مكرسا لصالح الفنان حمد الریح بسبب تكراره إذاعة اغانيه .وكان رادیو أستاذنا جلال صدیقا أثيرًا للبى بى سى .. ولا تزال ظروف جلب استاذنا جلال لاول رادیو محفورة فى ذاكرة شقيقه خالنا اللواء سید محمد طه حیث یقول : ان جلال كان قد نقل من مدرسة حلفا الغربیة إلى الجنوب عقب إخماد تمرد ١٩٥٥ وفى إجازته وھو قادم إلى البلد اشترى من الخرطوم رادیو یعمل بالبطاریة الجافة وقام بشحنه عن طریق البوستة . ويقول: ان جلال ذھب بصحبة مجمد عثمان فقیر الى بوستة دلقو فى اللیل حیث تصل عربة البوستة وبعد تسلمھما الرادیو بملحقاته ذھبا به الى منزل عمه شریف القریب من البوستة حیث تم تشغیل الرادیو لأول مرة ووجدوا المطرب الكبير احمد المصطفى يشدو باحدى أغنياته . فى صباح الیوم التالى نصبا ھوائى على صفیحتین فوق سطح الدیوان . ویختم سید بأنه كان مسئولا عن تشغیل الرادیو فى غیاب شقیقه جلال .
ویبدو أن ما یمیز فارسكى لم یكن السمعة التاریخیة للمكان او الإرث الكبیر الذى تركه الأجداد او وجود أهم حكیمین وأبرع اسطى بناء فى ربوعھا بقدر ما كان شغفھا بالحداثة التى احتضنتھا مبكرا بسبب انفتاحها واستعدادھا للتواصل مع العالم الاخر فى وقت كان الناس فى أماكن عدیدة یرون أجهزة تلك الأيام فجورا ورجسا وسط نداءات تحذر بعدم إدخال الشیطان إلى البیوت بدءا بالاسطوانات ثم الرادیو وانتھاء بجھاز التسجبل . فقد روت والدتى أنها وأقرانها كانوا فى طفولتھم یحفظون عن ظھر قلب العدید من الأغنيات وعلى راسها أغان خلیل فرح وخاصة خريدته (عازة فى ھواك ) بسبب استماعھم الدائم
لاسطوانة عمھا میرغنى محمد احمد . ومن الذكریات التى كانت تحكیھا عن تلك الفترة قیامھا وصویحباتھا بتحریف كلمات تلك الاغانى بسبب عدم معرفتھن باللغة العربیة مما تسبب فى مواقف محرجة لھن ومنھا أن جدھا لامھا عثمان دونة الذى كان قد تزوج حدیثا عاقبھن بالجلد بعدما استمع الیھن وھن یرددن أغنية غیر مفھومة فادعى إنهن قلن : عثمان ودارة فى الكبكوب ، وهى كلمة تحمل دلالات نسوية بحكم ان الكُبْكُوب
الشبیه بالساونا یقوم أصلا على الجلوس فوق كُوليد هو عبارة عن حفرة مبطنة بالفخار داخلها حطب طلح يحترق .وقد علمت مؤخرا أن إحدى أسطوانات العائلة موجودة فى الحفظ والصون بمنزل خالنا محمد احمد سید الذى لم یفرط فیھا وحافظ علیھا داخل صندوق محكم حتى مماته .
كانت أجواء فارسكى على الدوام مفعمة بالسماحة والاحترام والھدوء ویندر فیھا المواقف التى تسبب الازعاج والانفعال والغضب ولذلك نجح الرادیو فى مجتمعھا المحلى سواء كان ذلك متمثلا فى تطویر الثقافة والوعى او تحفیز الناس على التفكیر والابتكار عن طریق اضفاء جو مریح وسط اناس عرفوا اصلا بالھدوء الداخلى والروح المرحة ونشر الطاقة الایجابیة والتشجیع والدعم لبعضھم الاخر .كنت ترى فى عیونھم وھم یتحلقون حول الرادیو بنفوس صافیة وكریمة لیس مجرد الاستعداد للتواصل مع العالم الخارجى ، بل القدرة على ھزیمة الاحساس بالاحباط والعجز والخیبة . اذ مھما كان الرضا عن النفس موجودا الا ان ایقاع الحیاة فى قریة مھمشة تسیر حیاتھا بالفزعات یخلق واقعا تنعدم فيه مساحات المناورة بصورة تجعل الناس یشعرون أحيانا وكأن الحیاة تقف محلك سر ولا تسیر الى الأمام. فیرددون مع فوزیة أغاني مقدمة المسلسلات وقفشات نجوم الفكاهة غیر مبالین. يعززون بتلقائية وبساطة قدرتهم على اقتناص البهجة من ثنايا المأساة ساخرين من حياتهم ، بما يمكنهم من تقوية بنيانهم الاجتماعى واعلاء شعورهم بالمسئولية المجتمعية لتطوير مجتمعهم وترقيته فى وقت تلقى فيه الدولة الفاشلة مهمة الاهتمام بالمواطن فى بيئته المحلية وتنمية وصيانة خصوصيته وراء ظهرها وتتركه يواجه بفاعلية اهمال الدولة المتعمد لمتطلبات الحياة البسيطة ناهيك عن متطلبات العدالة وعلى راسها العدالة الثقافية ، عن طريق تبسم تجتمع فيه تفاصيل الجمال – فى وجه بعضهم – وعن طريق سرد حكاياتهم التى لا تخلو من الدعابة والخيال المحبب كانوا يمهدون الطريق للفعل اليومى القائم على العون الذاتى ، والحال كذلك وجد أولئك البسطاء ضالتھم فى الرادیو . وھكذا تشكلت سلطة الرأى العام فى فارسكى بین جنبات أكثر موقعین اجتماعیین یھیمن علیھما الرادیو ، كان أولهما أمام منزل الحاجة زینب عبد الرحمن والآخر فى راكوبة صالح سروج. ومن الذكریات المثبتة فى أرشيف ذاكرتى أننى كنت عند صالح سروج _ الذى كان یقول عنه الدكتور محى الدین صابر بأنه لو نال حظا من التعلیم لصار فیلسوفا عظیما _ وكان المطرب سید خلیفة یغنى فى مذیاعه فالتفت إليئ قائلا: واضح أن ھذا المطرب سمین لأن انفاسه تكاد تمزق الجھاز . ولأن الشئ بالشیئ یذكر فقد رأیت المذیع الریاضى عبد الرحمن عبد الرسول لأول مرة فى الخرطوم وھو یتناقش مع صدیقى الناقد الریاضى الكبیر الراحل حسن عز الدین _ بعد مصادقة صوته لسنین من خلال برنامج عالم الریاضة فى الاذاعة السودانیة _ والذى حاول تعریفنا ببعض وفوجئ بى أناديه باسمه وقال باندهاش : لا تقل لى إنك عرفته من صوته . وكان ردى أننى تلمیذ شاطر فى مدرسة الحكیم صالح سروج الذى علمنا خلق التصورات والتخیلات عن ملامح المذیعین والمطربین وكل من یطل من الرادیو !!! ومن الذكریات ایضا أنه رغم وجود اختصاصیین كثر فى إصلاح رادیوھات المنطقة مثل حیدر الحلبى المتجول إلا أن البعض فى فارسكى كان یتولى الأمر بنفسه . وكنت ترى بخارى يس يسارع لاصلاح اى رادیو یعانى من العطب وكثیرا ما كانت تشكو والدته من تطفله على أمعاء مذیاعھا واضطرت ذات مرة لتكلیفه ھو وعبد الرحیم أبوعلي بعلاج علته وكانت النتیجة أننا سمعناھا وھى بتصرخ بصوت عال ( مومراكروسا ) اى انھما جعلا مذیاعھا أبكما !! وقد لاحظت خلال بحثى عن تاریخ الرادیو فى فارسكى عن توزعه بین حقب وسیاقات تاریخیة . والمؤسف اننا لم نوثق لأحداث فارسكى بصورة شاملة أثناء حیاة خالنا المدردح مبارك سید حتى یتسنى لنا الوقوف على كیفیة تعامل الاولين مع أجهزة الاتصال بوقعھا الذى یفوق ما رایناه عند ظھور الانترنیت. وطبقا لخالنا
سید محمد طه تختزن ذاكرته صور الرادیو الأول والذى ارتبط عنده بمناسبتى زواج فى الناحیة . كانت الأولى قبل دخوله المدرسة وتحدیدا عند زواج ابراھیم عباس فقیر من آسيا محمود الجندى وكان جھازه من النوع الذى یعمل بالبطاریات السائلة الكبیرة الخاصة بالسیارات ما كان یضطرھم لأخذھا لشحنھا فى سوق دلقو بعد كل كذا یوم . ولأن العریس مكث بعد الزواج فترة تعدت الشھر حسب تقالید ذلك الزمان حیث تستمر الحفلات لمدة اربعین یوما شغل الرادیو الناس جنبا إلى جنب الطمبور والغناء والرقص.اما المناسبة الثانیة فقد كانت زواج عز الدین سید ابراھیم من علویة أبوعلي حیث جاء حاملا معه رادیو حدیث یعمل بالبطاریة الجافة ولا تحتاج إلى شحن، فقط ینصب له أريال هوائى فوق سطح المنزل ویثبت بعودین داخل ماعون ثابت ثم یوزن السلك الواصل بالعودین فى إتجاه معین ویتفرع منه سلك للرادیو.
من جھته، یقول استاذ أيوبيه محمد أيوبيه : أن ابراھیم عبد الله جلب معه من مصر فى اجازة له رادیو فلیبس ذو بطاریة كبیرة الحجم ما أثار دھشة الناس الذین تساءلوا كیف یتكلم ھذا الصندوق؟ ویقول أيوبيه انھم كانوا یقفون خارج البیت یستمعون لذلك الرادیو فى خوف ودون أن یفھموا الكلام الخارج منه باللغة العربیة وانه عندما توالت الأغاني والتمثیلیات ازدادت حیرتھم ودھشتھم إذ كیف یتكلم ویغنى ویمثل الصندوق حیث رافق ذلك إدعاءات كاذبة وسطھم حینما ذكر البعض انهم شاھدوا المغنى ووصفوا موقع جلوسه.. وارتبط ظھور جھاز التسجیل فى فارسكى بمحمد على ادریس الذى اشتھر بلقب الكویتى نسبة لعمله فى تلك الدولة الخلیجیة رغم أن أول من جلبه كان المھندس بدر مجمود الجندى الذى اشتھر بانه كان یدس الریكوردر وسط الناس فى الجلسات، ويجعله یلتقط ونستھم ویباغت بھا اصحابھا فى الیوم التالى مفجرا فاصلا من الضحك المستمر.
من الواضح ان جھاز التسجیل صاحبته مواقف محرجة منھا قیام خالنا محمد احمد باستيضاح خالتنا عائشة عن حضورها مع رھط من نساء الناحیة تسجیل أسرة الكویتى رسالة له فى شریط . وفى وقت لاحق وبعدما جعل الكویتى الناس یعتادون على جھاز التسجیل كنا ونحن اطفال ننقل تجمعنا للساحة التى تقع امام بیته بمجرد وصوله مع أسرته بغرض التقرب من جھازه وھو الآخر كان یحس بأن جھازه بات عنصرا اساسيا فى عملیة الترویح عن الناس فنقل نشاطه التسجیلى لراكوبة صالح سروج.
وكان یتیح للناس الاستماع كل یوم لتسجيلاته فى الیوم الذى سبقه حیث لم یترك أحداَ لم یوثق له، بدءا بسروج نفسه ومرورا بشریف وابراھیم ابوبكر وعباس جایرة واحمد اوشنتود وانتھاء بقفشات امین حامد الزبیر ولا ننس أنه وثق تدشین مشروع أقترى الزراعى الذى رافقته الصیحات المعبأة بالاغانى والمواویل.ومن ذكریات جھاز التسجیل فى فارسكى أننا كنا نستعجل العشاء للحاق بریكوردر أحضره على لبیك من لیبیا فى منتصف السبعینات .
كان الناس من مختلف الأعمار یتحلقون حوله وكان محمد یس یضرب الأرض ویقفز لأعلى عندما یغنى فنان الشایقیة محمد جبارة بینما كانت تستھوینا أغنيات كبوش وعبد الله الزبیر. على الرغم من ظھور اجھزة التسجیلات فى وقت مبكر كأداة توثیق الا اننا لا نعرف مصیر تلك التسجیلات المھمة. لیتھم وسعوا تلك التسجیلات لكى تشمل كل اقمارنا الراحلة رجالا ونساء وتوثق بشكل واقعى لحياتهم . وما اكثر من كانوا یستحقون تدوین حیاتھم . وكم یحزننى أننا لانجد أثرًا لمتمیزین كثر كان من بینھم سیدتان منحھما الله قوة خارقة فقد كانت احداھما تتمتع بقوة نظر جعلتھا تؤكد رؤیة شاى سادة یتم تقديمه للضیوف فى مناسبة داخل بیت فى سدلة بالضفة الغربیة. بینما كانت الثانیة تسمع صوت القطار فى ابو حمد !!!
رعى الله ایام رادیوھات فارسكى وشمل برحمته الراحلین
وتبقى فارسكى عطرا فواحا فى ذاكرتنا!!
الصورة: ازيار الماء الملحقة براكوبة صالح سروج وتبدو أمامه نخيل جدنا محجوب وبيته القديم.
كلام جميل من الذكريات …..
يا حليل ايام زمان
الله يعطيك العافيه استاذنا وردي